شهادات ومذكرات

عراقيون مرّوا بموسكو (23): د. بشير الناشئ

ضياء نافعالدكتور بشيرغالب الناشئ واحد من أعمدة العراقيين المقيمين في موسكو منذ أكثر من خمسين سنة، وهو يتميّز باناقته وضخامته وحركته البطيئة وثقته العالية بنفسه وابتسامته الدائمة وعصاته التي يتوكأ عليها (والتي لا يهشّ بها على غنمه، ولكن من المؤكد ان له فيها مآرب اخرى، اذ انها تضفي عليه الهيبة والوقار !) . التقيته (من غير ميعاد كما تقول وحيدة خليل في اغنيتها العراقية الشهيرة)، ودردشنا طويلا، وها انا ذا اقدّم (محضرا وجيزا !!!) لهذه الدردشة الجميلة، لاني أرى فيها جوانب طريفة (وربما مهمة ايضا) للقارئ المهتم بتاريخ العلاقات العراقية الروسية بين الشعبين بالذات، وبالتالي فانها تستحق التوقف عندها، وهي جوانب تنسجم وتتناغم مع اهداف سلسلة مقالاتي حول العراقيين الذين مرّوا بموسكو .

درسنا اللغة الروسية (هو وانا) في العام الدراسي 1959 / 1960 في الكلية التحضيرية للاجانب في جامعة موسكو، الا انه وصل الى موسكو بتاريخ 10 /10 /1959، اي يمكن القول انه من اوائل الاوائل بين الطلبة العراقيين آنذاك، اذ وصلت وجبتنا الكبيرة (خمسون طالبا في طائرة واحدة من بغداد) بتاريخ 29 / 10 / 1959، حيث كان اثنان من وجبته ضمن من استقبلونا حينئذ، هما المرحوم أحمد السماوي وتحسين (نسينا كلانا اسم ابيه، ولا نعرف ايضا اخباره)، وضحكنا وقهقهنا عندما ذكرت لهم، انهما قالا لنا عندها في مطار موسكو، ان نناديهم الان بالروسية ، فاحمد اصبح احمدوف، وتحسين – تحسينوف (حكيت هذه الحادثة لاحد زملائي في قسم علم الاجتماع فقال انها مادة تصلح لتشريح نفسية الفرد العراقي !). وهكذا بدأنا نتذكر الزملاء القدامى، فحكى لي بشير، كيف زارهم المرحوم محمد علي الماشطة (الذي وصل الى موسكو عام 1957 وشارك في مهرجان الشباب العالمي آنذاك، وبقي للدراسة بعد المهرجان، وكان يدرس في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو)، وتحدّث معهم حول ضرورة تأسيس رابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي، وكيف انهم جميعا وافقوا على ذلك وساندوا هذا المقترح، ويرى د. بشير، ان ولادة رابطة الطلبة هو تاريخ تلك الزيارة، او بتعبير أدق، ذلك الاجتماع بالذات، وقد أيّدت انا ما قاله، وذكرت له اننا كنّا نسمي محمد علي الماشطة (واضع اسس) الرابطة، وسألته رأسا، لماذا لم يبرز في مسيرة الرابطة الطويلة، ولم يرشح نفسه يوما في قياداتها ولجانها، فقال نعم، لاني كنت ولا زلت بعيدا عن السياسة، وقد حافظت على استقلاليتي، رغم اني صديق دائم للحزب الشيوعي، وهذا يعني، ان النشاط في الرابطة - حسب مفهومه - هو عمل سياسي، ولم أرغب بمناقشته حول ذلك المفهوم غير الدقيق، اذ ان العمل الحزبي يختلف عن العمل في المنظمات المهنية . تابعنا دردشتنا، وحكى د. بشير لي تميّزه بالدراسة، وحصوله على درجات الامتياز دائما، ثم رجوعه الى بغداد بعد تخرجه في معهد الطاقة عام 1966، وكيف سنحت له الفرصة بالعودة لدراسة الدكتوراه عن طريق دائرة البعثات في العراق، وهكذا عاد الى روسيا عام 1967، وبقي فيها منذ ذلك التاريخ ولحد الان، وسألته – هل اصبحت روسيا وطنا له، اذ انه يعيش فيها حوالي 60 عاما من عمره، فقال انه يحن اليها عندما يسافر خارجها، ولكن في الفترة الاخيرة بدأ يكبر، بل ويطغي عنده الحنين الى موطن الطفولة والصبا، اي العراق ، وقال – ربما يحدث هذا بسبب تقدم العمر، فقلت له مبتسما – ما الحب الا للحبيب الاوّل .

انتقلنا بعدئذ في دردشتنا للحديث عن المهن التي مارسها طوال فترة حياته في روسيا، فحدّثني عن عمله مع الشركات الاجنبية في روسيا باعتباره ممثلا لها، وكيف انه سافر مرّة الى البحرين للتفاوض حول تطوير العلاقات بين الجانبين الروسي والبحريني، وكيف استقبله أمير البحرين نفسه، وحدثني ايضا كيف سافر الى استراليا للتفاوض حول صفقة لشراء اللحوم منها، اذ تبين انهم في استراليا يدمرون اللحوم الفائضة عن حاجتهم كي يحافظوا علي مستوى الاسعار... وحدثني د. بشير ايضا عن عمله في مجال الترجمة في بداية السبعينات، اذ تبين انه ترجم بعض الكتب العلمية عن الروسية، فابديت اهتمامي بهذا الجانب من نشاطه، لان موضوع الترجمة عن الروسية قريب من قلبي وعقلي، وسألته عن تقنيته في العمل الترجمي، فقال انه لا يستخدم اي قاموس عند الترجمة من الروسية الى العربية او من العربية الى الروسية، فتعجبت من هذا القول، ولم اتفق معه بشأن ذلك بتاتا، وقلت له ان هذا يتعارض مع المفهوم العلمي للترجمة، ولكن الخلاف طبعا لا يفسد للود قضية...

 

أ. د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم