شهادات ومذكرات

حكاية حياة: "فندق العراق الحديث"

ali almirhigلم تكن لدينا خيارات كثيرة للعيش والإستمرار بالدراسة في الكلية سوى أن نبحث عن فرصة عمل، كنا نسكن في فندق في بداية شارع الجمهورية من جهة باب المعظم، مُقابل القسم الداخلي للبنات، إسمه "فندق العراق الحديث"، لا يوجد فيه شيء حديث سوانا، نحن القادمين من أقاصي الجنوب، فقد كان أغلبنا من محافظة ذي قار.

كان فندقاً عتيقاً رغم وسمه بالحديث، علو سقفه يقترب من الأربعة أمتار، كنا نسكن فيه أنا وأخي صلال وإبن عمتي شاكر الذي كان يدرس في المعهد الطبي، قسم الأطراف الصناعية، القريب من سُكنانا. كان معنا زميل لي في الدراسة الإعدادية ولإبن عمتي شاكر في المعهد الطبي طيب المعشر، هو غفار شاكر محمود، فيه شيء من الترافة والوداعة التي خلت منها كثير من محطات حياتي، وربما كان الأمر مرتبط بطبيعة معيشة كلانا، فأبوه على ما أذكر كان مُعلماً في السبعينيات من القرن المُنصرم، وكلنا يعرف مستوى المعيشة الجيد للمعلم آنذاك، فكان في غفار بقايا هذه العيشة المترفة نوعاً ما، لم يكن غفاراً يُجيد المُزاح ولا يستحسنه كثيراً، وكنت أنا ممن يقضون يومهم بالمُزاح، ربما لأنني أجد فيه بعض من كسر رتابة اليوم الذي أنهكتنا فيه الدراسة والعمل معاً. لا أعرف أخبار غفار اليوم وكل ما أعرفه عنه أنه لا زال بخير ويحمل ذات الطيبة والبراءة التي عرفته بها.

كان الفندق مليء بطلبة المُحافظات الفقراء، وفيهم بعض ممن هم من أهالي بغداد حتى بعض العوائل التي أنهكها الحصار، فضاقت بها أرض الرافدين، فلم تجد لها من مأوى سوى هذا الفندق.

كانت شُرفات الفندق ولا زالت شُرفات أشبه بالشناشيل، إلَا أنه يحمل شكلاً معمارياً مُستمد من العمارة البريطانية كما أظن، ولربما يكون بناؤه أيام إحتلال البريطانيين للعراق، وقد شاهدت في ميادين القاهرة ما يشبه في عُمرانها وشكلها الخارجي هذا الفندق.

ما كان يلفت إنتباهي فيه، هو مراوح الفندق الضخمة، والتي كانت كما يُقال عنها أنها هندية، وفي إحدى الليالي وأنا نائم في الغرفة، شعرت بسقوط شيء وصوت مُدوي قُربي، ولكنني من شدة التعب لم أعر لذلك الصوت أهمية، إلَا حين إستيقاضي صباحاً، فقد وجدت "ريشتين من ريش المروحة السقفية الهندية على جسمي، دُهشت في حينها، كيف تسنى ليَ الإستمرار في النوم وقد سقط مثل هذا الجسم الضخم عليَ، ربما كان التعب والإجهاد تفسيري في هذه اللحظة، ولكني اليوم أُفسره باللامُبالاة في الحياة، فالوجود بها من عدمه سيان، لأنك ميت وأنهم لميوتون، حصار وعمل ودراسة وإحساس باللاجدوى.

كانت الكهرباء كثيرة الإنقطاع، فكنا ننام على سطح الفندق، فتصور المنظر، فندق فيه أكثر من عشرين غرفة، كل غرفة يسكنها أربع إن لم يكن أكثر، أي ما يقرب من المئتين فوق هذا السطح، ولو قلنا أن نصفهم لا يرغب بالصعود ويفضل البقاء في غرفته التي "يلعب بيها الهوى من كل حدب وصوب، في الشتاء وفي الصيف، فلا يوجد شُباك يُقفل، وإن كنا نستطيع إقفاله، فلا زجاج فيه"، فلم يكن من ينام في سطح الفندق أفضل حالاً ممن ينام في غرفته، والعكس صحيح.

كان الفندق مليء بالأرضة، والديدان وحتى "القمل" مرافقه الصحية لا صحة فيها، تبحث عن إناء "بطل بلاستك" كبديل عن إبريق، فندق بلا فندقة، خارج مراقبة وزارة الصحة، إن لم يكن خارج التاريخ.

كنا أنا وصلال وإبن عمتي شاكر، نغيب في يوم السبت والخميس إستراحة "أوف" بلغة الجامعة، خلال هذه الأيام الثلاث نذهب لمسطر العمالة للعمل في البناء أو النجارة أو "الخباطة"، بعد أن تركنا العمل مع أبي في نجارة سطوح المنازل "القالب"، رغبة منا في البحث عن دخل أفضل، لم تكن يومية العامل آنذاك تتجاوز الخمسة عشر ديناراً كأقصى حد، فلو حصلنا على ثلاثة أيام سيكون لدى كل منا مبلغ وقدره (45) ديناراً وبعض الأسابيع لا نجد عملا ليوم أو يومين، ولكن المبلغ كان جيداً في ذلك الوقت، لأن من لا يعمل من زملائنا لم يكن يحصل من أهله سوى (40) ديناراً أو ما يقرب في الشهر، فكنا نحن بالقياس لهم مُرفهين، بل وميسوري الحال (!!).

كان شاكر رفيق دربي وعيشي في (قلعة سكر)، فهو يتيم الأب، وعمتي تسكن في القرية، ونحن في المدينة، فسكن طيلة أيام الدراسة المتوسطة والإعدادية معنا نحن أبناء خاله، وحينما تم قبوله ببغداد، في المعهد الطبي قبلي بسنة سكن في بيت أبي في مدينة الشعب، وبعدها لحقته، حينما تم قبولي في كلية الآداب بقسم الفلسفة في جامعة بغداد، فكان سكننا في بيتنا الثاني، ولكن ضنك العيش وكثرة الأخوة وروح التمرد عندنا، جعلتنا نختار الإعتماد على أنفسنا وتخليص أبي من "مصاريف" لا طاقة له بها أيام الحصار، وقد تقبل الأمر على مضض، لثقته بنا، ولم نخذله يوماً، فصرنا مصدر فخر له كما أعتقد.

كنا في الأيام التي لا نحصل فيها على عمل، نحاول ترتيب معيشتنا بالطبخ في غرفة سُكنانا في الفندق، وكان شاكر قد أتقن طبخ "الباقلاء" بالدهن من دون بيض، فكانت هي فطورنا وغدئنا في كثير من الأيام، وحينما نستكمل الفطور أو الغداء يستذكر الله إبن عمتي شاكر على النعمة التي نحن فيها، فكنت أستهجن تحميده، فأقول له "هي تشريب باكلا وفركاعة، شتريد يسوي بنا بعد، يطيح حظنه أكثر، عساها إبختك، دكوم يططوه"، فيضحك هو بشدة ويقول ليَ " ظل إنته بهاي إسوالفك، وشوف الله شيسوي بينه النوب"، فقلت له "بس كوم من يمي وهيه تنعدل"، ولكن الفندق ساء حاله وإن تحسن حالنا بعض الشيء، مثلما ساء حال العراق، وإن بقيَ شاخصاً، ولو نطق لأخبرنا بحكايات أناس ما قدروا أن يُوثقوا بعض من مآسيهم...وللحكاية بقية.

 

في المثقف اليوم