شهادات ومذكرات

بدر متشو: الذكرى الخامسة والثلاثون لمقتل زوجة نزار قباني بلقيس الراوي

badr metchu"ستظلُّ أجيالٌ من الأطفالِ ..

تسألُ عن ضفائركِ الطويلهْ ..

وتظلُّ أجيالٌ من العشاقِ

تقرأُ عنكِ .. أيتها المعلِّمةُ الأصيلهْ ...

وسيعرفُ الأعرابُ يومًا ..

أنهم قتلوا الرسولهْ ..

قتلوا الرسولهْ .."

نزار قباني

(بلقيس الراوي)، تلك الفتاة الجميلة، ذات الشعر الذهبي الطويل، والقوام الممشوق، والروح الآسرة... من حي الأعظمية ببغداد. كانت هانئة في عشريناتها حينما ملكتْ قلب "شاعر المرأة" نزار قباني، في إحدى الأمسيات الشعرية في بغداد عام 1962م.

أحبَّها فأحبته، لكن قصة هذين العاشقين جوبهتْ بالرفض أوّل الأمر، لأن نزارا اخترق عُرفا عربيا قديما في رحاب العشق حين تغزّل بعينيْ بلقيس الخضراوين؛ فقبائل العرب لا تزوّج بناتها من أي شاعر تغزّل بإحدى نساء القبيلة، وقد كان التاريخ الشعري الغزلي لنزار أكبر عقبة حالت دون تقبّل أهل بلقيس لزواجه من ابنتهم.

وبعد أن أضحت قصتهما قصة رأي عام، توسطت الدولة العراقية في وفد مكوّن من وجهاء القوم: وزير الشباب الشاعر شفيق الكمالي، ووكيل وزارة الخارجية الشاعر شاذل طاقة، وبأمرٍ من رئيس دولة العراق آنذاك أحمد حسن البكر،  لخطبة بلقيس من أبيها، فوافق والدها بعد ذلك وتزوجا في عام 1969م، واستمر الزواج حتى عام 1981م، وقد أهدت بلقيس الراوي لشاعر المرأة طفلين: زينب وعمر.

وقبل زواج بلقيس بسنة، تقدمت مع زميلاتها في ثانوية الأعظمية، إلى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الأردن، بطلب تدريبهن على حمل السلاح، وقبولهن مقاتلات في صفوف الثورة الفلسطينية، وقد تم لهن ذلك. وكانت هذه الحادثة سرًّا لم ينكشف إلا بعد موت بلقيس، فقد أخفتْ حقيقة انضمامها إلى صفوف الثورة الفلسطينية من زوجها، حتى سمعها على لسان الراحل ياسر عرفات بعد عودتهما من الجنازة.

وفي 15 ديسمبر 1981م كانت بلقيس الراوي على موعد مع الموت الذي اغتال شبابها وجمالها، كان نزار قباني على موعد مع الصدمة العظمى، نُسفت السفارة العراقية في بيروت، تلك السفارة التي كانت تشتغل فيها بلقيس، ونُسف قلب نزار عندما نزل الخبر عليه كالصاعقة، لم يصدق أنه فقدها للأبد. يقول:

"بلقيسُ.. كيف رَحلتِ صامةً

ولم تضعي يديْكِ.. على يدَيَّا؟"

ويضيف:

"بلقيسُ..

مذبوحونَ حتى العظم..

والأولادُ لا يدرونَ ما يجري..

ولا أدري أنا.. ماذا أقولْ؟

هل تقرعينَ البابَ بعد دقائقٍ؟

هل تخلعينَ المعطفَ الشتويَّ؟

هل تأتينَ باسمةً..

وناضرةً..

ومُشرقةً كأزهارِ الحقولْ؟"

ماتت تحت الأنقاض، فماتت معها القصيدة. يقول نزار في مرثيته الأشهر:

"نامي بحفظِ اللهِ.. أيتها الجميلهْ

فالشعرُ بَعدكِ مستحيلٌ..

والأنوثةُ مستحيلهْ"

بلقيس الراوي كانت قبيلةً من النساء في عينيْ نزار، هي التي جعلته يعود للكتابة بعد توقف مفاجئ دام لثلاث سنوات قبل مجيئها، وهي التي نفثت الروح في كتاباته، كانت بلقيس هي القصيدة، وبعدعا لا شِعر يُقال. يقول:

"البحرُ في بيروتَ..

بعدَ رحيلِ عينيكِ استقالْ..

والشِعرُ.. يسألُ عن قصيدتهِ

التي لم تكتملْ كلماتها..

ولا أحد.. يجيبُ على السؤالْ"

كتب نزار في نخلة العراق الطويلة قصائد رائعة خلدها التاريخ، لكن أشهرها وأجملها وأطولها "قصيدة بلقيس" التي ودّعها بها، وفضح فيها الأنظمة العربية التي تحترف الجريمة، وتغتال القصيدة، يقول:

"سأقولُ في التحقيقِ:

إني قد عَرَفتُ القاتلينْ

وأقولُ:

إن زمانَنَا العربيَّ مختصٌّ بذبحِ الياسمينْ

وبقتلِ كلِّ الأنبياءِ..

وقتلِ كلِّ المُرسلينْ.."

ويضيف متسائلا:

"هل موتُ بلقيسٍ...

هو النصرُ الوحيدُ

بكلِّ تاريخِ العربْ؟؟..."

ويصبح تاريخ العرب وحشا دمويا يكشف عن أنيابه كلما قرأ الشاعر شيئا منه، فيقرر نزار أن يقلع عن قراءة تاريخ أمةٍ تتخلف يوما بعد يوم. يقول:

"لن أقرأ التاريخَ بعدَ اليوم

إنَّ أصابعي اشتعَلتْ

وأثوابي تغطِّيها الدماءْ..

هانحنُ ندخلُ عصرَنا الحجَرِيَّ..

نَرجعُ كلَّ يومٍ، ألفَ عامٍ للوراءْ..."

ويلوم الشاعر نفسه لأنه نقل محبوبته من حي الأعظمية حيث عاشت هانئة، لتستقر معه في بيروت التي عشقتها وقتلتها دون أن تعرف أنها قتلت عشيقتها وأطفأت القمر:

"أتُرى ظلمتُكِ إذْ نَقَلتُكِ

ذاتَ يومٍ.. من ضفافِ الأعظميّهْ

بيروتُ.. تقتُلُ كلَّ يومٍ واحدًا منَّا..

وتبحثُ كلَّ يومٍ عن ضحيَّهْ"

نحتفي بالذكرى الخامسة والثلاثين لمقتل المناضلة العراقية في صفوف الثورة الفلسطينية بلقيس الراوي بكثير من الألم، ونحن لازلنا نشهد مثل هذه الأحداث في العالم العربي، بل ربما أقسى وأعنف. نحتفي بهذه الذكرى الأليمة وكلنا أملٌ في غدٍ دون دمٍ ولا نسفٍ ولا قصفٍ ولا مدفعيّة...

 

بدر متشو

 

في المثقف اليوم