شهادات ومذكرات

لطيف چيچان شاعر الصورة الفوتغرافية وفوتغرافي القصيدة

159 لطيف جيجان

للأسف تعرفت على المصور الفوتغرافي والشاعر لطيف چيچان (بعد تضخيم الجيم)، منذ مدة ليست بالطويلة، ولكني خبرت نزوعه الإنساني وتوجهاته المدنية وشغفه بمحبة العراق بكل ما فيه من قهر وألم.

يكتب الشعر الشعبي وكأنه يُعيد لنا الحس السبعيني لموسيقى الشعر والتذوق الشفاف للمفردة والحسجة الجنوبية، وتكثيف الصورة "فوتغرافياً" أو شعراً.

محظوظ من لحظته عدسة لطيف. فهي عدسة تتحلى بذكاء حاد بمقدار ما في حاملها من ذكاء.

هي عدسة لا تلتقط صورة للشخص، إنما هي تغوص في أعماق أرواح من تلتقط تقاسيم وجوههم لتكشف أو تستخرج الخفي النقي الضامر في نفوسهم، وإن كانت هي عدسة فيها كثير من التعقل، لأنها لا تختار كل راغب في أن يكون في أرشيف لطيف، وإن كان لطيف مُجاملاً يقبل بإلتقاط صورة لبعض من الذين لا تقبل عدسته بالتقرب منهم ولا تصوير ملام القُبح في جباههم أو أرواحهم، وكنهم لا يعلمون أن لهذه العدسة قُدرة على الكشف عن أعماق البغض الكامن أوالغائر في نفوسهم، فهي عدسة ذكية بذكاء حاملها، وحاملها يحتفظ بما كشفت عنه عدسته من غائر النفس عند هؤلاء، وهو يُباغتها مرة ويتناغم معها مرات، ينشر بعض مما لا تستيغه كاميرته ولا عدستها الساحرة، ولكن ما يبقى في ذاكرة الرؤية عندنا نحن الناظرين المُنبهرين في تكوين الصورة وإبهارها اللوني والكشف الوجداني بقية الخير والنقاء الذي تستحي منّا عدسة لطيف فتغيب عنّا مُدة، ولا ينشر لطيفاً إلا بعد مدة عما كشفت عنه عدسته من الجميل الضامر في نفس المُستعد للوقوف أمام عدسته، وغالباً ما تفضح عدسته عن لقطات من تعابير القُبح والجمال في نفوس الذين وقفوا أمامها.

أما ما كشفت عنه العدسة من ضامر القُبح في نفوس من أجبروه على إلتقاط الصورة، فهو لا يكشف عنه ولا ينشره على صفاحته لأنه لا يبتغي فضح القُبح، فهو ناثر للجمال في عالم يكفيه الكثير من القُبح مممن أفصحوا عنه في نفوسهم ونفوس أتباعهم في عراقنا المُعاصر.

أما في شعره من شعر النثر أو الشعبي، فصوره أجلى وأبهى. تنطق جمالاً وتشف

خجلى المفردات أمام لا أنها تعوم في سحر اللفظ، بل لأن المعنى أعمق ولا تحتويه المفردة ولا لا قُدرة تعبيرة للفظ عن فيض روح شعريته الناطقة بحب الجمال ونقد القُبح.

"إن الكوكب يزداد سوءاً

والقادمون بقدم واحدة

لا يعرفون القراءة والكتابة

لذا سأُخبئ مكتبتي

أي معنى يقصده الشاعر غير الضامر خلف الظاهر في القصيدة، فنحن نُحكم ونعيش تحت ظل حُكام لا ظل لهم ولا فاعلية وتأثير في المشهد السياسي العراقي لليس باستطاعتهم السير وفق مُقتضيات السير على قدمين على قاعدة "واثق الخطوة يمشي ملكاً"، ولكن بداية الخطو والسير يحتاج لقدمين يتحكم بهما الجسد في تحديد المسار، ولكن سياستنا عرجاء تمشي على قدم واحدة، هي هي قدم السبق في جعل الدين هو الحكم والحكمُ ورجاله هم القُضاة، وكل من خالف مُعتقدهم فهو أثم خصمُ.

لذلك نحن نسير بقدم واحدة، وبترنا القدم الأخرى، وأسفنا بعد زمن مضى من البتر أن القدم الواحدة لا إتقان فيها لسير محمودة عُقباه، مثلها كمثل اليد الواحدة لا تُصفق في حال غياب اليد الأخرى، فليس بالدين المؤلج وحده يحيا الإنسان، إنما في الفن والعلوم الأخرى، فهي من لها قدم السبق في التأثير والتغير إن كنا نروم تحسين إداء سياستنا المبتورة.

كان لصورة الجندي حضور في قصيدة لطيف:

هذا الجني

يعبث كثيراً بملابس الأطفال

في المدرسة

يُمزق دفاترهم أحياناً

يدفعهم للعراك

لأنه لم يكن جُندياً

سقط وفي رأسه

أطفاله وهم يضحكون

وكأن رأس الجُندي وسقوطه تعبير مجازي عن تهاوي جيل قادم أنتجته الحرب العراقية الإيرانية أو حرب الكويت أو حربنا مع داعش، فهي كلها حروب خسرنا فيها شباب، وقُطعت رؤوس جنود لم تكن لهم من ذكريات وصورة لحظة الوداع الأخير سوى ذكرى أمهاتهم وترنيامات حُزنهن وشجن العراق الأبدي، تُلاحقها وتختلط معها صور أولاد لهم، وزوجات غادرهن الحنين قبل أوان قطاف الزهر أو الاستمتاع في شم نسيم عطر المحبة الأبوي فيه عند أولاد حلموا بوارف وفيء الأبوة التي جنوا منها زرع الأجنة، ومغادرة الزارع قبل أوان القطاف. أو حنين العشق الذي إختزنته زوجات الجنود اللواتي رسمن لوحات المحبة في أخيلتهن وظللن يرسمن اللوحات في جنون الشبق لعشق "وحشي" خطته بنادق المُتمذهبين والطائفيين الذين بنوا عوالم لهم تُفض فيها بُكارات العذارى من حوريات العين وتشدق ولهو مع غُلمان الجنة التي وُوعدوا بها بحسب ما فهموا من تأويلات وتفسيرات فقهاء الفسق والفجور و "وعاظ السلاطين" من "المُتمجدين" من الذين إحتكروا الحقيقة الإلهية، وغيبوا بُعدها الرحب في الرحمة والمغفرة الذي عبر عنه لطيف بقوله:

يادليل العافية بحضنك أطيب

ومن أشوف عيونك الحلوة دوه

لو جنت محتاج للحب والأمان

لو ظلام يصير وياهن ضوه

ويقول في قصيدة أخرى:

أشتهيك مثل جامع مال الأول

ينشف عيون اليتامى

وهو يقره الفاتحة بأركانه

ليعود للصورة "الوطن"، ليكشف عن زيف من حكموه بقوله:

وطني ربما

قطعة أرض قُطعت

حسب رغبات

بعض المهووسين بالذهب

أو الجوامع

ليُكمل المعنى في مقطع شعري من الشعر الشعبي بالقول:

يا دليل العافية الراحت وراك

وتاهت بوكت السحور

من فطر كلبكَ قصد رمضانها.

ولعريان السيد خلف ومظفر النواب ذهب القصيدة الجنوبية و ألقها حضورها تأثيره الواضح في البناء الشعري للقصيدة وتكثيف الصوري في "فوتغرافيا" الشعر عند لطيف:

يالمطشر خرز كهرب

ألمك بالحلم نجمات

وأحطك بالكَلب نيشان

لا تفتل

ولا بيه أجيسك طيف

وألكة ولاية بعيونك

أريد أسكر يالمعدل

وأضيعن بالرمش

والعين

وبحضنك

أموت وهم أرد أعدل

أشمهن شهكة النعناع

وألكه لركَبتك معبر

وتدلل

على عيونك أسولف

قصة وي خصرك

على الشامات بلكي

أندل

يا مزة ترافة أسكر

بملكَاك

وأتقندل وأتمندل.

وفي جُلَ القصيدة تجد تسيد لمفردات عريان وتوظيف لا يخترق منظومة عريان بقدر ما هو يغوص فيها للكشف عن كنوزها اللفظية ومُفرداتها المُكتزة بناءً ومعنى:

(وياخذك غيك ..خرز خلخال..تطشر وألمك)

....

(خاف تطشر ولك..وشلون ألمك)

....

(خاف تطشر خرز..وشضلون ألمك)

( وتسكر بدمي) (قصيدة الزعل لعريان السيد خلف).

(يا لمطشر خرز..ألمك حلم نجمات) (لطيف).

أريد أسكر يالمعدل..وأضيعن بارمش والعين) (لطيف) هي خلطة وعجن ذكي لمفردات مظفر النواب وعريان السيد خلف، لا سيما في استخدامه لمفردة (كهرب) بقوله (يالمطشر خرز كهرب)، فمفردتي (المطشر وخرز هما مُفردتان من معجم قاموس عريان الشعري، وقد بينا ذلك، أما الكهرب فهي من مفردات معجم مظفر النواب بمقطع من قصيدته "ليل البنفسج"، بقوله في إحدى مقاطعها التب غناها ياس خضر بألحان الموسيقار طالب القره غولي: (شلون أوصفك..وأنت كهرب).

أما مفردة النعناع التي استخدمها لطيف فقد جاءت متناغمة مع مقطع من قصيدة من قصائد عريان السيد خلف بقوله: (ولا غاوي ولذيذ وتشبه النعناع) "قصيدة عريان (مغرور)"

لطيف يقول: "أشمهن شهكة النعناع".

ترافه وليل..ودك ريحان.. يسمر لا تواخذنه "مظفر"

لطيف: "يا مزة ترافة أسكر"

جفنك جنح فراشة غض

وحجارة جفني ولا غمض (مظفر)

لطيف: (وأضيعن بالرمش والعين).

مفردة (أجيسك) طيف في قصيدة لطيف، فيها حضور لمفردة النواب بقوله:

من ردت أجيسك جست روحي وفرفحت.

ولكن هذه القراءة هي للكشف عن مدى شاعرية لطيف في التصوير الفوتغرافي الذي هو نتاج عدسته خلقاً وإبداعاً، وعن عمق قراءاته وثقافته الشعرية، لا سيما في تماهيه مع القصيدة السبعينية بروحها ووجدانها تماهياً وإعادة إنتاج لألفاظها المُعبرة عن مكامن الوجدان والعاطفة العراقية التي غيبتها الحروب المتوالية.

كان لنتاج "عريان السيد خلف" و "مظفر النواب" عمودي قصيدة الشعر الشعبي، أثرهما في بناء قصيدة لطيف في الشعر الشعبي، ولم يكن هناك كبير حضور وتأثر ـ كما أظن ـ بقامة القصيدة الشعبية العراقية الثالث "كاظم إسماعيل كاطع"حاولت التنقل في عوالم المصور الفوتغرافي الشاعر لطيف، فوجدت لطافة وترافة في شغفه في التصوير أو في إنتقائه للمفردة الشعرية، لذلك كان هو محطة من محطات اهتماماتي لتميزه في جوانب ثقافية وفنية، فهو مُتعدد المواهب، روحه المؤنسنة طاغية على تذوقه للفن الفوتغرافي وللشعر بكل تمظهراته.

لمن يرغب بقراء مقالنا هذا في صحيفة المثقف، فليدخل على الرابط التالي:

 

علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم