شهادات ومذكرات

حلمي النمنم والأبعاد الحقيقية لتجديد الخطاب الديني

محمود محمد عليبين الحين والآخر أمضى إليه عندما أسافر إلي مدينة القاهرة، ألتقيه في مكتبه بدار الهلال وأستمع إلى كلماته وتحليلاته، لا يزال الرجل حاضراً مهموماً بالوطن وبالتطورات التي يشهدها، إنه حلمي النمنم .. القيمة والقامة، الإنسان البسيط، الوارف كالظل، الزاخر كالنهر، العميق كالبحر، الرحب كالأفق، الخصيب كالوادي، المهيأ كالعلم، رجل الفكر المتميز، وزير ثقافة مصر السابق.

لقد تعرفت عليه منذ عام 2008، وكان وقتها رئيس تحرير مجلة المصور، أرسلني إليه الدكتور حسن عبد الحميد (أستاذ الفلسفة بكلية الآداب- جامعة عين شمس)، لكي يكتب مقالا ضد اللجنة العلمية لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين في مجال الفلسفة، ومرفق معها شكوي تقدمت بها ضد تلك اللجنة التي تعسفت ضدي؛ وخاصة في ترقيتي لدرجة أستاذ، وكانت الشكوى المقدمة مني هو عبارة عن طلب أرسلته آنذاك لوزير التعليم العالي (وهو الدكتور هاني هلال آنذاك) ضد أحد أساتذة الفلسفة الذين يحكمون أبحاثي العلمية، ولا أنسي وقوف حلمي النمنم معي والذي أسفر بعد ذلك عن انتصار مكلل بالنجاح لي في حصولي علي درجة الأستاذية بجدارة .

وحلمي النمنم هو كاتب صحفي، ومؤرخ مصري مهتم بالقضايا التاريخية والسياسية والاسلامية. حاصل على ليسانس من كلية الآداب بقسم الفلسفة بجامعة عين شمس عام 1982. بعد تخرجه من الجامعة، عمل صحفياً بقسم التحقيقات، في مجلة حواء، بدار الهلال، ثم انتقل منها إلى مجلة "المصور"، حيث تدرج في المناصب، حتى وصل إلى منصب رئيس مجلس إدارة دار الهلال. شارك في تأسيس جريدة الدستور، والذى خرج الإصدار الأول منها عام 1995، كأول جريدة خاصة تصدر منذ قيام ثورة يوليو 1952، كما شارك في تأسيس جريدة "المصري اليوم". كما تولي رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية، ثم تولي منصب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأخيراً تولي وزيراً للثقافة منذ 19 سبتمبر 2015 إلي خرج منها في 2018 وهو الآن يمارس كتاباته في المقالات والأبحاث ... متعه الله بالصحة والعافية.

قدم حلمي النمنم للمكتبة العربية أكثر من عشرين كتاباً : نذكر منهم علي سبيل المثال : كتاب أيام سليم الأول في مصر، وكتاب سيد قطب ..سيرة وتحولات، وكتاب الرائدة المجهولة زينب فواز، وكتاب حسن البنا الذي لا نعرفه، وكتاب الأزهر الشيخ والمشيخة، وكتاب الحسبة وحرية التعبير، كتاب سيد قطب وثورة يوليو، وكتاب طه حسين والصهيونية، وكتاب وليمة للإرهاب الديني، وكتاب رسائل الشيخ علي يوسف وصفية السادات، وكتاب التاريخ المجهول: المفكرون العرب والصهيونية وفلسطين.

وقد أسهم حلمي النمنم بعضويته في كثير من المؤسسات العلمية، ومراكز البحث العلمي العالمية، وألقي العديد في بحوث في مؤتمرات وندوات محلية ودواية، منها أبحاث نشرت مجلات متخصصة، كما حاضر عن الفكر العربي الحديث والمعاصر في كثير من الجامعات المصرية والعربية.

كما كان الرجل كاتباً مرموقاً فى عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية كجريدة الأهرام، والوطن، وروزا ليوسف، والوفد، والبوابة نيوز، وفيتو، والأخبار ...الخ.

كان حلمي النمنم مهتما في كل كتاباته ومقالاته بقضية تجديد الخطاب الديني، فهو يري أن الحاجة إليه تمثلت عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، عندما كانت هناك رغبة من قبل كثير من الدول العربية بما فيها مصر لتبرئة عموم المسلمين والإسلام ذاته، مما حدث فى الولايات المتحدة، من تدمير لبرجى مركز التجارة العالميين، وذلك لإثبات أن تنظيم القاعدة وقائده أسامة بن لادن، ليسوا هم الإسلام وليسوا كل المسلمين، فضلاً عن تبرئة الحكومات من شبح أى اتهام بالمسؤولية أو تحمل جزء من المسؤولية عما حدث.

فى هذه الأجواء يري حلمي النمنم أنه ظهر الحديث عن تجديد الخطاب الدينى فى عدد من البلدان، فى مصر وتونس والمغرب واليمن والمملكة العربية السعودية، وهناك جهود بذلت فى هذا الصدد.. مؤتمرات عقدت وبيانات صدرت، وثائق أعلنت لمواجهة هذه المشكلة، فى مصر تولت مكتبة الإسكندرية هذه المهمة، وتحديداً منتدى الحوار بها، وفى يونيو 2003 ألقى د. حمدى زقزوق، وزير الأوقاف آنذاك، محاضرة بعنوان "تجديد الخطاب الدينى"، وأعقبها حوار مفتوح حول نفس القضية أداره د. جابر عصفور؛ وشهدت مصر فى تلك الفترة سياسات ما بات يعرف باسم المراجعات التى شهدها سجن العقرب وسجون أخرى قام بها أعضاء الجماعة الإسلامية، وأشرف على تلك المراجعات جهاز مباحث أمن الدولة.. فى رغبة من الدولة المصرية لتصفير ملف التشدد والتطرف والإرهاب، حتى لا يصيبنا ما أصاب أفغانستان والعراق؛ وظل حديث التجديد قائما، حتى وجدنا الرئيس مبارك يطالب به فى خطاب له سنة 2010 أثناء إحدى المناسبات الدينية.

لذا فقد أصدرت الوزارة (كما يقول حلمي النمنم) وقتها كتاب (تجديد الخطاب الدينى.. كيف ولماذا؟) ثم كتاب (دليل الإمام إلى تجديد الخطاب الدينى)، كما عقد ندوة مشتركة فى القاهرة مع نظيره التونسى وعدد من علماء تونس حول هذا الموضوع.. أما المؤسسة الدينية الرسمية، أقصد الأزهر الشريف فقد كان بعيدا عن هذه المهمة، لم يطالبه أحد بالتجديد، ولا بدا أنه منخرط فى القضية أساساً ولا معنىّ بها اللهم إلا بعض أحاديث أدلى بها فضيلة الإمام الأكبر د. سيد طنطاوى فى هذا الملف، وبينما كان الحديث عن التجديد يجرى فى جانب، كان على الأرض فعل آخر مناقض تماما لهذا التجديد، كان هناك دعم سياسي ضخم لجماعة الإخوان، فى النقابات وفى خوض انتخابات مجلس الشعب.

ويستطرد حلمي النمنم فيقول :" مضت الأيام وغادر الرئيس مبارك موقعه فى 11 فبراير 2011، لنكتشف جميعاً أنه لم يتم تجديد للخطاب الدينى، على أى مستوى، بل حدث انتكاس له (وخاصة بعد أن) وجدت التيارات المتأسلمة. فى الفراغ السياسي الحادث بعد 11 فبراير فرصتها التاريخية، وراحت تعلن عن وجودها بأوضح الصور وبلا أى مواربة كما كان يحدث من قبل.. وامتلأت أرصفة شوارع القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى بكتبهم التى تدل عليهم وتعلن عنهم، وهكذا وجدنا فى وقت واحد ست طبعات من كتاب سيد قطب "معالم فى الطريق"، بينها طبعتان بلا رقم إيداع في دار الكتب، أى أننا بإزاء عملية تزوير تامة، وجدنا كذلك عدة طبعات من رسائل ومذكرات حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، وهناك كتاب للشيخ محمد الغزالى لم يكن يطبع ولا يوزع فى مصر، منذ أيام الرئيس السادات وهو كتاب " قذائف الحق"، إذ يتضمن الكتاب فى بعض فصوله تحريضا واضحا على الأقباط المصريين.

وكان الاستفتاء الذى جرى سنة 2011 على التعديلات الدستورية، كما يري حلمي النمنم فرصة أمام تلك الجماعات لتعبر عن حضورها القوى، وقد أطلقوا على عملية الاستفتاء "غزوة الصناديق"، ثم جاءت الانتخابات البرلمانية لتؤكد الحضور المؤثر، وهكذا جاء مجلس الشعب سنة 2011 وبعده مباشرة مجلس الشورى، وكانت الأغلبية فى الأول للإخوان وفى الثاني كانت الأغلبية للسلفيين، وفى المجلسين سمعنا ورأينا عجب العجاب، هناك من اقترح مشروع قانون الهبوط بسن الزواج حتى التاسعة للفتيات، أى تزويج الأطفال، وهى جريمة إنسانية ودولية بكثير من المقاييس، وتصطدم مع اتفاقيات دولية وقعت عليها مصر، وهناك من طرح حلاً لمشاكل مصر الاقتصادية أن تتجه مصر إلى تجارة العبيد وبيع البشر ومن عوائد تلك التجارة نسدد ديون مصر، وكان الطرح مسيئا لمصر وللمصريين ومسيئا لدين الإسلام وينكأ جراح تاريخية لدى بعض الشعوب والمجتمعات الأفريقية، وامتلأت فضائياتهم بأفكار وآراء من هذا النوع، فضلا عن آراء وأفكار تبيح لهم العنف والاعتداء على المواطنين والمواطنات المخالفين لهم فى الفكر وفى التوجه، وتدعمت تلك الحالة من التشدد والميل إلى العنف بوجود الإخوان فى السلطة.

إلي أن جاء يوم 3 يوليو 2013، وكان فاصلاً، حيث خرجت جموع الشعب المصري فيما عن لا يقل عن عشرين مليون تطلب بإزاحة حكم الإخوان برئاسة محمد مرسي الذي عصف بالحريات ودخل في عدواه مع كل طوائف الشعب ؛ إلا أن جماعة الإخوان كما يقول حلمي النمنم لم تقر  بالأمر الواقع، وحشدت أنصارها فى ميداني رابعة والنهضة، كان الحشد قائما قبل 30 يونيو بأسبوع تقريبا، لكنه بعد 3 يوليو أخذ فى الازدياد.

وهنا يقول حلمي النمنم : ومن حسن الحظ أن المصادر العربية والإسلامية، حفظت لنا كثيرا من السجالات التاريخية التى جرت فى لحظات فارقة من التاريخ الإسلامي، مثل موقعة الجمل وموقعة صفين ثم النهروان، وبمقتضى تلك المعارك تحول اتجاه التاريخ الإسلامي وانقسم المسلمون إلى سنة وشيعة وخوارج، ويمكنك القول بضمير مستريح إن دهاة السياسة فى العالم يتراجعون أمام دهاء عمرو بن العاص ومعاوية وكبار القديسين يتصاغرون أمام نموذج على بن أبى طالب ورجاله، وتجد فى معركة النهروان ذروة استعمال النصوص القرآنية فى غير موضعها ولا سياقها، حتى إن الإمام على، كرم الله وجهه، يطلب عدم محاجاتهم- الخوارج- بالقرآن الكريم، لأن القرآن حمّال أوجه، وبعد ذلك كثرت السجالات فى التاريخ الإسلامي، ولكن لن ترى الخطاب الديني تردى فى لحظة إلى مستوى التردي الذى وصل إليه الخطاب فى منصة رابعة العدوية.. خطاب من عينة أن سيدنا جبريل تنزل فى ميدان رابعة العدوية، يزف إليهم بشرى النصر وعودة الرئيس المعزول، لاحظ أن جبريل هو ملك الوحى، ومن ثم فإن تنزله توقف بانتهاء نزول الوحى على سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، لكنهم جعلوه يتنزل عليهم فى رابعة، وذهب بعضهم إلى حد تخصيص آية فى القرآن الكريم، والقول إنها نزلت فى د. محمد مرسى، وادعاءات عدد منهم بأحلام فى المنام جاء إليهم فيها رسول الله يوصى ويبشر بنصر محمد مرسى.. وانتقل هذا الخطاب إلى الزوايا والمساجد التى كانوا يسيطرون عليها، وقد سمعت بأذنى ما قيل فى بعض من هذه المساجد وتلك الزوايا، وتأمل عبارات مثل " اللى هيرشه بالميه هنرشه بالدم" وغيرها وغيرها، وتم تناول بالاسم كل من ناوأهم تجريما واتهامات متدنية، وكان نصيب فضيلة الإمام الأكبر وقداسة البابا كبير.. كبير، وصف الإمام الأكبر بأنه " بابا الأزهر" وملأوا حوائط جامعة الأزهر بمدينة نصر بعبارات غاية فى البذاءة بحق فضيلة الإمام، وفعلوا الشئ نفسه على حوائط وجدران مبنى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وطال الأقباط جميعا التهديد والوعيد، بكلمات غاية في التردى والبذاءة، ويبدو أن الجماعة تصورت أن عنف الخطاب سيخيف أجهزة الدولة أكثر، فضلا عن أن رهانهم كان على الضغوط الخارجية، وتحديدا الإدارة الأمريكية، حتى إن رئيس مجلس الشورى "الإخوانى" قرر نقل اجتماعات المجلس إلى رابعة.. فيما يشبه إقامة دولة موازية فى رابعة.. تعمق فى رابعة خطاب التكفير ورفض الآخر بالمطلق، ولا أريد أن أنكأ جراحا حقيقية بسبب ذلك الخطاب الملئ بالكراهية، واستباحة كل شىء، حياة الآخرين والقيم والخلق والدين ذاته، هل نذكر فتاوى وكذلك وقائع «جهاد النكاح» وهل وهل...؟!!.

هذا الخطاب وما حواه مع عوامل أخرى، كما يقول النمنم دفع أنصاره إلى أن يقوموا بإحراق أكثر من خمسين كنيسة ومنشأة قبطية فى يوم واحد، يوم الفض، 14 أغسطس، وهذه حالة غير مسبوقة فى تاريخ مصر كله، يومها قال الأنبا تواضروس مقولته الشهيرة «وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن»، ومن جراء خطاب رابعة وجدنا شابا فى الإسكندرية يقذف بأحد المواطنين من أعلى سطح العمارة إلى الشارع، ولما سئل فى التحقيقات قال: "ضايقنى"، ولما صدر عليه الحكم بالإعدام، اعتبرته الجماعة شهيداً، الأخطر من هذا، هم أولئك الذين انطلقوا فى سيناء يقتلون أبناءنا من الجنود والضباط، وفى رابعة قال محمد البلتاجى " إن هذا الذى يجرى فى سيناء يمكن أن يتوقف فى لحظة...". كما أن هذا هو الخطاب الديني الذى ساد مع حكم الجماعة واتجه إلى التوحش مع ثورة 30 يونيو، وبالأحرى فى مواجهتها، ومازالت الجماعة تصر عليه إلى اليوم وتتخندق فيه، فى لقاء جرى على قناة B.B.C مؤخرا مع أمين عام الجماعة، حاولت المحاورة أن تنتزع منه إدانة أو رفضا لعمليات العنف والإرهاب التي تتم في سيناء، فتهرب تماما، واضطرت أن تقول له: «ترفض أن تدين أعمال العنف».

ويختم  حلمي النمنم حديثة قائلا: ربما يكون الرئيس عبدالفتاح السيسى هو أول رئيس جمهورية يهتم ويلح على قضية التجديد «تجديد الخطاب الدينى" منذ أن طرحها أول مرة سنة 2014، وكان يخاطب علماء الدين فى مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وعلى الأغلب فإن الرئيس لا ينطلق فى إلحاحه من موقف أيديولوجى أو موقف نظرى، بل بناءً على مشاكل فى الواقع لامسها بنفسه حين تولى الرئاسة، وربما قبل ذلك، رأى عمليات القتل والإرهاب التى تقوم بها الجماعة الإرهابية بحق الضباط والجنود فى سيناء، فضلًا عن المدنيين، وتابع كذلك عملياتهم الإرهابية بحق المواطنين الأقباط، بما يمثل هدمًا لنسيج المجتمع، ورأى كذلك محاولات تخريب وهدم المؤسسات والمنشآت العامة، بما يعنيه ذلك من هدم الدولة والعمل على إسقاطها تماما، وكذلك الخسائر الاقتصادية التي تنتج عن تلك العمليات، تراجع السياحة وهروب الاستثمار والمستثمرين، بما يؤدى إلى مزيد من الإفقار لبعض فئات المجتمع التي تستفيد وتتعيش من السياحة وعوائدها، وفى المشهد كذلك الدول التي أنهكها التطرف والإرهاب، والدول التي سقطت بالفعل من جراء المتشددين والإرهابيين.

تحيةً مني للأستاذ حلمي النمنم الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً . بارك الله لنا فيه قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم