شهادات ومذكرات

فالح عبدالجبار "الوداع الأخير"

ali almirhig

يمكن أن تكون للكلمات أجنجة حينما يُشكلها مُحترف القول والخطاب ليرسمها كأجنحة للحب ترفرف في سماء التجلي الروحي، ترفع المُخاطبين في مسرح الحياة الدنيا فيهيموا شوقاً في آفاق السماوات لينهلوا من منابع التسامي الدينوسيوسي للخروج من عتمة العالم الأرضي لشق شفق السماء وتجاوز المعنى والقصد في في كتابات عقول المُغرّبين من كبار الشعراء والفنانين والعلماء والمفكرين أمثال فالح عبد الجبار، لإنتاج معنى لحياة أخرى لمتلق هام عشقاً في الوطن ورسم لوحة حب لوطن تأكلت أطرافه من فرط الحالمين بإغتصاب الحياة، ونسيان "المكاريد" الذي ورطتهم السماء لتجعلهم أرقاماً في صناديق إقتراع المُتخمين.

وأنا لست ممن يُتقنون العزف على وتر الشجن ورسم لوحة الحزن والوداع أو الفناء، ولا أعرف مخاطبة الجمهور بـ "حديث النهايات" بعبارة علي حرب، ولا أُتقن إستحضار أو كشف ترنيمة العشاء الأخير، كما فعل "جيوفاني ماريا بالا" مهندس الكومبيوتر والموسيقي، حينما كشف عن النسق الموسيقي الذي يحكم لوحة دافينشي "العشاء الأخير". ولو كنت شاعراً أو تشكيلياً لجعلت من نوبة فالح عبدالجبار المُفاجئة على شاشة التلفاز، مُعلقة تُعلَق على جدار الأمل العراقي الذي ضيعه غباء العقل السياسي العراقي، التي جعلت من فالح عبدالجبار وكبار أمثاله، يسكنهم الوطن ولا سُكنى لهم فيه.

كان فالح عبدالجبار يحمل الوطن في شغاف القلب الذي يُعاني النوبة، فيتيه قلبه يصيح "عراق"، فـ "الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام، حتى الظلام، هناك أجمل، فهو يحتضن العراق"، وا حسرتاه، فالعراق ظلامه يحتمله السياب، وقلب فالح عبدالجبار يصيح من أثر النوبة: أهيم في هوى العراق، "نوبه شمالي الهوى، نوبه الهوى جنوبي"، فلم يكن شمال الوطن بأفضل حالً من جنوبه، ولم يكن فالح بأفضل حال منهما. فكان العقل فاعلاً وضاغطاً على القلب، فوصل حال العراق لأن يكون غربهُ أسوء حالاً من شرقه، بعد سقوط نظام صدام، ولأن قلب فالح عبدالجبار نابض بحب العراق بجهاته الأربع، فحينما تهاوت أرض العراق إصفر وجهه حينما ضعف قلبه "الحكومة"، ولأن صدمات الشحن المدني والمعرفي التي وجهها فالح عبد الجبار وكثير من مثقفيه لم تُجد نفعاً، ولم تستطع إرجاع نبض العراق بما هو مُتمنى، حينذاك لم يستطع تحمل قلب فالح قوة الصدمات، فكان الوداع الأخير.

كان فالح عبد الجبار يحلم ببناء مجتمع مدني لا أثر فيه ولا وجود لتداخل الديني بالسياسي، مجتمع خال من شرور الديكتاتاورية والنزعة الشمولية بكل تمظهراتها: في السياسة، أو الدين، أو المعرفة، أو الآيديولوجيا، فهو وإن كان يساري الهوى، إلَا أنه يساري يحلم بوجود مجتمع ديمقراطي، وفق النموذج البريطاني "الإشتراكية الديموقراطية" أو "الديموقراطية الشعبية" على غرار ما أنتجه "حزب العمال البريطاني"، وربما يكون هذا التأثر ناجم من دراسته في بريطانيا وتدريسه في جامعاتها. رافضاً لكل النزعات "التوتاليتارية" التي مثلتها الأنظمة الإستبدادية: الستالينية، والنازية، والفاشية، ومثيلاتها في العالم العربي، على رأسها نظام البعث الفاشي الذي حاربه سنين طوال منذ أن خارج من العراق عام 1978، مع بدايات بزوغ نزعة البعث الديكتاتورية وهيمنة (السيد النائب صدام حسين) على نظام الحكم في العراق، وتهميش دور الرئيس "الأب القائد" "أحمد حسن البكر"!!.

شكلت رؤيته هذه إمتداداً لرؤية "جماعة الأهالي" و "الحزب الوطني الديموقراطي" في العراق، أو هي إمتداد لرؤية محمد حديد وعبدالفتاح إبراهيم في الديموقراطية الشعبية".

حلم فالح عبدالجبار ببناء مجتمع مدني لا ديني يفصل الدين عن السياسة، يحترم حقوق الأقليات، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة في الحياة والحرية والتعليم. لقد كان يحلم بـ "إنتصار المواطن" على السلطة، وحماية الأقليات وسط الأغلبية "المسلمة" في المجتمع العراقي، إلَا أن العراقيين ربطوا مصيرهم بالعمامة وبرجل الدين، فسلموه أمرهم وجعلوا زمام المُباردرة بين يديه، فتلقفها معمموا العقول، فصمدوا وتناسلوا، لأنهم ورثوا أغلبية ساذجة يسودها التخلف والتجهيل بفعل الأنظمة "التوليتارية" المُتعاقبة، فكان الأغلبية ممن يؤمنون ببسيط القول وأكثره سذاجة، لأنه يُداعب وجدانهم ولا يُخاطب عقولهم، وهم بذلك راغبون وإليه مُنصتون ولقائله مُصدقون ومُطيعون، يُصور لهم جنات الخُلد وهم فيها ينعمون، فيه جواري وغلمان مُخلدون، فأي مجتمع أفضل من هذا يرومون!!، فالويل والثبور لكل من زين لهم الحياة الدنيا وهم بلمذات الآخرة يحلمون.

فصدق من قال "رحل الأفندي وبقيت العمامة"، فلقد رحل فالح عبدالجبار، وبقيَ كل عتاة الفساد في أرض السواد. إن هذا لمن سُخريات القدر!! وصدق من قال بـ "معجزة الإمامة وشعوذة الأفندي"!!، فقول الأفندي اليوم شعوذة، لأن في الشعوذة، إحياء لعقول العامة وتحريك، وهو يبتغي تسكين لها وإبعاد عن منطق العقل في التشكيك، لأن في العمامة مُعجزة في تسكين الناس وتعليم الطاعة، وفي شعوذة الأفندي خروج عن يقينيات التسليم وتحريك للعقل ودعوة لإتباعه. وليس من السهل في بلاد رجال الكهنوت أن يكون للأفندي حضور وفعل بقدر فعل التخدير الديني ووعوده لبسطاء الناس وهم الأكثرية بحياة النجاة والملكوت.

العمامة ليست مُقدسة بذاتها، فهناك ممن لبسوا العمامة وهم لطريق المعرفة من السالكين، فماذا نقول عن الطهطاوي، أو الأفغاني، أو محمد عبدة، أو الكواكبي، أو النائيني، فقيمة العمامة من قيمة صاحبها، لا يرتقي الشخص بالعمامة إلَا في أوساط السذج من القوم، فالفرد هو من يجعل للباس قيمته، وإن يُخدع بعض الناس بلباس شخص فإلى حين، فحتى الأفندي، فهو لا يخدع الناس بملبسه، فرُبَ صاحب عمامة أكثر مدنية من أكثر مُتبجحي لبس الأفندي، ولكن الذي يقصده فالح عبدالجبار بـ لفظتي "العمامة والأفندي" هو أن هناك من يرجع بالناس إلى زمان ماض لا قُدرة له على التعايش مع الحاضر، ولا طاقة تفسيرية عند أصحابه على التوليف بين مخزون الماضي ومُعطيات الحاضر، وهذا هو ما يقصده فالح عبدالجبار بصاحب العمامة، إن لبس كل لباس الأفندية أو تخلى عنه، وهو بقوله هذا قريب من فهم رفعت السعيد حينما كتب كتابه "عمائم ليبرالية"، أي أن مع يتلبس عقله بلباس المدني، فهو أفندي، وإن يكن قد لبس العمامة، ومن يتلبس عقله بلباس السلفية، فهو مُعمم وإن لبس لباس الأفندية. وإن يكن في الغالب الأعم أن لبس العمامة في مجتمعنا العربي الإسلامي من قبل أي شخص ما يفرض عليه نمطاً أو شكلاً من أشكال الإنتماء للمؤسسة الدينية ببعدها القُدسي وإمتدادها التاريخي عند الرسول وأصحابه وآل بيته، ولربما يكون من يلبس العمامة خال تماماً من هذه القُدسية.

 

 

         

في المثقف اليوم