شهادات ومذكرات

حازم طالب مُشتاق عاشق العروبة الحالم

علي المرهجحين دراستي في قسم الفلسفة بجامعة بغداد، كُنت أشاهد شخصاً بلباس أنيق وإن كان يغلب عليه السواد، يركب سيارة (الفولفو) سويدية المنشأ، وأظن أنه مُعجب بهذه السيارة لأن السويد بلغتها تنتمي إلى فرع من فروع اللغة الجيرمانية، وهي سيارة جميلة ونظيفة بشكل مُدهش. كان الشخص الذي ينزل منها مُهتم بأناقته، تشعر أنه من باشوات العصر الذي نُسميه اليوم بالجميل، يلبس اللباس الأسود، قميص أسود وبنطال أسود، وكلاهما ملابس من ماركات عالمية كما أحسب، وكان حينما ينزل من سيارته (الفولفو) يحمل في يده سيكارة (الكنت) ولا تفسيرعندي لاعجابه بهذا السيكار، رغم أنها من بلاد أنكلو سكسونية، يكرهها! إنه حازم طالب مُشتاق، أستاذ الفلسفة اليونانية بجامعة بغداد

لم يكن يتجاوز الستين من العُمر، يمشي مُتبختراً، مرحاً من فرط ما فيه ما يمتلكه من غنى عائلي ومعرفي، فهو ابن سفير العراق في تركيا أيام الملكية، ومن بعده هو شخصية عامة، ترأس البنك الدولي العربي التابع لمؤسسة عبد الحميد شومان، الفلسطيني الأصل، الأردني الجنسية، رجل الأعمال الذي أسس البنك العربي في القدس بفلسطين، البنك الأهم عند كثير من رجال الأعمال العرب بعامة والفلسطينيين على وجه الخصوص.

كان مكتب أستاذنا حازم طالب مُشتاق في الطابق السُفلي حينما انتقل قسمنا من بنايته القديمة المُجاورة لقسم علم النفس، إلى بناية جديدة تتوسط قسم الإعلام وقسم اللغة العربية، وكان هناك رواق بين هذه الأقسام يستطيع الأستاذ أن يركن سيارته فيه، وهو برشاقة وتباه يركن سيارته لينزل منها، وبعدها ليتوجه لمكتبه، فيصرخ بأعلى صوته (ثيجل)، وهو فرَاش القسم الذي يصنع أجمل الشاي ويستلذ به إشتراكيو القسم وأرستقراطييه وطُلَابه، وقد كان حازم مُشتاق ينطق أسم (ثجيل) (ثيجل) على وزن (هيجل)، فيقول في ألمانيا عندهم فيلسوف كبير هو (هيجل) ونحن في العراق عندنا فرَاش لا يُجارى، وأمر القسم بيديه، وهو (ثيجل).

بعد أن تجاوزنا المرحلة الأولى كان هُناك درس في المرحلة الثانية بعنوان "فلسفة التاريخ"، وبعد أن دخلنا القاعة ونحن بانتظار طلَة الأستاذ علينا، وإذا به صاحب اللباس الأنيق، وباشا (الفولفو) المُمسك بسيكارة (الكنت البيضاء)، وبعد أن درَسنا الحصة الأولى، وجدنا أنه يحمل في تماسكه وثقته العالية بالنفس تاريخاً أسرياً عميقاً، وهو وإن درَسنا فلسفة التاريخ إلَا أنه كان يهوى ويعشق الفلسفة اليونانية وقرائتها بمصادرها الأصلية، فقد كان يُتقن اللغة الأنكليزية أيما إتقان، وكان من المُغرمين بساطع الحُصري الذي يرى فيه أنه (مُهندس الفكر القومي)، وقد تماهى حازم مُشتاق مع الفكر القومي وتبنى أطروحته لظنه أنه فكر له مبررات وجوده في رابطة اللغة والتاريخ المُشترك.

تأثر كثيراً بفكر النازيين القومي، وكان يرى في مُتبنياتهم الفكرية إمكانية استنهتض نزعة تطبيقية عروبية تستمد من النازيين ثقتهم بأنفسهم وتاريخهم بوصفهم بُناة حضارة، والعرب له ماض مجيد يُمكن له أن يكون حالة نهضوية نستمد منها العزم في صناعة وجودنا اليوم.

مرَة ونحن في الحصار، صاح علي وهو في قاعة الدرس وأنا أمرَ من أمام بابها، عليَ بصوت عالٍ، (علي، شوفلي جكاير كنت، أنه أخرج)، أي أصرف، ولأن الحصار طال السكائر، ولأنه من الصعب في هكذا حال أن يحصل على سيكارته المُفضلة، فقد صمتت لبُرهة قصيرة، وقلت له أستاذي أنا أبيع الكُتب، ولا علم ليَ بعالم السكائر؟، فأجابني (ما أعرف، شوف حلَ)، ولا أُخفيكم سراً لم أجد له حلَ لأن لا علم لي فعلاً بعالم السكائر.

كان صوته جهورياً، ومتفاعل مع الدرس حد نسيان نفسه وطريقة أدائه التي ربما لا يستسيغها كثير من الطلبة لكثر ما فيها من صُراخ يشي بوجود ألم يعتصر نفس الأستاذ بوصفه صاحب رسالة.

لم يكن يُدرَس كما أظن بقدر ما كان تلقين طلبته رسالته الأيديولوجية في تصدير رؤيته العروبية، وبالمناسبة هو لم يكن بعثياً، إنما كان قومياً عروبياً.

لم يكن لنا نحن الطلبة القُدرة على الاعتراض، أو النُطق وحتى الهمس ببنت شفه على معلومة يُقدمها، لأنها هي الحقيقة التي لا بد لنا من القبول بها، فهو نازي الهوى، (وأستخدم هُنا مفهوم النازية بوصفه فكر يروم بناء أمة) عروبي النهج!

درّسنا فلسفة التاريخ، وكان يحتفي بطالبٍ ويمنحه أعلى الدرجات في السعي حينما يجد ويجتهد لمرّة أو مرتين في التحضير والقراءة، فمنحني لقب (معفوٍ) لأنه وجدّ فيّ نباهة ومحة لدرسه، فحصلت على سعيّ بمعدل أربعين من أربعين لأنني أثبت له مقدار شغفي بالفلسفة ودرسه!، وما تبقى ستين من المائة سأحصدها بمنجل الوعي الذي منحني إياه شارع المُتنبي، سُكناي وعشقي الأزلي.

ملبسه الأسود كما عرفت فيما بعد مُستمد من تأثره بالفكر النازي الألماني، فقد كان شغوفاً به وبإنجازات (هتلر)، وهو كان إلى يوم مماته من دُعاة الفكر القومي.

لقد كانت قادة الأمن الخاصة النازية تلبس اللباس الأسود، أو ما سُميَ بلباس (الأس أس) وهو اللون الألماني التقليدي، وقد كان فدائيو صدام يلبسون هذا اللباس، واليوم يلبس هذا اللون في العراق ممن هُم من دُعاة التبني لقضية الإمام الحُسين (ع) الذي كان اللون الأسود رايات لمن هم مع الحُسين أو ضد أتباعه، فقد كانت رايات (داعش) ولا زالت راية سوداء!.

كان أبوه سياسياً مُميزاً في الحُقبة الملكية، وقد تقلَد في أواخر حياته منصب سفير العراق في تُركيا، ومن قبل كان قُنصلاً في القُدس، وقد كان قريباً من حكومة (رشيد علي الكيلاني) التي كانت مؤيدة من الألمان، وقد شغل منصب مُدير البنك المركزي العراقي عام 1945إلى عام 1958، وقد وصف بأنه مُدير بنك ناجح، وقد نشر مُذكراته بعنوان (أوراق أيامي) الصادر عن دار الطليعة ببيروت 1986.

من كُتب حازم مُشتاق "المنهج الفلسفي للرفض العربي عام 1975"، و "فلسفة الرفض، ألفه بالإنكليزية عام 1975" و "المنهج التاريخي من المفهوم الأيديولوجي إلى المفهوم الاستراتيجي" و"من الكون إلى الإنسان في الفكر اليوناني والتاريخ الفلسفي" و "الجمر والرماد، مشكلات أساسية في الفكر العربي المُعاصر، عام 2008، و "أبو خلدون ساطع الحصري: المُهندس التاريخي للفكر القومي"، وكُتب أخرى.

إلتقيته في عمان عام 2004، وهو كعادته (باشا) في جلوسه وكلامه وثقته بنفسه حدَ الإنزعاج عند من لا يعرفه، ولكنني أعرفه جيداً وأعرف مقدار ما في قلبه من حُب لطلبته، فما أن إلتقيته وحدثته وذكرته بحوادث لها ذكرى مُشتركة بيننا، وهي بسيطة، فأنا كُنت طالباً، وهو أستاذ مُميز، ولكنه كان مُحباً لطلبته، وقد ذكرته بحادثة كُنت قد استعنت به لقضائها ليَ، ففي علم 1991، كُنت طالباً من طُلابه، وكنت أعاني شظف العيش، فرغبت بالتأجيل، ولم تكن لي علاقة طيبة برئيس القسم آنذاك، فهو تكريتي مغرور بنفسه، من جماعة (البرج العاجي) الذين يهيمون عشقاً بفلسفة أفلاطون المثالية، لكنك لن تجد لها تطبيقاً في سلوكه على أرض الواقع.

وبعد أن شرحت لأستاذي حازم طاب مُشتاق مُعاناتي، أظهر(الباشكيرة) كما يُسميها هو بلهجة بغدادية، وهي عبارة عن منشفة صغيرة يُجفف بها عرق أيام الحرَ، ولكنه هذه المرة جفف دموعه حين شرحت له حجم ما أعيشه من شظف العيش، حتى أنني كدت أبكي على بُكائه، فصرت أخفف عنه ما يشعر به من ألم وكأنني أنا المُشتكى إليه وليس الشاكي، وبعد برهة قصيرة أخذ يتمالك أعصابه وذهب لرئيس القسم الذي رفض من قبل الموافقة على تأجيلي لعام دراسي، وبعد مضي أقل من ساعة عاد لي أستاذي ووجهه معصور بالألم، وقد عرفت فيما بعد أن رئيس القسم قد رفض توسطه، لأنه أخبره أن هذا الشخص ضد الحزب والثورة!، لا لشيء سوى أنني كُنت كثيراً ما أشاكسه في القاعة لهجة جنوبية لا يستسيغها رئيسنا، أقصد رئيس القسم، لأنه بحسب رأيه صورة من صور التعبير لرفض النظام آنذاك، لأنك إن كُنت تروم توفيقاً في حياتك في ذلك الزمن فعليك أن تُبدل (الجا) الجنوبية برديفتها بلهجة المناطق الغربية، والشمالية الغربية (عجل)، أو ببديلها باللهجة البغدادية (لعد) وهي أهون وأمض عندهم، وستكون من الموثوق بهم حينما تضم المجرور، وتستخدم كلمة (يا ول)، وإذا أتقنت استخدام (دحج) فأنت من الذين لا غبار عليه ولا هُم يُسألون.

وبعد حين من الزمن بعد أن غادر أستاذنا حازم طالب مُشتاق، بيعت مكتبته بأبخس الأثمان، وكانت مكتبة مُكتنزة بأمهات المصادر عن الفكر الألماني النازي، وعن هتلر، وكثير منها كان عن الفلسفة الألمانية، وقد تمكنت من شراء بعض منها، ولكنني من شدَة العوز آنذاك لم أستطع الإبقاء عليها!.

توفيَ أستاذنا في أرض المهجر بعمان عام 2016.

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم