شهادات ومذكرات

محمد فتحي عبدالله.. العالمِ الكفيف الذي تحدي الصعاب

محمود محمد عليعرفت الدكتور محمد فتحي عبدالله (1945-2018) منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما جاء ليناقشني في رسالتي للدكتوراه التي كان يشرف عليه أستاذنا الدكتور عاطف العراقي، في موضوع بعنوان " المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة "، وقد كانت مناقشته أكثر من رائعة ؛ حيث ارتقي بها من المستوي العادي للمناقشة إلي مستوي مناقشة الفكر، والحق أقر أنني استفدت منه كثيراً. كذلك كان الدكتور محمد فتحي أحد أعضاء لجنة الفحص (في تعييني مدرساً للمنطق وفلسفة العلوم بكلية الآداب – جامعة حلوان، والتي تضم معه الأستاذ الدكتور حسن عبد الحميد والأستاذ الدكتور علاء حمروش رحمه الله)، وعندما نُقلت من جامعة حلوان إلي جامعة أسيوط في عام 1996م أخذت علاقتي به تتوطد وتزداد، خاصة بعد قبول سيادته تدريس مقررات الفلسفة اليونانية-  سواء في مرحلة التعليم الجامعي (الليسانس) أو لطلبة السنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة بجامعة أسيوط .

وخلال تلك الفترة أدركت أن محمد فتحي بالنسبة لي ليس مجرد أستاذ عادي، إنه نموذج متفرد في عالم الفلسفة والفكر، فعندما تستمع إليه في حلقات البحث والنقاش، وفي الندوات أو المساجلات الفكرية تجد نفسك أمام عالم كبير يصعب أن يصمد أمامه أي منافس أو محاور أو مجادل . ولكن عندما يلتقي معنا في بيته، أو في أمسيات ولقاءات خاصة تجمع بينه وبين تلاميذه المقربين تجده بسيطاً ومتواضعاً ووديعاً مسالماً مثل طفل برئ .

وعندما يكتب عن الفلسفة اليونانية أشعر بأن أنفاسه تترد بين الكلمات، وأن روحه المترددة القلقة تبعث بداخلي حيرة جميلة، وتثير في أعماقي السؤال تلو السؤال . ومحمد فتحي علي الأوراق هو محمد فتحي في الحياة .. لا فرق بين الإنسان المبدع .. كلماته عندما يحادثك هي نفسها كلماته التي يكتبها . وعندما أقرأ عبارة واحدة أو سطراً له في كتاب أو بحث ما لست بحاجة إلي أن أبحث عن الاسم، فاسمه منقوش بثنايا كلماته وتراكيب عباراته .

وكم أُحار عندما أكتب عن محمد فتحي، وأي الطرق أسلك، وأي الفضاءات أرتاد؟ تُري هل أتحدث عن أفكاره في الفلسفة اليونانية، أم رؤاه في المنطق، أم موقفه النقدي، لا شك أن هذا العالم الخصب لا يمكن اختزاله في مقال، إن الأمر يحتاج إلي مئات الصفحات، لذلك فقد حاولت جهدي أن أفتش عن خيط واحد يجمع كل هذه الاهتمامات المتنوعة، ويوحد كل هذه الجوانب، فاكتشفت أن محمد فتحي يصعب أن نصفه أو نحصره داخل تيار فكري محدد، فيصعب أن نصفه بأنه ماركسي أو وجودي أو بنيوي .. أو غيره من التيارات .. إنه كل هؤلاء، بمعني أنه استوعب فلسفات عصره وصهرها جميعاً في بوتقة فكره، وأخرج لنا في النهاية رؤية فلسفية قوامها : أنّ النقد هو روح الفلسفة وقلبها النابض، وهو الباعث الأساسي لتحولاتها المتتابعة منذ نشأتها العقلية والمنهجية الأولى عند الإغريق حتى صورها وأشكالها المختلفة عند المحدثين والمعاصرين، فقرر أنه لا يمكن أن يكون هناك مفكر أصيل بدون موقف نقدي، فالموقف النقدي هو بمثابة نقطة الانطلاق، كما أنّه ليس ثمة معرفة مقبولة إلا بعد بحث وفحص وتمحيص، فالنظرة النقدية تكون الحافز والدافع للباحث لسبر غور موضوعه، ولولا النظرة النقدية للظواهر الكونية ولفكر السابقين لما وجد لدى الباحثين والعلماء والمفكرين موضوعات للبحث والدراسة، ولأصبح الإنسان تابعاً لا مبدعاً، مقلداً لا مجدداً، وبدون هذه النظرة أيضاً تموت روح الابتكار والإبداع.

والدكتور محمد فتحي من مواليد محافظة الاسكندرية بجمهورية مصر العربية 1945 م، فقد بصره صغيراً في سن الطفولة، وتخرج من كلية الآداب جامعة الاسكندرية- قسم الفلسفة والاجتماع سنة 1970 م بتقدير جيد، وحصل علي دبلوم في حياة وتعاليم المسيح بالمراسلة من المدرسة الإنجيلية بنبراسكا بالولايات المتحدة الأمريكية بتقدير ممتاز سنة 1971م، ثم دبلوم في التذوق الموسيقي من مدرسة هادلي للدراسة بالمراسلة بولاية الينوي بالولايات المتحدة الأمريكية فبراير عام 1972 م بتقدير ممتاز، ثم دبلوم في اللغة اللاتينية والأدب الروماني من مدرسة هادلي للدراسة بالمراسلة بولاية الينوي بالولايات المتحدة الأمريكية فبراير عام 1973 م بتقدير ممتاز.

ثم بعد ذلك حصل علي درجة الماجستير في الآداب من قسم الفلسفة كلية البنات - جامعة عين شمس تخصص "فلسفة يونانية" بتقدير ممتار أغسطس عام 1978 م وموضوعها "الاتجاه التجريبي في فلسفة أرسطو"، وكان ذلك تحت إشراف الأستاذ الدكتور "عاطف العراقي" رحمه الله. ثم حصل علي درجة الدكتوراه من كلية الآداب – جامعة الاسكندرية 1984 م في تخصص "الفلسفة اليونانية" وموضوعها " الجدل بين أرسطو وكنط"، وكان ذلك تحت إشراف الأستاذ الدكتور "محمود فهمي زيدان" رحمه الله . أثري المكتبة العربية بالعديد من الكتب والمؤلفات في تخصص الفلسفة اليونانية والمنطق، وتنوعت أعماله ما بين أبحاث نقدية ومعاجم ودراسات في تاريخ الفلسفة، كما ساهم بكتابة بعض المواد العلمية بعدد من الموسوعات.

اتجه محمد فتحي للسلك الجامعي حيث تم تعيينه مدرساً مساعداً بكلية الآداب – جامعة طنطا في 5/11/1979، ثم عين مدرساً للفلسفة اليونانية بذات القسم في 30/4/1984م، وترقي إلي درجة أستاذ مساعد بنفس القسم وبذات الكلية اعتباراً من 31/1/1990م، ثم ترقي إلي درجة أستاذ للفلسفة اليونانية بنفس القسم وبنفس الكلية اعتبارا من 17/9/1995م . كما تم تعيينه رئيساً لقسم الفلسفة بنفس القسم ونفس الكلية اعتباراً من 6/8/1995م حتي 15/10/1998م لمدة ثلاث سنوات ورئيس قسم الفلسفة بنفس القسم ونفس الكلية اعتباراً من 6/8/2003م حتي 31/7/2005م، وأستاذ الفلسفة اليونانية المتفرغ بنفس القسم ونفس الكلية اعتباراً من 1/8/2005 .

ومن مؤلفاته الفلسفية علي سبيل المثال لا الحصر: كتاب الجدل بين أرسطو وكنط، وكتاب دراسات في الفلسفة اليونانية (بالاشتراك مع الدكتور علاء عبد المتعال)، وكتاب الفلسفة اليونانية مدارسها وأعلامها من طاليس إلي أفلاطون جزآن (بالاشتراك مع د. جيهان السيد شريف)، وكتاب انتقال الفلسفة اليونانية إلي العالم الإسلامي، وكتاب قوانين الفكر بين أرسطو وهيجل دراسة مقارنة، وكتاب المعرفة عند فلاسفة اليونان، وكتاب النزعة التجريبية عند د. زكي نجيب محمود، وكتاب معجم مصطلحات المنطق وفلسفة العلوم للألفاظ العربية والإنجليزية والفرنسية واللاتينية، وكتاب مترجمو وشراح أرسطو عبر العصور، وكتاب المدرسة الفيثاغورية، وكتاب النحلة الأورفية أصولها وآثارها في العالم الإسلامي ... الخ.

ولم يكن محمد فتحي ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

ولذلك قام محمد فتحي بالتدريس في تسع جامعات مصرية، واشترك في الإشراف علي رسائل علمية في 12 جامعة مصرية، وناقش مئات الطلاب في مختلف تخصصات الفلسفة علي مدار سنوات، وحكم مئات الأبحاث في تخصص الفلسفة داخل وخارج مصر، وكان عضواً باللجنة العلمية الدائمة للترقيات بالمجلس الأعلى للجامعات، وعضواً بلجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضواً بلجنة الديانات والفلسفة بمكتبة الاسكندرية.

وقد شارك محمد فتحي في إنشاء مراكز لرعاية الطلاب المكفوفين في الجامعات المصرية، وشارك في العديد من المؤتمرات الدولية، وقام بتحكيم المقررات الدراسية الفلسفية بوزارة التربية والتعليم .امتدت اهتماماته العلمية إلي ما وراء مجال الفلسفة .

كما اُشتهر بنشاطه الكبير وعلمه الغزير وتمكنه في مجال تخصصه، وتتلمذ علي يديه المئات من الطلاب في مختلف جامعات مصر، وحصل الكثير من طلابه بهيئات التدريس علي درجة الاستاذية، وعُرف عنه طيب القلب ونظافة اليد ودماثة الخلق، فكان نعم الأستاذ والأب والأخ والصديق، استمر بالتدريس والتأليف والإشراف علي الرسائل العلمية ومناقشتها دون انقطاع علي مدار أكثر من ثلاثين عاما إلي أن لبي نداء ربه في الثاني من أكتوبر عام 2018 .

وحين توفي كتب نعياً في حقه (نشرته في بوست علي مواقع التواصل الاجتماعي) بعنوان" وداعا محمد فتحي عبد الله أستاذ الفلسفة بآداب طنطا"؛ حيث قلت : فقدنا بالأمس الأستاذ الدكتور محمد فتحي عبد الله، المفكر الكبير، والمعلم القدير، والصديق العزيز. ليس من بين أستاذة الفلسفة اليونانية من يضاهيه في سعة الأفق، أو القدرة على الاندهاش والإدهاش، أو بلاغة وبساطة التعبير، أو الحضور الطاغي، أو خفة الظل. سوف أفتقده كثيرا، كما سوف يفتقده الكثيرون ممن عرفوه، عن قرب أو بعد، وهمُ كثر. وداعا أيها الصرح الفكري والوطني الشامخ".

كما كتب عنه الدكتور مصطفي النشار (في مقاله نشرت بجريدة الوفد بعنوان د. محمد فتحي عبدالله) فقال في حقه :" لقد عرفته في أواخر سبعينيات القرن الماضي شاباً كفيفاً جاء ليعطى أحد أساتذة القسم رسالته العلمية التى أعدها للمناقشة وكانت عن الجدل بين أرسطو وكانط، وتعجبت من ذلك متسائلاً ألم يكن يكفيك دراسة الجدل عند أحدهما فهما فيلسوفين كبيرين ومؤلفاتهما في غاية الصعوبة ومن عصرين مختلفين والمقارنة بينهما تقتضى الإلمام بالمحيط الفكري للعصر اليوناني ويقف أرسطو على قمته والعصر الحديث وكان ذروته كانط فكانت ابتسامته الصافية خير رد وكأنه يقول لقد تعود على اجتياز الصعب دائماً فقد كان يتقن اللغة اليونانية ودرسها على أحد الأساتذة الأجانب، بالإضافة إلى الإنجليزية وكان يجيد اللغة العربية إجادة المجمعيين (أى أعضاء مجمع اللغة العربية).. وكنت أسمع من أساتذتي وزملائي عن كيف أنه وهو الكفيف يدرس ببراعة المنطق الصوري رغم صعوبة ذلك على من في نفس ظروفه وهو منطق أرسطي فى الأساس والأعجب أنه درس أيضاً المنطق الرمزي الحديث الذى يعجز عن فهمه وتدريسه المختصون فيه من المبصرين فإذا هو يدرسه بكل بساطة ويسر ويصر على ذلك عدة سنوات. لقد كان مثالاً للتحدي وقوة الإرادة ولا يقارن في ذلك إلا بعميد الأدب العربي د. طه حسين.

ويستطرد د. مصطفي النشار فيقول : "... وكم كان دقيقاً فى ملاحظاته ومناقشاته التفصيلية للرسائل العلمية، ويناقش الطلاب في أدق التفاصيل، ولعله بذلك كان يتحدى قدراتهم البصرية، وعدم دقتهم فى مراجعة ما يكتبون سواء في الأخطاء اللغوية، أو حتى الأخطاء المطبعية، وكذلك فى كتابة بيانات المصادر والمراجع. وقد كان موسوعة متحركة تعرف تلك المصادر والمراجع بطبعاتها المختلفة سواء في لغتها الأصلية، أو في تراجمها العربية. لقد فقدت بوفاته متعاً فكرية وإنسانية لا تعوض؛ فلقد كان في كل المواضع التي تزاملنا فيها سواء في عضوية لجان الترقيات أو عضوية المجلس الأعلى للثقافة على عكس الكثيرين من الأصدقاء والزملاء عف اللسان لا يذكر أي زميل إلا بما فيه من خير ولم أسمع منه يوماً ذماً لزميل أو لوماً لآخر، لقد كان خلقه الرفيع وتربيته العالية وأصله الكريم فضلاً عن علمه الغزير يمنعه من ذلك ويقوده دوماً إلى كل فعل كريم وإلى كل قول كريم، لقد كان سنداً للجميع وخاصة للضعفاء والمظلومين من الزملاء والطلاب ولا شك أن كل ذلك سيبقيه حياً في القلوب والعقول رغم أنه فارق دنيانا الفانية في الثاني من شهر أكتوبر الحالي رحمه الله وغفر له جزاء ما قدمه لبلده وجامعته وطلابه".

وبعد هذه الشهادة التي أدلاها د. مصطفي النشار في حق محمد فتحي نقول : لقد كان محمد فتحي نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا اخلاصهم لإسلافهم بالانغلاق، والتزمت، وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء .

كما كان محمد فتحي واحداً من كبار الرواد في دراسة الفلسفة اليونانية في مصر، والعالم العربي الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة اليونانية من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

تحية طيبة لمحمد فتحي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله الدكتور محمد فتحي، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت امرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم