شهادات ومذكرات

ناصر سالم المقرحي: عميد الأدب السوداني

نوع من الأُلفة والتفاهم ينشأ ما بيننا وبين من نقرأ لهم، أو أن شئت نوع من الترابط الوجداني والتجاذب الروحي، حتى إذا ما قررنا أن نكتب عنهم يكون الأمر سهلاً ومُتاحاً لأننا نكتب عن شيء عرفناه وألِفناه، وفي زحمة قِراءاتنا وانشغالاتنا ننسى بعضاً ممن قرأنا لهم وتأثرنا بهم وتفتح وعينا على أعمالهم مبكراً فيأتي موتهم لينبهنا إليهم أو بالأصح ليُعيدنا إليهم ويُعيدهم إلينا بعد جفوة غير متعمدة وطول بعاد، ومن هَؤلاء العُظماء، الروائي والكاتب السوداني الراحل الطيب صالح .

بسيطاً ومتواضعاً عاش الراحل، ومثل شخصيته التي اتسمت بالوضوح والهدوء والدماثة والتعاطي بروية مع الأشياء، كانت كتاباته بسيطة وواضحة في الوقت الذي ابتعدت فيه عن السطحية واحتفظت بحمولتها العالية من العمق والرصانة والرؤية النافذة .

هكذا هو الطيب صالح الذي غادر السودان مبكراً ليتنقل ما بين فرنسا وبريطانيا حيثُ عمِلَ موظفاَ في الخارجية السودانية ثم مُحرِراً في القسم العربي لإذاعة البي بي سي البريطانية فترة من الزمن وليستقر هناك ويطل على قراءه ومتتبعيه من خلال زواياه ومقالاته ببعض المجلات والصفحات الثقافية العربية مثل مجلة المجلة ومجلة زهرة الخليج التي احتفظ فيهما بزاوية أسبوعية ومنها إلى قطر حيثُ تقلَّدَ للمرة الثانية منصباً في منظمة اليونيسكو كممثل لها  بمنطقة الخليج العربي بعد أن عمل أقليمياً لصالحها في باريس قبل تقاعده وإصابته بالفشل الكلوي حيثَ استمرت معاناته مع المرض إلى أن انتهت بوفاته، ليُدفن كما أوصى بوطنه في مدينة أم درمان بمقابر البكري، في جنازة مهيبة تليق بكاتب كبير شيعهُ فيها محبيه من رجالات الثقافة والفكر وبحضور الرئيس السوداني .

هكذا وهو يرسم من قبل المصير التراجيدي لبطله مصطفى سيعيد كأنهُ كانَ يخط مصيره ويضع نهايته دونً أن يدري فيعود في خِتام تطوافه الطويل وبعد طول اغتراب وارتحال إلى موئله ليحتضنه ثرى بلاده ويرقد رقدته الأخيرة بين أهله وذويه ومحبيه .

في وقتٌ ما فوجئ الروائي بالنجاح الكبير والأستقبال الرائع  الذي قوبلت به روايته الأشهر " موسم الهجرة إلى الشمال "  التي اقترنت بأسمه وعُرِفَ بها دون بقية أعماله الروائية مثل مريود وعرس الزين ودومة وحامد و ضوء البيت وغيرها .

وكانت بمثابة الدوح العظيم الذي أخفى الغابة بحسب تعبير أديبنا الكبير خليفة التليسي، فاحتلت هذه الروايات مرتبة أدنى في سلم اهتمامات القارئ، هذه الرواية التي أسقط البعض جزءاً من أحداثها ومجرياتها على شخصية كاتبها واعتبرها انعكاساً له لتقاطعها بأكثر من موضع مع سيرته الذاتية و هو الشيء الذي لم ينفيه الروائي، عندما عزفت بمهارة فائقة عل تيمة الأغتراب على المستويين النفسي والجغرافي، وتحليلها الموضوعي للصراع الحاد الذي مزّقَ نفسية البطل حينما تم وضعه في مفترق الطرق وملتقى الأهواء والرياح تتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال، ليجد نفسه متوزعا بين جذوره ودمائه الحارة التي تسري في عروقه منذُ الأزل وتناديه إلى مواطن الدفء الذي افتقدها طويلاً، من جهة وبين حياته الجديدة التي يلفها ضباب الشمال والبرودة بشقيها المادي والمعنوي في الغرب الرأسمالي، وبعد صراع حاد وقع البطل فريسة لهُ ينتصر نداء الجذور ويغلبه الحنين ليعود إلى موطنه بأمل أن يعود إلى نفسه التي ضيَّعها وأضاعته في الغربة، قبل كل شيء، ولكن هيهات لأن البطل بعدَ أن وجدت الغربة سبيلها إلى نفسه تأبى أن تغادره حتى وهو بين أهله وعلى أرضه، والبطل هنا يشبه إلى حد كبير بطل أحمد ابراهيم الفقيه في ثلاثيته في الجزء الذي تدور وقائعه في بريطانيا، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات النسائية للبطلين وهاتين الروايتين من الروايات القليلة التي درست وناقشت بطريقة فنية عالية علاقة الشرق بالغرب وبينت بالتحليل والتشريح فيما يلتقيان وفيما يختلفان أو يتصادمان كما يروج الآن، على مستوى القيم والأيديولوجيات ونُظم الحياة .

كل  هذه المعاناة الذاتية والضغط الهائل الذي تعرَّضَ له البطل أجاد الكاتب تصويره وتجسيده ورسمه بمهارة وبتقنيات روائية بسيطة، حيث يتم السرد هنا على لسان البطل تارة فيما يُشبه الأعتراف الطويل والإفضاء اللامحدود . وعلى لسان بعض الشخصيات المشاركة في العمل تارة أخرى مثل شخصية صديق البطل الذي عاش تجربة مماثلة وعاد بعد سبع سنوات من الدراسة في أوروبا حامِلاً في جعبته شهادة دكتوراه، والذي عرفنا من خلاله كل ما يحيط بهِ وبالبطل بدءاً بأفراد العائلة وانتهاء بأدق تفاصيل حياة أهل القرية .

وكما فاجأه النجاح فاجأتهُ القراءات النقدية الغزيرة والتأويلات التي وضعها النقاد عن عمله لأنها لم تخطر لهُ على بال عند كتابته لهذا العمل ومثلما أعجبَ ببعض تلك القراءات التي فتحت أمامه أفاق أخرى استهجن بعضها الآخر لأنها اشتطت كثيراً في نظره وحمَّلت العمل أكثر مما يحتمل، بل أن بعضها اندفعَ بعيداً في الغموض والإبهام والتعقيد و هو الأمر الذي لم تتكلفه وتتقصده الرواية التي كُتبت بطريقه بسيطة، ولم يُخفي الروائي عجزه عن التواصل مع هذه النوعية من القراءات التي لم تُضيف برأيه شيئاً إلى عمله مع تقديره لواضعيها وحُسن النوايا التي انطلقوا منها .

وعلى شهرته ومكانته في عالم الأدب وكدليل على تواضعه الجمّ، و هو الذي كان من المنتظر أن يُرشح لجائزة نوبل الآداب، كان الروائي لا يأنف من الأعتراف والإقرار بأنهُ لم تتاح لهُ الفرصة حتى يجلس إلى أو يقرأ كونديرا مثلاً، ليردف اعترافه بأن ذلك يعد تقصيراً منهُ، وذلك في سياق رده على سؤال وجِهَ إليه ذات لقاء حول رأيه في الرواية الحديثة أو التي تُكتب الآن والتي تخلت تماما عن مرتكزات الرواية التقليدية كالحدث والترابط وتسلسل الأحداث وتراتبية الزمن وغيرها لصالح مرتكزات أخرى كسرت من خلالها عمود السرد، والتي أفاد بأنه اطَّلع على نماذج منها بقدر ما استطاع غير أن الكثير مما قرأ لم يجد لهُ صدى في نفسه ولم تستسيغه ذائقته ذات التكوين المغاير ولم يعثر فيه على ما يبحث عنه، و هذا ما جعله دائما ينحاز إلى الكتابة التي تتخذ من الواقع مرجعية لها، هذا إن لم تنسج على منواله فتنطلق منه لتعود إليه في كل مرة دون أن تتورط في إعادة كتابته كما هو بطريقة تقريرية وبتناول مباشر، مستغلا الروائي في سبيل تحقيق حداثته الشخصية ومعتمدا عدة تكتيكات روائية وخصائص فنية ليس أخرها الشعرية التي طالما طبعت أعماله إضافة لنفحة الرومانسية التي غلَّفتها، وإقحامه للتراث الشفهي في صلب موضوعاته وغيرها من التقنيات والحيل الكتابية الأخرى، والأهم من كل ذلك هو معالجته وبطريقة فنية راقية لواقع المجتمع السوداني الذي ظل طويلا رهن الغموض والتجاهل عبر بعض النماذج التي أختارها بعناية .

 

ناصر سالم المقرحي

 

في المثقف اليوم