شهادات ومذكرات

ابو بكر يوسف.. رجال تموت ولن تموت!

ميثم الجنابيالأحياء تموت. وهي حالة محتومة للوجود نفسه. فهي حركة دائمة للصيرورة والعدم. والإنسان جزء منها. غير أن هناك فعلا من يموت ولن يموت، بمعنى تلاشي الجسد وبقاء الروح. وأبو بكر يوسف ينتمي لهذا النوع من الرجال.

إن فقدانه مؤلم للقلب لكنه يستعيد في الذاكرة حقيقته كإنسان ومبدع. فأبو بكر يوسف روح من أرواح الثقافة العربية المعاصرة. ويعرف حقيقته من يعرفه عن قرب.

لقد كان ابو بكر وما يزال وسيبقى قريبا إلى عقلي وروحي لما فيه من شخصية غنية نقية جميلة. ففيه يمكنك رؤية كل الابعاد الجميلة في الشخصية المصرية العربية: الهدوء والوداعة والبشاشة وصدق الضمير. كلما كنت أراه، أرى فيه تجليا لشخصية الإمام محمد عبده، رغم فارق المظهر. فقد كان ابو بكر وسيما جميلا اسمرا ترى في كل ما فيه صعيد مصر وتاريخها وتراثها.

اتصلت به قبل شهر، وكان في صوته نبرة اقرب ما تكون إلى صوت الوداع الأخير. واتصلت به قبل اسبوع تقريبا، لكنه لم يرد. وهذه هي المرة الأولى التي لم يرد فيها على اتصالي. وعموما هي ليست من صفاته. فقد كان على الدوام فرحا بي ويخاطبي بعبارة "يا ميسم! يا حبيبي". وأنا اقابله دوما بالود العميق والاحترام الكبير. وقد وخزني قلبي.

كان ابو بكر ودودا رقيق الروح هو تجسيد لمعنى وقيم الآداب النبيلة. لكنه كان في الوقت نفسه حازما وشديد المواقف عند الضرورة. وهي صفات يصعب رؤيتها لمن لم يراه على حقيقته. كما انه كان نشطا بمعايير الاجتماع والمواقف السياسية ويتمتع بقدرة كبيرة على الإدارة والقيادة النبيلة والسليمة. وأتذكر الآن الحادثة التي جرت قبل حوالي عشر سنين أو اقل بقليل أو اكثر عندما جرى ترشيحي من قبل الحاضرين العرب لرئاسة الهيئة التحضيرية لإنشاء منظمة للعرب المقيمين في روسيا. وقد كان ذلك بالنسبة لي تلك مفاجئة غريبة! اذ انني كنت آخر من أتوقع هذا "الانتخاب". وعموما كانت هذه "المهمات" بالنسبة لي غريبة ولا تستجيب لشخصيتي، مع ادراكي العميق بان من الضروري أن يكون في "قيادة" الناس من هو اصلحهم لهم. لكنني كنت وما ازال انظر الى الناس بعين الوداد. وهذا مبدأ لا يصلح للإدارة. فالإدارة تستلزم سعة الصدر والحنكة والمساومة والشدة والعنف والاكراه، أي كل الخليط الضروري للحياة السياسية، اضافة الى الاستعداد للقيام بذلك. وقد كان ابو بكر من بين الجالسين الى جانب عدد كبير من الاشخاص الطيبين والأكفاء لهذه المهمة. لكنني طلبت من القاعة الاعتذار بشرط توكيل المهمة لأبي بكر يوسف. ففيه تتجسد كل هذه الصفات مع نبله العميق وروحه الاخلاقية المتسامية.

إن لأبي بكر يوسف عدد كبير من الخصال الشخصية ولعل من بين أهمها هو شخصيته الإبداعية في مجال الترجمة والكتابة الأدبية. فقد قيل عنه الكثير في مجال الترجمة. وهو بالفعل من بين أهم المترجمين العرب من الروسية إلى العربية في مجال الأدب. ويكفي كونه من ترجم الأعمال الكاملة لتشيخوف. لكنه اضاف للمكتبة العربية تراجم الكثير من الشخصيات الأدبية الروسية الكلاسيكية والمعاصرة الكبرى. 

اما في مجال الكتابة الأدبية، فقد كان ابو بكر مقلا فيها، لكنها حالما يكتب فإنها تنضح كل ما فيه من معاناة القلب والذاكرة والعقل النقدي. فقد كنت شخصيا والدكتور نوفل نيوف نطلب منه و"نجبره" على الكتابة. وقد اختار في وقتها كتابة مقالات أدبية جميلة وعميقة عن الشخصيات الأدبية العربية الكبيرة التي عاشت في موسكو. وكنا ننشرها في "الكتاب الدوري" الذي كان يحمل عنوان (رمال). وهو محدود العدد (الف نسخة). لكنه توقف بسبب انفراط هيئة التحرير التي كنت اترأسها. فقد سافر المرحوم جلال الماشطة الى العراق، وتبعه الدكتور نوفل نيوف الى الشام، وبعدها الى كندا! فقد كان الكتاب متوقف اساسا علينا (انا ونوفل). حيث كنت اخذ على عاتقي كل ما له علاقة بالأبحاث الفلسفية والفكرية والسياسية والتاريخية، بينما كان يأخذ نوفل على عاتقه كل ما له علاقة بالأدب من دراسة وترجمة. وبعد سفر الدكتور نوفل اصبح من الصعب الاستمرار بها، لأنه لا وجود لشخص انذاك (والآن اكثر) من يمكنه إن يقوم بهذا المهمة. فالدكتور نوفل من ابرع وأدق المترجمين العرب المتأخرين عن الروسية. ويرتقى في دقة ترجمته الى مصاف ابو بكر يوسف نفسه. بينما ظروفي الشخصية العلمية والعملية تجعل من الصعب القيام لوحدي بهذه المهمة، مع انني كنت اتحمل وزرها الأكبر.

انني اروي هذه الأشياء فقط للوصول إلى فكرة مفادها، إن كل هذه التعرجات التي جرت كانت تحمل في ثناياها اثرا مهما بالنسبة للذاكرة والوعي والإبداع الذي ترك فيه الدكتور ابو بكر يوسف بصمته القوية وذلك من خلال كتابته لسلسلة مقالات غاية في الجمال والروعة عن الشخصيات الأدبية العربية التي عايشها في موسكو مثل غائب طعمة فرمان وجيلي عبد الرحمن ونجيب سرور.

ووفاء لذكراه جمعتها من (رمال) وانشرها كما هي لكي يرى القارئ فيها أولا وقبل كل شيئ شخصية ابو بكر يوسف نفسه. ففي تصويره لغائب وعبد الرحمن ونجيب يمكن رؤيته هو. كما اننا نستطيع من خلالها رؤية أسلوبه الأدبي الرفيع وروايته الشخصية للأحداث بطريقة خلابة ومؤثرة ترتقي في اعتقادي إلى مصاف الأدب الرفيع.

 

ميثم الجنابي

...................................

أدباء عرب في موسكو

غائب طعمة فرمان

تعرفت بغائب طعمة فرمان منذ اكثر من أربعين عاما، وعلى وجه التحديد في صيف عام 1969، وها قد مر عشرون عاما على رحيله المفجع، وبذلك اكون قد عاصرته وعايشته زهاء عشرين عاما في موسكو، وقد توافقت الظروف واراد القدر ان يسعدني مرتين بالعيش الى جوار هذه الشخصية الرائعة. مرة بمجاورته في السكن، ومرة بزمالته في العمل. لقد شاءت محاسن الصدف ان يكون مسكني فوق مسكنه لعدة سنوات في عمارة تقع قرب مترو  الجامعة، وشاءت الصدف ايضا ان التحق بالعمل في دار (التقدم) للنشر حيث كان يعمل غائب، ثم انقسمت دار (التقدم) الى دارين ، فظهرت دار (رادوغا) لنشر الكتب الادبية ، وانتقلنا معا ومع بعض الزملاء الى الدار الجديدة. التقيت غائب طعمة فرمان اول مرة امام  مصعد العمارة ، وكنت لا اعرف ولا اتوقع ان يسكن في هذه العمارة الروسية البحتة اجنبي غيري.. فقد كان من المتبع في ذلك العهد في الاتحاد السوفيتي ان يكدس الاجانب في احدى العمارات ، وربما في مدخل واحد لغرض لا يخفى على أحد، ولكن ، وكما اتضح فيما بعد ، كانت دار التقدم تمتلك شقة واحدة في هذه العمارة ، وكان يقطنها غائب ، بينما تمتلك صحيفة (انباء موسكو) التي بدأت بالصدور شقة اخرى ، هي التي اعطيت لي. بجوار المصعد وقف شخص صغير الجسم، قصير القامة، اول ما يلفت النظر فيه نظارته ذات العدسات السميكة التي تظهر من تحتها، مكبرة، عينان واسعتان (ربما بفعل الانكسار الضوئي للعدسات)، وما ان تتراخى قليلا شدة الجذب الى العينين المكبرتين حتى يشدك سحر ابتسامة طيبة، طبيعية، متواضعة، آسرة..تقول لك على الفور ان صاحبها شخص طيب، سمح، لا يمكن ان يصدر عنه ما يؤذي الشعور او يهين الكرامة، بل كانت الابتسامة دعوة صريحة وبسيطة للتعارف والتواصل لا تقاوم. لاحظ تفرسي وانشدادي الى وجهه فازدادت ابتسامته طيبة ورقٌة وسأل

- الاخ عربي؟

- نعم

- من اين؟

- من مصر

هنا شع وجهه كله ابتساما، كأنما التقى صديقا قديما او تلقٌى نبأ سارا. (أنا درست في مصر..في القاهرة). ومضى يتحدث عن مصر وكلية الاداب ومدرسيه واصدقائه.. بلهجة مصرية محببة، ليست بالمصرية الخالصة، بل تخالطها كلمات باللهجة العراقية، محورة كي تبدو مصرية..وسرني ذلك التودد من جانبه. الاشبه بتضييفك شخصا عزيزا طعاما يحبه. عرفت فيما بعد انه تعرٌف في مصر على كبار كتابها ونقادها، وكان من رواد ندوة الخميس التي كان يقيمها نجيب محفوظ، وربطته مشاعر صداقة حميمة بمحمود امين العالم وعبد العظيم انيس وغيرهما من المثقفين اليساريين المصريين. نسينا المصعد الذي كان قد وصل وتوقف امامنا في الطابق الاول منتظرا، فقد انهالت الاسئلة مني وتدفقت الاجابات منه، دون ان ننتبه الى اننا يمكن ان نصعد لنواصل الحديث عنده او عندي، بعد ان عرفنا اننا جيران، هو في الطابق الرابع وانا في الطابق الخامس، ولكن يبدو ان معرفتنا بهذه الحقيقة كانت هي السبب في اننا افترقنا آنذاك دون ان أذهب اليه او يأتي الي. ان القرب الشديد يفعل احيانا، بل كثيرا، فعله السيئ. فانت تعيش في موسكو مثلا سنوات، دون ان تذهب الى مسرح البولشوي القريب منك، او تعيش في القاهرة، بل ربما في الجيزة، طويلا، دون ان تزور الاهرام وهي على بعد خطوات. ويأتي الغريب الى موسكو او الى القاهرة لايام معدودة، فيدخل البولشوي ويزور الاهرام والقلعة وخان الخليلي. القرب يجعلك تطمئن الى ديمومة الاشياء والاشخاص القريبين وتنسى انه لا شئ يدوم. وما زلت حتى بعد رحيل غائب بسنين طويلة اندم على ركوني المطمئن الى وجوده قربي، فلم ازره كثيرا. لاغترف من هذا المنهل الشفاف العذب.

منذ ان تعرفت بغائب في ذلك النهار الصيفي من عام 1969 الى ان وضعت كتفي تحت النعش الذي شيعناه فيه الى مثواه الأخير، ايضا في يوم صيفي من عام 1990، لم يفارقني الاحساس برهافة هذا الانسان وهشاشته، كان يخيل اليٌ ان هذا الجسم الصغير لا يزن شيئا، وضاعف من هذا الاحساس تواضع غائب الذي لا مثيل له لدى اصحاب المواهب والمبدعين، الذين كثيرا ما يعانون من تضخم (الانا) وتضخيم الذات. كان يتحاشى الحديث عن رواياته ولا يسألك رأيك في آخر أعماله، كما يفعل الادباء عادة، وعموما كان يعمل في صمت، بعيدا عن الاضواء، حتى انني كنت أستغرب وادهش حقيقة عندما أقرأ روايته الجديدة، ولا أكاد أصدق ان هذا الانسان الذي تراه في الطريق فلا يثير انتباهك ولا يشدك فيه شيء بارز ، هو الذي أبدع هذا العمل الادبي الاصيل، هذه التحفة الفنية الثمينة! وازددت حبا لغائب واشفاقا عليه عندما علمت بمرضه، الذي لم يترك في صدره الا بعض رئة، وتعمق الاحساس في قلبي بهشاشته وتضاعف الخوف واللهفة عليه، كما تخشى من تيار الهواء على مريض عليل او على ولد صغير يركض ويتعثر وهو مهدد بالسقوط في كل لحظة. لم أسأله مرة عن مرضه ولم يتحدث هو ابدا عن ذلك، لكننا كنا نعوده عندما ينزل المستشفى، فنتحدث ونضحك وننكت، وكأنما جئنا نزور شخصا معافى في داره. هذا الضعف الجسدي البالغ، هذه الهشاشة الخارجية الواهية، أيٌ قوة روحية كانت تخفي وراءها، وايٌ حب للناس والحياة والفن.

كانت صحيفة (انباء موسكو) السوفيتية قد بدأت تصدر في موسكو في تلك الايام باللغة العربية، وقد حاولنا نحن المجموعة العربية الصغيرة العاملة بها (سعيد حورانية وجيلي عبد الرحمن وسعيد مراد ورشيد رشدي وانا)  ان نبتعد بها عن النسخة الروسية الرسمية الكئيبة ونجعل منها شيئا مقروءا، فسعينا الى استكتاب الادباء العرب المقيمين في موسكو او الزائرين لها، ورحب غائب بالفكرة، ونشر مقالتين او ثلاثا ثم انقطع عن الكتابة منزويا في تواضع، دون مشاحنات او عتاب، وعلمت فيما بعد ان سوء الادارة وجهل المحرر الروسي باولويات عمل الصحيفة حزاٌ في نفس غائب، فتوقف عن الكتابة في صمت، وأذكر ان احدى المقالات كانت عن الطفولة، بمناسبة يوم الطفل العالمي، ولم أكن قد قرأت مقالات لغائب حتى ذلك الحين، رغم اني كنت على علم بماضيه الصحفي، حين كان يكتب لصحيفة (الاهالي) العراقية، ولكني أشهد واؤكد ان هذه المقالة القصيرة، التي لم تشغل في الصحيفة أكثر من عمودين، تركت في نفسي أعمق انطباع، وادهشني بهذا التركيز وتلك السلاسة وقوة العرض والعاطفة التي طبعت كل سطر فيها. أذكر مناسبة اخرى أذهلتني فيها قدرة غائب طعمه فرمان الفائقة على كتابة المقال او الصورة الصحفية الادبية، ذلك النوع من الكتابة الذي لا استطيع ان أجد لوصفه مصطلحا عربيا يماثل المصطلح الروسي (اوتشيرك) (بالمناسبة استخدم الناقد الادبي المعروف الدكتور محمد مندور هذه الكلمة الروسية ايضا). كان ذلك خلال حفل أقامه (الملتقى الثقافي العربي) في السفارة الفلسطينية بمناسبة الذكرى الثانية لانتفاضة الحجارة، وقد ألقى غائب طعمه فرمان كلمة مكتوبة عن فلسطين ترقى الى مرتبة الشعر، وكان أروع ما فيها روحها، ذلك السحر الخاص الذي يميٌز الكاتب المبدع عن المدعي والسطحي، ويضفي على الكلمات مسحة خاصة صعبة المنال الا لمن اوتي كلمة السر الالهية – الموهبة! كانت تلك الروح هي بالضبط (الشاعرية) التي عناها سعيد حورانية عندما كتب عن الفرق بين الشاعرية والغنائية فقال "ان الشاعرية هي موقف تجاه الحياة، اما الغنائية فهي نوع من اللعب اللفظي الذي يبحث عن قطعة تعطيه جرسا، أكثر مما تعكس واقع الحياة وتغنيه".

اما الشيء الاكثر مدعاة للدهشة، بل وللذهول، فهو كيف استطاع غائب، بهذا الجسد الضئيل العليل، وفي طقس موسكو القارس البرودة، وفي وحشة اجوائها على الغريب وضيقها بالاماكن المفتوحة واحكامها اغلاق الابواب على ساكنيها لاكثر من نصف السنة. كيف استطاع ان يواصل الكتابة بانتظام مثير، ويوالي اصدار الروايات، وفي الوقت نفسه يترجم اكثر من خمسين رواية من عيون الادب الروسي و السوفيتي؟! كيف استطاع غائب ان يعيش بجسده في الغربة وروحه في العراق ، ويكتب من الذاكرة عن ابناء العراق البعيدين عنه وكأنه يعيش بينهم. لقد قاوم غائب طويلا هذه الغربة الطويلة، وظل كالغاطس تحت الماء يستهلك ببطء مخزون الاوكسجين حتى نفذ، وعندئذ استخدم الهواء الاصطناعي المضغوط فكتب (المرتجى والمؤجل) عن ابناء العراق في الغربة لا في الوطن. ولكن هل نلومه؟ ألم يكتب قبلها (النخلة والجيران) و( خمسة أصوات) و(المخاض) و(القربان) و( ظلال على النافذة) وغيرها؟ أنا أزعم ان اصرار غائب على الكتابة عن العراق وهو في الغربة هي الرابطة الروحية لغائب بالوطن، القناة التي يتنفس منها تحت الماء وينفس بها عن الحنين المكتوم في الصدر الى ذلك الوطن البعيد، الذي تمثله بغداد. (في الليل كانت بغداد تنقلب الى جنة. كانت مثل فتاة ريفية حسناء قضت نهارها في حقل لاهب، وفي المساء نضت ثيابها على الشاطئ، واستحمت ساعة في نهر دجلة، ثم خرجت طرية ناعمة، واستلقت على الشاطئ تمشط شعرها، وتزين نحرها ومعصميها بالخرز الملونة، وتتملى في صفحة الماء.

سألته ذات مرة، كيف يستطيع التوفيق بين عمله الذي يأكل منه خبزه – الترجمة – وابداعه الروائي المنتظم، واين يجد الوقت لهذا وذاك، وفي نفس الحين للترفيه عن نفسه وحضور حفلات الجالية العراقية التي لا تنتهي! ضحك ضحكته المتواضعة المحببة، وقد أدرك مغزى الشطر الاخير من السؤال، ولكنه أجاب بصراحته المعهودة وببساطة متناهية "أنا استيقظ في الخامسة صباحا، أعدٌ فنجان قهوة واجلس الى المكتب حتى الثامنة اكتب الرواية. صفحة.صفحتين احيانا اكثر، ثم أفطر، وفي حوالي التاسعة اجلس لاترجم حتى الساعة الثانية عشرة او الواحدة، بعد ذلك أنا حر تماما، أذهب حيث أشاء وأسهر اين أشاء، ولكني حتما أعود الى البيت لاكون في الفراش قبل الثانية عشرة! سألته

- وهل تكفيك خمس ساعات نوم ؟

– تكفي، ولكني احيانا أنام قليلا بعد الغداء.

لا أدري ان كان غائب  سار على هذا النظام الصارم طوال وجوده في موسكو ام لا. ولكن الثابت من اصداره لهذا العدد الكبير من الروايات وترجمته الغزيرة من الادب الروسي انه كان يتبع نظاما دقيقا الى حد كبير، خاصة اذا راعينا ظروف مرضه الذي كان يعوقه عند الكد المنتظم. ومن الادباء الذين عرفتهم او تابعتهم لم أجد أحدا يتقيد بالنظام اليومي الدقيق سوى غائب طعمه فرمان ونجيب محفوظ ، وقد حطمت هذه الحقيقة الجديدة تصوري السابق الساذج عن الادباء والفنانين كقوم بوهيمين، يسهرون الليل وينامون النهار، ولا يدري أحد متى يبدعون. يقول بطل احدى قصص الروائي المصري بهاء طاهر عما تفعله الغربة بالانسان  "اظن ان الانسان لا يكون له بالفعل اصدقاء خارج بلده. لا يكون الانسان هو نفسه خارج بلده ليصادق كما يجب، او ليحب كما يجب. تتغير المشاعر. تأتي الاحزان ثقيلة، وتذهب الافراح بسرعة". ولكن غائب ذوٌب في مرارة كأس الغربة قطعا من السكر المصفى.هي رواياته، التي انتصر بها على قدره، كما كان الانسان الاول يرسم على جدران الكهوف صور الوحوش والحيوانات ليقهر بفنه البدائي خوفه منها، وينتصر عليها..ولو بتلك الخطوط البسيطة المعبرة، والتي بقيت لنا كشواهد على تلك المواجهات الجنونية المرعبة مع الوحوش التي روعت اجدادنا العزل الا من هراوات وقطع احجار. واذا كان غائب قد اتخذ من فنه سلاحا يقهر به غربته، فلا شك ان مأثرته الابداعية تتجاوز هذا الهدف بكثير، فعلاوة على قيمتها الفنية المستقلة بذاتها، فانها تقدم لنا، وللأجيال القادمة بصفة خاصة، صورا ومشاهد حيٌة معبٌرة عن هموم الاجيال الماضية من ابناء العراق وافكارهم، انتصاراتهم وهزائمهم، وستبقى روايات غائب شهادات تاريخية أقوى دلالة من المستندات والاحصائيات والتسجيلات مهما كانت دقيقة، فاذا كانت الاجيال التي عاصرت غائب طعمه فرمان تجد نفسها في هذه الشخصية او تلك من رواياته، فان الاجيال التالية والقادمة، التي لم تشهد تلك الاحداث، لن تجد نفسها في هذه الاعمال، لكنها ستجد فيها التسجيل الحي والدراما الواقعية لتلك السنوات، وستغرف منها من المعرفة اكثر بكثير مما ستاخذ من كتب التاريخ. وهذا هو الاعجاز الفني الشامخ للمبدع الراحل. وتلك هي المأثرة التي اجترحها غائب باعصابه المشدودة ، وروحه المعذبة، وجسمه السقيم..المأثرة التي ستعبر الزمن وتبقى مع الايام.

اريد ان استعير عبارة كتبها الاديب مكسيم غوركي عن انطون تشيخوف لاقولها عن غائب "يخيٌل اليٌ ان اي شخص احتك به كان يشعر لا اراديا بالرغبة في ان يبدو أبسط وأصدق وأقرب الى حقيقته". قد أكون قدمت صورة شخصية جدا عن غائب، ولعل لدى الآخرين الذين عاصروه واحتكوا به عن قرب صورا اخرى، ربما كانت مختلفة، لا بأس، فلكل رؤيته واحاسيسه، بيد اني على يقين من ان كل من عرفوا غائب طعمه فرمان عن قرب سيجمعهم في ذكرياتهم قاسم مشترك أعظم وهو أن غائب كان تجسيدا للرقة والتواضع والصدق، لم يكن فيه من الزيف ذرة، وكان شفافا صافيا كالغدير، فيه حلاوة تمر العراق وحزن نخيله المطرق. وعندما نرى الصرح الذي خلٌفه غائب في الادب العربي المعاصر، برواياته وقصصه الرائعة، نشعر نحن الذين عايشناه وحادثناه ورأيناه رأي العين، ان القدر قد اصطفانا بهذه النعمة وحبانا هذا الامتياز، فشكرا للاقدار، وشكرا لغائب الحاضر دائما في قلوبنا وذاكرتنا، الباقي ابدا في ذاكرة شعبه وأمته.

***

 

جيلي عبد الرحمن سنوات من الغربة

قضى الشاعر الكبير جيلي عبد الرحمن نحو عشرين عاما في موسكو ما بين 1960 حتى 1978، وهي بعض من سنوات الغربة التي قضاها متنقلا بين الجزائر واليمن وغيرها. وقد ترك جيلي أثرا كبيرا في الشعر العربي بديوانه الوحيد المطبوع "الجواد والسيف المكسور" الذي كسر فيه عمود الشعر التقليدي واختط لنفسه طريقا خاصا كأحدى أهم العلامات البارزة في تطور الشعر. لكن صفحة أخرى من ابداع جيلي وحياته ما زالت مجهولة وأعني تجربة جيلي الفريدة حينما تولى ترجمة بعض الشعراء الروس إلى العربية على نحو رائع.

وقد تعرفت على جيلي عبدالرحمن لأول مرة ـ أو بالأحرى رأيته ـ في أحدى القاعات بموسكو عام 1963 في مهرجان شعري. وكنت قد لمحته من قبل مع الشاعر الراحل أيضا نجيب سرور قبل ذلك بسنة في أحدى محطات مترو الأنفاق بموسكو لكني لم أقترب منهما ـ رغم شوقي للتعرف ـ لجفوة كانت بيني بين المرحوم نجيب سرور الذي كان يدرس الاخراج المسرحي في موسكو آنذاك وكانت بيننا صداقة ومودة شابتها في تلك السنة سحابة عابرة.

في ذلك المهرجان الشعري رأيت جيلي: تلك القامة النحيلة التي سبق أن رأيتها في محطة المترو، وذلك الوجه الاسمر الممتلئ قليلا في شبه استدارة، والعينين الخفيضتي النظرة عن حياء داخلي واحساس بالخجل (لا لذنب ارتكبه كما أدركت فيما بعد ولكن خجلا مما يرتكبه الآخرون). وكانت على أحدى مقلتيه بقعة زرقاء حرمته النظر وزادته انطواء. في تلك القاعة القى جيلي أحدى قصائده المعروفة وهي "لوركا". وما أن صعد جيلي إلى المنصة حتى تحول في لحظة واحدة إلى كتلة ملتهبة من العواطف مشحونة بطاقة تتفجر قوافي وايقاعات مدوية كصوت الرصاص وطبول الحرب الافريقية. وبدا للسامعين كأنه لا شئ في العالم يستطيع الوقوف بوجه هذا السيل الجارف من الشعر اللاهب المنطلق كحمم البراكين من فم جيلي بينما تتردد بين الفقرة والأخرى قاطعة كأمر عسكري "شدوا على الزناد"!

دوت القاعة بتصفيق هادر عاصف وظلت الاكف مشتعلة به طويلا. ونسيت نفسي في تلك اللحظة فقد أصبحت ذرة في هذا الخضم الجياش. وهتفت القاعة بحرارة تطالب جيلي بإعادة القاء القصيدة. وبعد تردد وحياء صعد جيلي إلى المنصة مرة أخرى ليتحول ثانية إلى لهب يصهرنا معه في أتون الايقاع والصور.

من يومها أحببت جيلي عبد الرحمن الشاعر الفطري العذري كغابات افريقيا، الأسمر كمياه النيل والعذب مثلها والذي كان رغم كل ما يحمله من هموم ـ وبعد ذلك من أمراض ـ حاضر النكتة يعشق "القفشة" ويجيد اقتناصها. لكن معرفتي وصداقتي الحقة مع جيلي لم تترسخ إلا بعد ذلك بسنوات وتحديدا في بداية 1969 عندما تقرر اصدار صحيفة "أنباء موسكو" الروسية باللغة العربية فوقع الاختيار علي كمحرر مسئول عن الصفحة الادبية وعلى جيلي عبد الرحمن والمرحوم الاديب السوري سعيد حورانية لتصحيح ما قد يشوب الترجمة من أخطاء وانتقاء العناوين وكتابة مقدمات للمقالات إلخ. وعملنا معا ثلاثتنا في هذه الصحيفة جنبا إلى جنب خمس سنوات كنا نلتقي خلالها يوميا في العمل وفي احيان كثيرة في بيته او بيتي بعد العمل. وكان جيلي آنذاك يحضر الدكتوراه تحت اشراف الدكتور جريجوري شرباتوف بمعهد الاستشراق في موضوع أثير لديه "القصة العربية والسودانية". خلال هذه السنوات وما بعدها ـ حتى عودة جيلي الاخيرة إلى مصر حيث انتقل لمثواه الاخير ـ توطدت بينا صداقة لا تشوبها شائبة. وتعرفت في جيلي إلى قطرة مصفاة من العذوبة والرقة ورهافة الاحساس، فكان لا يفارقني الشعور بأنه يمشي بين الناس بأعصاب عارية تجرحها اية نسمة. وكنت أبدو له في أحيان كثيرة دعامة قوية في مواجهة شظف الحياة وعنف الطباع.

وأذكر مرة أنه حصل على مكافأة مالية كبيرة على ترجمة ديوان الشاعر الكازاخي "أباي" وكنت بحاجة إلى مبلغ من المال فطلبته منه وأنا على يقين أنه لن يتأخر خاصة أن أياما قليلة لم تنقض على استلامه المكافأة. وفوجئت به يقول لي إنه لا يملك سوى مائتي روبل من بضعة الآف استلمها! واوضح لي جيلي أن الطلبة السودانيين الدراسين في موسكو ـ وكان بيته يغص بهم على الدوام ـ "أخذوا الفلوس"! ودهشت لهذا الشخص الذي يوزع في ايام قلائل عدة آلاف من الروبلات على الطلاب الفقراء دون أمل في استردادها. ولكن أليس هو نفسه جيلي عبد الرحمن القائل:

"خلينا الدنيا للمفتون . وعفنا المــال

وسرحنا في خرقتنا . نقتات الاهوال"؟

أليس هو الذي أعطيته ذات مرة قصة مؤثرة بعنوان "عيد الميلاد" كنت ترجمتها لأديب روسي وعند الصفحة الأخيرة رأيت الدموع تنساب من عيني جيلي بغزارة تاثرا بالقصة. وقلت له من باب التخفيف عنه وصرفه عن الحزن: "متى عيد ميلادك يا جيلي؟" فقال وهو يغالب بقايا الدموع بنبرة شابتها روح الفكاهة:" لو كنت أعلم متى ولدت! خليها على الله!". لم أدهش لأنني ايضا من بيئة قروية وكان كثير من المواليد حينذاك لا يسجلون في الدفاتر الرسمية. وقلت له ملتقطا الفكرة التي ظهرت لتوها: إذاً فليكن عيد ميلادك اليوم ولنحتفل به! ولم يمانع جيلي وصرنا نحتفل بعيد ميلاده الذي تخيرناه صدفة.

في أواسط السبعينات أدركت أن جيلي قادر على نقل روائع الشعر الروسي إلى المكتبة العربية شعراً خاصة قصائد الشاعرين الكبيرين الكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف لو توفرت له الترجمة الحرفية الأمينة خاصة أنه درس الأدب الروسي في معهد غوركي للآداب وأصبحت صلته باللغة الروسية قوية ولكن ليس بالقدر الذي يسمح له بالترجمة بدون مساعدة. وعرضت عليه لأن نشترك في هذا العمل الجليل فأقوم أنا بإعداد الترجمة النثرية ويقوم هو بصياغتها شعرا. وشجعني في ذلك بعض النماذج التي قدمها جيلي في ترجمته للشاعر نيكولاي تيخونوف كتبها خلال حصار مدينة ليننجراد الرهيب الذي دام تسعمائة يوم وترجمها جيلي على النحو التالي:

" شجيرتي المتجمدة

شجيرتي المتجمدة

تناثر الرماد في الكهوف

على الشطوط الجهمة المستوحدة

وانت تنشجين كالأمواج، كالعزيف

شجيرتي المتجمدة

ينيخ فوقك الظلام والسكون

وأنت تحبسين الدمع، تذرفين

وتعبق الدماء في العيون الجامدة

يا أفرعي الخضراء.. أصدقائي

وأنت تهجعين في العراء

أسقيك من دمائي

في العاصف الشتائي!

رحب جيلي بالاقتراح وتحمس له، لكن بيته المفتوح الغاص دوما بالاصدقاء والمعارف وحتى بغير المعارف، ومشاغل الحياة والمرض حالت دون انجاز ذلك المشروع. كان جيلي مسرفا في عطائه للآخرين على حساب ابداعه الشخصي وكثيرا ما عاتبته على هذا الاسراف. وكنت أرى كيف يغترف الكثيرون بلا رحمة من هذا المورد العذب السيال غير عابئين بما يبقي أو لا يبقي منه للشعر بعدهم. لكن جيلي كان يرد على عتابي بنظرة صامتة خجولة حيية كأنما يقول "لا أستطيع غير ذلك"!

في السنوات الأخيرة اشتد المرض على جيلي وكان يلزمه الفراش بالاسابيع وأحيانا بالأشهر، وأحس أنه عبء على الصحيفة التي تصدر اسبوعيا. وفي تلك الفترة كنت قد انتقلت للعمل بدار التقدم للترجمة والنشر ولم تكن طبيعة العمل فيها تستوجب الحضور يوميا فرأيت أنها فرصة مناسبة لنقل جيلي أيضا إلى هناك. ومن هذه الدار صدرت ترجمة جيلي عبد الرحمن لأشعار الشاعر الكازاخي "أباي" وديوان "اشعار مقاتلة" الذي شاركته انا والدكتور ماهر عسل ترجمته إلى العربية. وأفسحت الدار المزيد من الوقت لجيلي فكنت كثيرا ما أناقشه في قضايا الشعر الحديث والمهام الجديدة التي يواجهها بعد أن كسر عمود الشعر التقليدي وقدم شعراؤه ـ ومنهم جيلي ـ نماذج رائعة للقصيدة الحديثة. وكان جيلي في شعره مزيجا فريدا من الرومانسية والواقعية كان شعره تجسيدا للأغنية الوجدانية الداخلية بطابعها العميق الذاتية، وفي الوقت نفسه كان جيلي عبدالرحمن يسلك دروبا واقعية تبعده عن شعراء الرومانسية المهومين في بحار ذواتهم وعوالمهم المنفصلة عن الحياة. ومع أعجابي الشديد بقصائد جيلي ذات الطابع الحزين فقد كنت أتمنى لو استطاع أن يخرج من الإطار الفني للقصيدة الوجدانية الغنائية إلى رحابة الشعر الدرامي والقصصي الذي درسنا معا في موسكو أعظم نماذجه لدى كبار الشعراء الروس في القرن التاسع عشر مثل الكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف ونيكولاي نيكراسوف والكسندر بلوك، ثم شعراء القرن العشرين العظام فلاديمير مايكوفسكي وسيرغي يسينين وآنا أخماتوفا وغيرهم. وكنت أود لو استطاع جيلي بموهبته الشعرية الفذة أن يقدم لنا تجربة وطنه بماضيه العتيد وحاضره المأساوي في ملحمة شعرية سواء مسرحية أو رواية شعرية أم خليط من هذا وذاك. لكن جيلي لم يكن يجيد العزف على آلات الأوركسترا الغربية وظل لصيقا بنايه الأسمر الشجي الحزين ولست أدري الآن إن كنت على حق أم لا آنذاك في دفعي لجيلي إلى أحضان الثقافة الأوربية والأجناس الأدبية البعيدة عن طبعه وعن فنه. وأتساءل: ترى لو استجاب لدعوتي وانتقل إلى "الشارع الغريب" هل كان سيبقى هو نفسه جيلي عبد الرحمن الذي عرفناه وأحببناه؟ وهل كان سيظل محتفظا بعذرية الأرض السمراء ونخيلها المطرق وبيوتها وقراها؟ لقد ظل جيلي في دائرته التي كانت تتلامس وتتقاطع وتحتك بخطوط الدوائر الثقافية الأخرى الروسية والغربية والآسيوية دون أن تتحد مع أي منها. وربما كان ذلك دفاعا تلقائيا لا شعوريا تذود به موهبة الشاعر الأسمر عن أصالتها وخصوصيتها وتفرد تجربتها. وكانت لقاءات وأحاديث كثيرة بهذا الصدد وبغيره تجمعنا مع جيلي عبد الرحمن ونجيب سرور وتاج السر الحسن وعبد الوهاب البياتي ومواهب الكيالي بل وغائب طعمة فرمان ومحمد مهدي الجواهري، وكانوا قد اجتمعوا في فترة واحدة في موسكو في الستينات والسبعينات، وفي فترة لاحقة حل على ضيافة موسكو عبد الرحمن الخميسي وسعيد حورانية وسعيد مراد. وكنا نحن الذين جئنا من بلادنا لندرس الأدب نشعر بمتعة حقيقية من التواصل مع أدب هؤلاء المبدعين الكبار ونتابع انتاجهم أولا بأول في الندوات والأمسيات الشعرية والنثرية التي كانت تقام بكثرة آنذاك. وأعتقد أن أولئك المبدعين أنفسهم كانوا يشعرون بتلك المتعة التي أحسسنا بها وهم يلتقون بجمهورهم الحي الذي يبدي لهم آيات العرفان. وكانت تلك الأمسيات بالنسبة لهم قطرات ـ ولو شحيحة ـ من ينابع الوطن في سنوات الغربة. لكن القطرات أخذت تشح شيئا فشيئا حتى غاضت وأناخت الغربة على جيلي عبد الرحمن بثقلها، وتقوقع جيلي يحتمي بصدفة شعره، وراحت تطل من قصائده اشباح الراحلين الأعزاء من الأصدقاء والمعارف والأهل. وازدادات وطاة المرض عليه فعاوده احساسه القديم بأنه "عبء" وأصبحت موسكو التي قضى فيها زهاء العشرين عاما ضيقة عليه، وبدت له ضائقة به، ولاحت بوادر أزمة ابداعية كانت انعكاسا لأزمة العلاقة مع الواقع المحيط.

حينذاك، وفي نهاية السبعينات، أخذت أشجع جيلي على الرحيل عن موسكو والاقامة في أي بلد عربي إدراكا مني أن جيلي أصبح في مسيس الحاجة إلى محيطه العربي ليسمع فيه ايقاع اللغة التي يبدع بها ولكي يتواصل مع مبدعين مثله أو شبان واعدين  سيحبونه وسيمنحهم هو من ذاته ومن عطفه الكثير "دون ثمن، دون حساب الربح والخسارة" على حد قول الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور. وكانت مصر والسودان هما الاقرب إلى قلبه لكنه كان ممنوعا من دخولهما آنذاك ومن ثم اتجه إلى جنوب اليمن حيث قام بتدريس الأدب في جامعة عدن. وبعدها بسنوات انتقل إلى الجزائر التي عانى فيها كثيرا واستمتع كثيرا بصحبة أدباء وشعراء وفقراء جزائريين أحبوه وأعزوه وفي مقدمتهم الأديب الطاهر وطار. وكان جيلي يعود إلى موسكو فترة الأجازات فنلتقي كثيرا ونستعيد الذكريات ونحلم بمشاريع لم يقيض لها أن تتحقق. في مقدمة أحلامنا كان اصدار ديوان جيلي الجديد وكنت أحثه كثيرا على جمعه واصداره خاصة أنني كنت حينذآك أتردد على بيروت وكانت مطابعها ودور النشر فيها على أتم الاستعداد لنشر ديوان كهذا. وأكد لي جيلي بدوره أن دور النشر في عدن وأماكن أخرى ترحب بل وتحثه على جمع قصائده لنشرها. لكني لم أقرأ حتى الآن هذا الديوان. ولا أدري إن كان أحد بعد موت جيلي قد اعتنى بجمع تراثه ونشره أم لا. الديوان الوحيد الذي قرأته لجيلي كان في أواسط الستينات في القاهرة بعنوان "الجواد والسيف المكسور" وبقدر ما سعد جيلي بهذا الديوان بقدر ما عانى من الحزن والقهر بسبب الأخطاء المطبعية الفادحة التي أنتشرت فيه. وأقول الديوان الوحيد باعتباره العمل المستقل بعد ان صدر ديوان جيلي الأول مشتركا مع تاج السر الحسن.

وأيا كان الأمر، وسواء طبعت دواوين جيلي أم لا، فسيبقى جيلي عبد الرحمن حيا في ذاكرة بل في قلب كل من عرفه وعايشه واستمع إلى شعره ولو مرة، فقد كان تجسيدا لمعاني العطاء والتفاني، وكانت حياته كلها التزاما دائما بقضايا الفقراء والمضطهدين، وكان شعره تعبيرا عن هذا الالتزام بشفافية عذبة وعمق وعذوبة تعلو به إلى مصاف كبار الشعراء المبدعين. 

***

نجيب سرور... مأساة العقل

"قل للمهرجين المجانين: لقد ضاعت أرزاق أهل

الفكاهة والمجون. ضاعت لأن أهل العقل أنفسهم

قد أصبحوا من المجانين. خلطوا في تصرفاتهم

وارتكبوا الاعمال الشاذة، فأضحكوا الناس جميعا"

(المهرج في مسرحية "الملك لير" لشكسبير)

في أواخر ديسمبر 1978، وكان نجيب سرور قد فارق الحياة منذ بضعة أشهر، وصلني آخر دواوينه (رباعيات نجيب سرور) مرسلا إلي مع رسول من القاهرة. وحينما قرأت كلمات الإهداء: " إلى ولدى وأخي وعزيزي أبو بكر يوسف. نبضات من حبنا المشترك لمصر" داهمني إحساس طاغ بأنها رسالة بعث بها نجيب إلي من العالم الآخر، حيث استقرت أخيرا روحه الحائرة المعذبة! كان الإحساس واقعيا إلى درجة أرعبتني. ولم أستطع التخلص من وطأته إلا بعد تحامل على النفس أعادني إلى توازني الذي كدت أفقده... وانهالت الذكريات.

في عام 1959، وكنا مجموعة صغيرة السن من مبعوثي "الجمهورية العربية المتحدة" ندرس في كلية الآداب بجامعة موسكو، جاءني زميلي السوري عدنان جاموس، وكان أنضجنا خبرة  وأكثرنا معرفة بشؤون الحياة والأدب، بعدد من  مجلة  "الآداب" البيروتية  قائلا: هل قرأت هذه القصيدة؟ وللصراحة فقد كنت أرى هذه المجلة لأول مرة، إذ غادرت مصر إلى موسكو عام 1958 بعد أن أنهيت الدراسة الثانوية لتوي، وعمري 18 سنة، وكانت قراءاتي خارج المنهج المدرسي لا تكاد تحيط بما يصدر من روايات وقصص، فلم يبق للمجلات الأدبية وقت أو نقود. كانت القصيدة بعنوان " التراجيديا الإنسانية" لشاعر لم أسمع به من قبل هو: نجيب سرور. وكان مطلعها لافتا وجاذبا:

كانوا قالوا: إن الحب يطيل العمر..

حقا، حقا.. إن الحب يطيل العمر!

حين نحس كأن العالم باقة زهر،

حين نرق كبسمة فجر،

حين نشف كما لو كنا من بلور،

حين نقول كلاما مثل الشعر،

حين يدق القلب كما عصفور،

يوشك يهجر قفص الصدر،

كي ينطلق يعانق كل الناس...      

كانت قصيدة مختلفة عن كل ما قرأت حتى ذلك الحين، وأثارت في نفسي العديد من الأسئلة... سألت زميلي عن هذا الشاعر فقال إنه مصري، وهو هنا في موسكو، فأبديت تشوقا للتعرف به. فوعدني عدنان الغامض، الذي بدا لي آنذاك لغزا لا يفصح إلا عن قليل مما يعرف، بأخذي معه إلى نجيب سرور في المدينة الجامعية الجديدة لجامعة موسكو على تلال لينين، وكنا نحن نسكن في المدينة الجامعية القديمة على أطراف موسكو. في نفس المبنى الذي كان يسكن فيه قبلنا ببضع سنوات ميخائيل جورباتشوف عندما كان طالبا في الجامعة.

استقبلنا نجيب سرور بابتسامة عريضة كشفت عن فجوة وسط أسنانه العليا (علامة الشبق!). وكان حاجباه معقودين بتقطيبة طبيعية، وعيناه الضيقتان، الشديدتا الذكاء والمكر، تشعان بالمرح والثقة بالنفس، وتنقل إليك إحساسا بأن صاحبهما ينظر إلى ما حوله ومن حوله نظرة فيها الكثير من السخرية والمرارة الدفينة. وكان ثمة تناقض صارخ بين هذا الوجه البشوش الممتلئ والضاحك، وهاتين العينين بنظرتهما الثاقبة والساخرة.

لفتت نظري في ذلك اللقاء تفصيلة خارجية. فقد كان الحاكي يعمل طوال جلستنا، ونجيب يغير الأسطوانة بين الحين والحين، وكانت كلها موسيقى كلاسيكية لموسيقيين لم أكن سمعت حتى بأسمائهم. وكنا قد تعودنا منذ صغرنا أن نسرع بإغلاق المذياع أو تحويل المحطة ما إن يعلن المذيع عن فاصل من الموسيقى الكلاسيكية التي لم نكن نفهمها بنغماتها "المشوشة" التي لا تسير على إيقاع واحد، بل "تزعج" آذاننا الشرقية بهذا التخبط بين الأنغام صعودا وهبوطا، طولا وقصرا، ونحن  نبحث فيها عبثا عن مستقر للإيقاع المطرد المطرب! وأسارع فأقول إنني مدين لنجيب سرور بتعرفي على الموسيقى الكلاسيكية الروسية والغربية وتذوقي لها. فمنذ ذلك اليوم، وطوال وجوده في موسكو، كان نجيب يعلمني كيف أتذوق اللحن الغربي، ويشرح لي مواضيع السيمفونيات، ويلفت انتباهي إلى هذه النغمة أو تلك، وإلى خصائص الأسلوب الموسيقي لهذا الموسيقار أو ذاك. كان يفعل ذلك بتلقائية وحماسة وحب غير مصطنع للموسيقي جعلني لا أشعر بأنني تلميذ في حضرة معلم. وعندما سألته عن سبب تعلقه بالموسيقي الكلاسيكية قال إن المخرج - وكان نجيب سرور قد جاء في بعثة حكومية لدراسة فن الإخراج المسرحي - ينبغي أن يكون، على اطلاع واسع بكافة ألوان الثقافة والفنون، لأن المسرح هو مجمع الفنون، والجهل أو قلة الدراية بأي لون منها يؤثر سلبا على قدرات المخرج الإبداعية وعلى مستوى حرفيته.

ومنذ أن تعرفت بنجيب سرور أحسست أنني مشدود إلى هذه الشخصية الفذة كقطعة حديد إلى مغناطيس قوي. كان فارق السن بيننا غير كبير، إذ كنت في العشرين، وكان هو في أواخر العشرينات، ولكن الفارق فيما عدا ذلك كان هائلا. كان نجيب - بالنسبة لي على الأقل - كنزا لا يفنى من المعرفة، وشخصية متعددة المواهب إلى درجة خارقة. فقد كان ممثلا، وشاعرا، ومخرجا، وناقدا، وكاتبا. وكانت معرفته بالأدب العربي والغربي واسعة. ولكثرة ما لاحظت في أشعاره من استشهادات بالتاريخ والأساطير المسيحية ظننته في بداية تعارفنا مسيحيا، خاصة وأن الاسم (نجيب سرور) أقرب إلى الأسماء المسيحية في مصر. وتحرجت أن أسأله، ولكنه ملأ أمامي ذات مرة استمارة إقامة فرأيت جواز سفره، وكان اسمه فيه: محمد نجيب محمد سرور هجرس! وفيما بعد لمست كيف كان يستلهم في أشعاره التاريخ والأساطير الفرعونية والإغريقية والشعبية المصرية والفلكلورية العربية، إذ كانت الروافد الثقافية المختلفة تمثل لدى نجيب نهرا إنسانيا عريضا يغترف منه كيف يشاء. أما الانتماء الديني فكان مسألة تركها وراء ظهره!

وكان نجيب شخصية معقدة، ولكنها في غاية الغنى والعمق، منطلقة ومرحة إلى أقصى حد. كان لا يكف عن إلقاء النكت و"القفشات" الفورية، بنت الساعة. وحتى في ذروة الجد واحتدام النقاش كانت القفشة تفلت رغما عنه، فينفجر الحاضرون بالضحك، وينفرط عقد التزمت والجدية. ولم يفلح نجيب في تعلم اللغة الروسية حسب القواعد، فكان  يخلط خلطا شديدا بين حالات الإعراب الست في اللغة الروسية، حتى أشاع أنه اخترع حالة جديدة، سابعة، للإعراب، هي الحالة التي يتكلم بها! ولكنه كان دائم القراءة بالروسية ودؤوبا - كتلميذ - في استخراج معاني الكلمات الجديدة عليه من القواميس، وكأنما كان يريد أن يسبق الزمن ليطلع على الأدب الروسي بلغته الأصلية. وعندما يعجبه كتاب، سواء في الأدب أم في الفلسفة أم في التاريخ، كان ينكب عليه وينقطع له، فلا ينام أحيانا عدة أيام ولا يأكل إلا لماما، ولكنه لا يكف عن تناول الشاي والقهوة. ويظل في هذه الحمأة، وهذا التوتر الذهني والعصبي حتى يفرغ من قراءة الكتاب المكتوب بلغة لا يكاد يعرفها! وتلك كانت إحدى خصال نجيب سرور التي عرفتها فيه فيما بعد.

وكان نجيب سرور لا يكتب الشعر كثيرا. قصيدتين أو ثلاثا في السنة. ولكنه كان يعاني مخاض القصيدة بالأسابيع. يكتب ويشطب ويمزق، ويشرد كثيرا، يدندن لنفسه بإيقاعات ما، وأحيانا يصبح غير قادر على تحمل هذه الحالة النفسية وحده، فيبوح لي بمطلع القصيدة أو ببضعة أبيات منها، وكأنما ينفس عن زفرة جاش بها صدره.

ولم يكن لنجيب سرور مثيل في إلقاء الشعر، وشعره خاصة. وقد اجتمعت له ملكة الصوت الجهير العميق، المتوسط النبرة ما بين "الباص" و"التينور" مع القدرة على التحكم بمخارج الألفاظ التي اكتسبها عن دراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة. لم يكن يقرأ الشعر بل يمثله، مؤديا بصوته أدوار الشخصيات المختلفة إذا كانت القصيدة درامية، أو مختلف العواطف، إذا كانت القصيدة وجدانية. وحتى الأبيات العادية، التي ما كانت لتحرك فيك أحاسيس قوية لو قرأتها بنفسك، كانت تنبض بالمشاعر الجياشة في إلقاء نجيب سرور وبصوته المتفرد، وتهزك إلى الأعماق. وقد عرفت شعراء عديدين لا يجيدون إلقاء شعرهم، فيضيعون الكثير من جماله ويهدمون بصوتهم ما بنته قريحتهم...

كنا نلتقي ثلاثتنا - نجيب وعدنان وأنا - في مقهى من مقاهي موسكو، حيث يختلف الجو عن مثيله في المقاهي الشرقية. فالمكان هنا مغلق دائما، بسبب الجو البارد، وهو أقرب إلى المطعم منه إلى مقهى المشروبات الشرقي، والرواد يأتون ليأكلوا ويشربوا يرقصوا. أما نحن فكنا نختار طاولة في أحد الأركان، وننفصل بها عن كل ما يحيط بنا من  صخب الموسيقى وضجة الأطباق والملاعق، وشهقات الثمالى، ونظرات الشقراوات الداعية، ودقات أحذية الراقصين المدوية. كان نجيب يقرأ لنا من أشعاره، ونحن نصغي إليه فاغري الأفواه، وعندما يلقي قصيدة حزينة كقصيدة " أبي" (والد نجيب) الذي ضربه الإقطاعي أمام ابنه (نجيب) كان صوته يتهدج، وتنساب الدموع على خديه، وما إن ينهي القصيدة حتى نهب لعناقه وتقبيله ومواساته، والدموع تسيل على خدودنا أيضا!...

وكنا لا نغادر المكان إلا بعد انفضاض جميع الرواد وجمع الكراسي والمفارش، وتقريبا بعد طردنا طردا وإطفاء أضواء الصالة، بينما نحن مندمجون مع أشعار نجيب سرور، غير عابئين بما يفعله خدم المقهى لإجبارنا على الانصراف. وفي ليالي الصيف القصيرة في موسكو، إذ يحل الفجر في الثانية صباحا وتشرق الشمس في الرابعة، كنا نمضي متسكعين في شوارع موسكو النظيفة والخالية، وخاصة في وسط المدينة، ونجيب يواصل إلقاء أشعاره تحت تماثيل الشاعرين بوشكين وماياكوفسكي والأمير يوري دولجاروكي مؤسس موسكو. ونظل نضرب في الشوارع حتى الساعة السادسة، موعد افتتاح محطات المترو، لنستقله في اتجاهين متعاكسين: هو إلى المدينة الجامعية الجديدة، وعدنان وأنا إلى المدينة القديمة...

وسرعان ما أصبحت راوي أشعار نجيب سرور في مجموعة الدارسين المصريين والسوريين في موسكو. ورحت أقلده في طريقة إلقائه المتميزة، ونجحت في ذلك إلى حد ما، فقد لاحظت أن السامعين كانوا يعجبون لا بالأشعار فحسب، بل وبطريقة إلقائي لها. وشيئا فشيئا تجمعت حول نجيب سرور مجموعة من الطلاب الشباب المصريين والسوريين، فانتعش وارتفعت معنوياته، وبدأ يخرج من عزلته التي كان قد ضربها على نفسه عند مجيئه إلى موسكو، لاقتناعه - كما قال لي فيما بعد - بأن المبعوثين المصريين آنذاك (عام 1959) كانوا منتقين بعناية من أجهزة المباحث بحيث لا يفلت منهم تقدمي واحد. أما هو فأفلت بأعجوبة، لأنه وصل إلى موسكو في قمة الحملة المعادية للشيوعية في "الجهورية العربية المتحدة"، وهي حملة صاحبت إقامة الوحدة بين مصر وسوريا. ولعبت هذه الصدفة دورا مأساويا في حياة نجيب سرور في موسكو.

فما أن أفصح نجيب سرور عن انتمائه للفكر الماركسي، وأشاع أنه كان عضوا بأحد التنظيمات الشيوعية في مصر (جماعة حد تو) حتى وجد نفسه محاصرا بشكوك وريب قوية من قادة التنظيمات الشيوعية العربية في موسكو، وخاصة تنظيم الحزب الشيوعي السوري الذي كان يقوده في موسكو أحد أعضاء اللجنة المركزية للحزب اللاجئين إلى الاتحاد السوفييتي. وكان مبعث الريبة هو : كيف يتمكن شخص يقول إنه شيوعي من المجيء إلى موسكو في هذه الفترة بالذات، ويفلت من أجهزة المباحث المصرية التي كانت في أوج عنفوانها، بل وفوق ذلك يأتي طالبا في بعثة حكومية!

وفي محاولة منه لتبديد هذه الشكوك جنح نجيب إلى التطرف، فلجأ إلى تشكيل مجموعة من " الديمقراطيين المصريين" لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم، واستغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبي في جامعة موسكو فقفز إلى المنصة واستولى عليها، وأطلق بيانا ناريا ضد "النظام القمعي الديكتاتوري" في مصر وسوريا. وبينما هدرت القاعة المملوءة عربا وأجانب بالتصفيق ظهر الحرج والضيق على أوجه المسؤولين في الجامعة، الذين وضعهم نجيب في ورطة شديدة. ونجحوا أخيرا في تنحيته عن المنصة ولكن بعد فوات الأوان! ففي اليوم التالي احتجت السفارة المصرية على جامعة موسكو، وفصل نجيب سرور من البعثة (هو وماهر عسل الذي ترجم له البيان وألقاه بالروسية)وألغي جوازا سفرهما، وطالبت السلطات المصرية المسؤولين السوفييت بترحيل نجيب سرور وماهر عسل إلى القاهرة فورا !

بهذه الحركة نجح نجيب في كسب ثقة الشيوعيين العرب في موسكو فدافعوا عن بقائه فيها وتكللت مساعيهم لدى السلطات السوفييتية بالنجاح فظل نجيب في موسكو، ولكنه نقل إلى مدينة جامعية أخرى حتى لا يحتك بالمبعوثين المصريين الهائجين ضده. وبمرور الوقت أدرك نجيب أنه ارتكب حماقة، ولم يعد يدري ماذا يفعل بهذه المجموعة الصغيرة التي التصقت به. واعترف لنا صراحة أنه لا يفقه شيئا في السياسة، وأنه لا يريد أن يلحق بنا الضرر، ولذلك قرر تركنا والانصراف إلى الدراسة، ونصحنا أن نحذو حذوه.

حتى ذلك الحين لم أكن قد أدركت مدى تعقد شخصية نجيب فأزعجني منه هذا السلوك الذي اعتبرته "غير رجولي"، ولم أستطع أن أفهم سبب هذه الأزمة التي داهمته في الوقت الذي بدا وكان أموره تسير إلى الأفضل بعد تبدد سحب الشكوك فيه وانتصاره في المواجهة مع السلطات المصرية وفشل الضغوط التي مورست ضده. وأخذ نجيب يبتعد عنا ويغرق في الشراب والديون. وفي هذه الفترة بدأ يكتب  قصيدة "العودة" التي أورد مقاطع منها في ديوانه "لزوم ما يلزم"، وهي قصيدة مغرقة في اليأس والضياع والحنين إلى الوطن :

"يا مصر يا وطني الحبيب!

يا عش عصفور رمته الريح في عش غريب،

 يا مرفأي آت أنا آت.. ولو

في جسمي المهزول آلاف الجراح..

 وكما ذهبت مع الرياح..

يوما أعود مع الرياح..

ومتى تهب الريح؟ أو هبت..

 فهل تأتي بما يهوى الشراع؟

 ها أنت تصبح في الضياع..

في اليأس.. شاة عاجزة..

ماذا لها إن سلت السكين غير المعجزة؟!"…

وهجر نجيب سرور المسرح الذي كان يدرس فيه تحت إشراف المخرج الكبير نيكولاي أخلوبكوف متعللا بأن أخلوبكوف مخرج شكلي يهوى المؤثرات الصوتية والضوئية ولا يغوص في أعماق النص المسرحي. وقد شاهدت بالفعل مسرحية " "هاملت" من إخراج أخلوبكوف فأصم أسماعنا دوي الطبول في أوركسترا المسرح، و أغشت أبصارنا الأضواء الباهرة التي كان يسلطها على الصالة. ومع ذلك فلم يكن هذا هو السبب الحقيقي الذي نفر نجيب من دراسة المسرح، وإنما كانت الأزمة الحادة التي أخذت تتفاعل في أعماقه، والتي لم أستطع – رغم كل ما بذلت من جهد آنذاك – أن أدرك  أسبابها وبواعثها. كنت لا أرى غير ظاهرها: الإغراق في الشراب، اليأس المطبق، الإحباط المطلق. كل ما استطعت أن أدركه هو أن إغراقه في الشراب كان الوسيلة التي لم يجد سواها للهروب من أزمته. وذات مرة سألته مستنكرا – وكنت أجالسه في أحد المطاعم:

- لماذا يفرط في الشراب إلى هذا الحد؟

-  لكي أنسى!

-  وما الذي تريد أن تنساه؟

- وهل تراني أذكر! (أجاب بروح دعابته الحاضرة دائما)

في أواخر فترة وجوده في موسكو، حوالي عام 1963 بدأ نجيب يكثر من الحديث عن النفوذ اليهودي الصهيوني في الاتحاد السوفييتي. واستنكرنا منه ذلك بشدة، إذ كنا نعيش "عصر الأممية"، ولم نصدق أن الاتحاد السوفييتي العظيم يمكن أن يكون خاضعا للنفوذ الصهيوني، واعتبرنا - أنا وزملائي -  أن نجيب يغالي كعادته، وخاصة في ظل تفاقم أزمته الشخصية. وبعد ذلك بسنوات أدركت مدى صواب ما يقال عن عين الفنان التي ترى ما وراء الظاهر و تغوص إلى أعماق الأشياء، وتكشف لنا مالا نراه، مثل عيني زرقاء اليمامة! وأنا لا أريد هنا أن أقول أن نجيب سرور كان محقا تماما آنذاك، ولكنه رأى بوادر الظاهرة التي لم تتكشف لنا إلا فيما بعد.

ثم وقعت الحادثة التي وضعت نهاية لبقاء نجيب سرور في موسكو...

كان يسامر أحد الأصدقاء اليمنيين في مطعم فحدثت مشاحنة بينه وبين أحد الرواد الذي ظنهما يهينانه. وتدخل رجال الشرطة وحاولوا اقتياده بليّ ذراعيه. وكان نجيب قوي البنية فتخلص منهم بقوة اعتبروها مقاومة، فاجتمعوا عليه واقتادوه إلى مبنى الشرطة حيث أوسعوه ضربا. وقال لي نجيب وهو يروي هذه الواقعة: لقد بكيت آنذاك ليس من الألم بل على انهيار المثال، وأحسست أنه لا فرق بين شرطة سوفييتية ومباحث مصرية، فكلها أجهزة قمع، وإنما نحن الذين صدقنا الأوهام عن "إنسانية الاشتراكية". وكعادته "نظر" نجيب لهذا الحادث واختزل فيه كل جوانب الظاهرة!

وسافر نجيب إلى بودابست بدعوة من أحد اللاجئين السياسيين المصريين هناك، حيث عمل في القسم العربي بإذاعة بودابست، و التف حوله العرب ورحبوا به، ولكن سرعان ما عاودته أزمته التي لم يفلح تغيير المكان في إطفاء جذوتها، وكان يتصل بي من هناك هاتفيا، مؤكدا على استفحال النفوذ الصهيوني لا في القسم العربي في الإذاعة فحسب بل وفي معظم أوجه الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في المجر. وبالطبع أخذت ما قاله على محمل المبالغة المعهودة فيه...

وذات مرة اتصل بي من بودابست، وكان ذلك في ربيع عام 1964، وطلب من عاملة البدالة أن تكون المكالمة على حسابي، فوافقت مستغربا، وعندما تم الاتصال أخبرني أنه طلب ذلك لأنه لا يملك ثمن المكالمة، وقال بصوت متهدج أفجعتني نبرته المتهالكة إنه جائع ولم يأكل منذ أيام، وسيذهب غدا إلى السفارة المصرية " ليسلم نفسه" (كما قال) لأنه لم يعد يحتمل الزيف المحيط به ويريد أن يعود إلى مصر ليموت فيها، مثل سنوحي! رجوته أن يهدأ ولا يتسرع وسنحاول تدبير الأمر، ولكنه أصر قائلا إنه لم يعد ثمة معنى للاستمرار في لعبة الخداع، فالعالم كله لصوص ومخدوعون، وما المذاهب إلا أساليب يلجأ إليها اللصوص لتغطية سرقاتهم. وبهذه المناسبة فقد كتب نجيب سرور في بودابست قصيدته الشهيرة " المسيح واللصوص" حيث "اتهم" فيها المسيح بأنه السبب في ظهور اللصوص الذين أخذوا يتاجرون باسمه، وباسمه يحكمون! وحين يحاول "مسيح نجيب سرور" أن يرد على الشاعر بأنه سيعود ليصحح الأوضاع يجادله الشاعر:

- هل تصدق ما تقول؟

- الأب قال بأنني حتما أعود

ملكا على أرض البشر

لتسود في الناس المسرة والسلام!

- لو عدت.. منذا يعرفك؟

- سأقول: جئت أنا المسيح!

- سيطالبونك بالدليل.

- ستكون في جيبي البطاقة والجواز

- هذا قليل..

ما أسهل التزوير للأوراق في عصر اللصوص.

ولديهم (الخبراء) سوف يؤكدون

أن الهوية زائفة!

- لكن عليها الختم.. ختم الأب ..

- يا بئس الدليل!

سيؤكد الخبراء أن الختم برهان على زيف الهوية!

- سأريهم هذي الثقوب..

في جبهتي - أنظر - وفي الكفين، في الرجلين..

جئت أنا المسيح!

- سيقول لوقا: قال مرقص

إن متى قال" يوحنا يقول:

"في البدء كان الأمر "أصلب

والآن صار الصلب أوجب!"

حتما ستصلب من جديد

هم في انتظارك - كل اتباعك، قطعان اللصوص -

هم في انتظارك بالصليب...

ماذا؟ أتبكي؟ كل شئ مضحك حتى الدموع!

العصر يضحك من دموعك، من دموعي، عصرنا

عصر اللصوص،

بل أنت... حتى أنت لص!

لو لم تكن ما كان في الأرض اللصوص!

حتى أنا لص.. ألم أخدع طويلا باللصوص؟!

 

ونقول بين قوسين إن الأديب المصري الكبير يوسف إدريس كتب في نفس الفترة تقريبا مسرحية "المخططين" التي تتصدى أيضا لظاهرة استيلاء "جماعة المنتفعين" على الحكم، ومنع أي محاولة لتصحيح الأوضاع حتى لو كانت من صاحب الفكرة نفسه! وهذا  دليل انتشار ظاهرة عدم الثقة في الأنظمة الحاكمة آنذاك و التي كانت تتشدق بالشعارات الديماغوجية عن الحرية والديمقراطية والاشتراكية في غيبة تامة لهذه المثل.

على أن نجيب سرور كتب في نفس الفترة في بودابست روايته الشعرية الرائعة "ياسين وبهية" التي حولها المخرج كرم مطاوع إلى مسرحية قدمت على "مسرح الجيب" في القاهرة عام 1965 بعد عودة نجيب سرور إلى مصر. وتمثل هذه الرواية رؤية جديدة لقصة ياسين وبهية المعروفة في الأدب الشعبي المصري، إذ يجعل نجيب من بطلها مناضلا ضد الإقطاع وثائرا على الظلم، ومضحيا بحياته في سبيل تحرير الفلاحين، كاسبارتاكوس محرر العبيد. فكيف اجتمع في نفس نجيب ذلك الضياع الخانق واليأس المطلق مع هذا الإيمان الحار بعدالة النضال من أجل الحرية، والثورة على الظلم والاضطهاد؟ أهي أصداء مرارته القديمة من الإقطاع الذي أهان الوالد أمام ابنه الصغير؟.. أم هي روح الفلاح المصري الكامنة في أعماق نجيب سرور، والتي تتجاوز الإيمان أو الكفر بالنظريات والمذاهب، لأن النظريات تقوم وتسقط، أما الأرضية الفلاحية الضاربة في عمق التاريخ المصري لآلاف السنين، فتبقى هي الأساس الراسخ الذي ينفذ من اليأس والضياع. وبالفعل، فلو تجاوزنا عن الخط المتعرج والمتأزم لحياة نجيب سرور، فسنجد خطه الإبداعي، ممثلا في مسرحياته التالية لـ "ياسين وبهية" ("أه يا ليل يا قمر" و"قولوا لعين الشمس:.") هو خط نضال العامل المصري والجندي المصري - بعد الفلاح في ياسين وبهية - ضد الظلم الطبقي والاستعمار الأجنبي. ولهذا فبوسعي أن أقول إن نجيب سرور، رغم كل شطحاته وتقلباته وضياعه و أزماته، كان فنانا ملتزما بقضايا شعبه ووطنه على المستويين المصري والعربي، حتى الرمق الأخير...

وكم مرة طرحت على نفسي هذا السؤال: ما السبب في الأزمة التي لازمت نجيب سرور طوال حياته القصيرة وكانت السبب في رحيله المبكر؟

في البداية ظننته الاضطهاد. ولكن نجيب عاد إلى مصر فلم يتعرض للملاحقة والسجن. وكنت أظنه الظلم وحرمانه من فرصة تحقيق مواهبه. ولكنه نشر دواوينه ومسرحياته، ومثل على المسرح وفي التليفزيون، وأخرج للمسرح وأخرجت له مسرحياته. ربما لم ينل كل ما كان يريد. ولكنه لم يحرم تماما...

ثمة تفسير منطقي واحد لهذه الأزمة، لا أجد غيره..

إنه الصراع في نفسية الشاعر بين الواقع المرفوض.. والمثال المستحيل..

إنها مأساة العقل، الذي يحفر كالمثقاب في طبقات الزيف والأكاذيب ليصل إلى الحقيقة، ولكنه، ويا للأسف، يواصل الحفر حتى ينفذ إلى الجانب الآخر، محدثا ثغرة في السد تتسع مع الزمن لتندفع منها المياه المخزونة مدمرة كل شيئ!...

الفنان شمعة تحترق.. لتضئ لنا الدرب إلى الحقيقة، والخير، والجمال...

ونجيب سرور فنان لم يدخر ضوءه، فاحترق سريعا كشهاب مرق في سمائنا، ولكنه ترك في نفسي، وفي نفوس الكثيرين غيري، أثرا ساطعا لا ينسى.. لأنه أثر الموهبة المبدعة...

***   ***   *** 

 

 

في المثقف اليوم