شهادات ومذكرات

صفاء عبد السلام جعفر: أيقونة الابداع الفلسفي

محمود محمد عليظلت المرأة في تاريخ الفلسفة في هامش الفكر، رغم خطابات العقلانية، والحداثة، والاختلاف، وحقوق الإنسان، واللواتي اشتهرن من النساء في الكتابة الفلسفية، واقترنت أسماؤهم ( كما يقول صايم عبد الحكيم في مقاله عن: حلمي مطر .. أميرة الفلسفة) بالنضال الاجتماعي والسياسي، مثل (روزا لاكسبورغ) و(سيمون دي بوفوار)•• وداخل هذه المنظومة الفكرية إلتقى الغرب بالشرق، بحيث ارتبطت صورة المرأة العربية- الإسلامية بالأدب وصالوناته وبالحضور الأنثوي في المجالس الثقافية، كما هو الحال بالنسبة لـ (مي زيادة)، و(فدوى طوقان)، و(غادة السمان) و(نوال السعداوي) و( أحلام مستغانمي) و(فاطمة المرنيسي ).. وكأن سلطة الحريم في بنيتها اللا شعورية أقوى من مشاركتها في وجودها الاجتماعي الذي يتحرك في حدود ضيقة نحو الأفضل.

قد يعود ذلك إلى ''الصورة التي رسمها أرسطو'' للمرأة، كما ( يقول صايم عبد الحكيم في مقاله سالف الذكر) ، وأثر ذلك على التراث العربي- الإسلامي، إذ وجدنا بكيفية أو أخرى الإمام أبو حامد الغزالي يعرض ''بعض الحقائق الاجتماعية السائدة التي تحط من قيمة المرأة وقدرها، مستنداً إلى أحاديث متواترة يصعب الأخذ بصحة معظمها'' ، ويظهر هذا أيضا عند قراءة قواميس الفلسفة والفلاسفة وموسوعاتهم، سواء تلك التي أعلنت عن تقدميتها أو تلك التي قامت على أساس الفهم بغرض تجاوز الفكر الدوغمائي والجدلي، إذ نكتشف منذ الوهلة الأولى ذلك الوجود التراجيدي للمرأة كذات مفكرة، وكأن تاء التأنيث ثقيلة على مفهوم ''الفيلسوف''، مع أنّها لا تحمل بالمشروع الفلسفي، بل تصنعه وترسم آفاقه المستقبلية.

ولعل شخصية الدكتورة "صفاء عبد السلام علي جعفر" ، هي إحدى النماذج الفكرية التي نستلهم منها هذا الحس الفلسفي الذي ينبت في الأرض، كما تنبت أشجار النخيل في الصحاري العربية- الإسلامية، فأذهلت بذلك المؤرخ اليوناني (هيرودوت) بنشاطها ''ومشاركتها الرجل في جميع مناحي الحياة•• حتى أنّها وصلت إلى أعلى المناصب السياسية عندما حكمت البلاد بمفردها، أو مع زوجها'' ؛ وعلى خطى الأوائل من الفلاسفة في استحسانهم للحق، مهما كان مصدره أو موطنه، قامت صفاء جعفر الفيلسوفة المصرية المعاصرة ، كما تقول كاتا موزر (أستاذ ة الدراسات الإسلامية بجامعة برن) في دراسة بعنوان" قراءة صفاء جعفر لفكر هيدجر" :" تبحث بشكل أساسي في  الفلسفة الحديثة والمعاصرة ،  وتتعامل مع نقاط معينة تنتقي من مناطق مختلفة عن بعضها ابتداءاً ويشار هنا إلي انتقائها من تفكير الأفلاطونية والشرق الأقصي وحقل تخصصها داخل الفلسفة الأوربية هو فلسفة مارتن هيدجر وأحد اهتماماتها هو السؤال عن العلاقة بين الفلسفة واللاهوت .. وهي تتناوله بشكل مختصر وتسمي النصوص التي تقيم فيها حوارها مع لاهوت هيدجر ، ويلحق بهذا أن تعمل هذه المساهمة علي الموضوع الرئيسي في ثلاث علاقات برهانية ، والتي يمكن أن تتكون عند صفاء جعفر فيما يتعلق بفهم اللاهوت عند هيدجر، ويتبدي أنها تتعامل مع الحجة والفكرة في قراءة هيدجر، والتي تستند عليها وتناقشه مجادلة ، وأخيرا ينبغي أن تتم البرهنة في هذه المساهمة علي القراءة المقدمة والحجة التي تقدمها صفاء جعفر في تأويلها الفلسفي

وذكر الباحث "معتر أبو الخير في دراسة له بعنوان "قراءة د. صفاء جعفر عبد السلام جعفر لفكر نيتشه وهايدجر درء الاتهامات السؤال عن الأصل والأنسان الكامل وفكرة الموت (نشرت ضمن مجلة أوراق فلسفية التي يشرف عليه د. أحمد عبد الحليم):" صفاء عبد السلام علي جعفر، مفكرة وكاتبة، أستاذة جامعية وباحثة، وهي أستاذة مادة الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ورئيسة قسم الفلسفة بكلية الآداب ـ جامعة الإسكندرية، اشتهرت بمؤلفاتها في الفلسفة الألمانية الحديثة والمعاصرة، خاصة فريدريش نيتشه ومارتن هايدجر؛ حيث تخصصت فى هذا الأخير، وأعدت عنه عدة دراسات بالغة الأهمية تهدف إلى تفسير الأصول التي شغلت الفيلسوف الألماني الكبير كالأصل في اللغة، والأصل في العمل الفني. وقد تميزت بمهارتها فى عرض الفكرة ومناقشتها، وكذلك إلمامها بعدة لغات، واعتمادها على المصادر الأصلية.

وبعد هذا الاستشهاد من قبل بعض الباحثين في الشرق والغرب في حق الدكتورة صفاء جعفر، فأود أن أدلي بدلوي في حقها فأقول : تعد صفاء جعفر واحدة من كبار الرواد في دراسة الهيرمينوطيقا والانطولوجيا المعاصرة بمصر، والعالم العربي، وقد استطاعت من خلال بحوثها ومؤلفاتها أن تنقل البحث في الفلسفة الحديثة والمعاصرة من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كانت في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديها هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

وشخصية الدكتورة صفاء جعفر متميزة بطابع الجدية، وقد كان الحوار معها من أصعب الأمور، وخاصة مع أولئك الذين لا يحسنون استخدام عقولهم ؛ فهي لا تقبل هذراً ولا فوضي. والألفاظ لديها ينبغي أن تكون علي قدر معانيها ، فالتزيد مرفوض، والفيهقة مستحيلة . لذلك كانت دائرة أصدقائها ضيقة جدا، ومعارفها قليلين ، وصارت الفكرة التي شاعت عنها أن الصغار يخشون منها، والكبار يهابونها.

وهَبَت الدكتورة صفاء جعفر حياتها كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظلت اهتماماتها الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن . وكانت تعتقد أن قدراتها الخاصة لا تقل بحال من الأحوال عن قدرات أي باحث مماثل لها في أوربا . لذلك فإن حوارها مع كبار الأساتذة في ألمانيا (عندما زارتها في بدايات القرن الحالي أكثر من مرة)، كان يتسم بالندية . وكانت تصحح الكثير من آرائهم بالاعتماد علي المنهج العلمي الحديث في البحث والدرس الفلسفي؛ وبالذات عند نيتشه وهيدجر .

ولدت صفاء جعفر في مدينة الإسكندرية في السادس عشر من شهر فبراير عام 1960 م، وتفوقت في دراستها طوال مشوارها التعليمي، فكانت من العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة، وعلى الرغم من ذلك اختارت أن تدرس الفلسفة تحديداً ؛ لحبها الشديد لها ، الذي كان الفضل فيه يعود إلى دراستها أستاذها في مادة الفلسفة في المرحلة الثانوية؛ وقد حافظت على تفوقها خلال المرحلة الجامعية فحصلت علي درجاتها العلمية دون رسوب واحد، فكان حصولها على ليسانس الآداب من قسم الفلسفة ، بجامعة الإسكندرية في عام 1982 م ، وقد كان ترتيبها الأولى على دفعتها، فتم تعيينها معيدة بالقسم في العام نفسه، ثم نالت درجة الماجستير في الآداب من قسم الفلسفة ، بجامعة الإسكندرية 1988 م، ثم واصلت مسيرتها العلمية حتى نالت درجة الدكتوراه من القسم نفسه عام 1993 م .وفي عام 2000م حصلت صفاء جعفر علي أستاذ مساعد ، وفي 2007 حصلت علي درجة الأستاذية ، وفي عام 2013 ترأست قسم الفلسفة .

وقد درست صفاء جعفر من منذ 1993م إلى اليوم لجميع المراحل الدراسية مواد الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وفلسفة الحضارة، والأيديولوجيات، والنصوص الفلسفية باللغة الأجنبية، كما ناقشت وأشرفت على العديد من رسائل الماجستير، والدكتوراه بالجامعات المصرية؛ وقد تميزت مؤلفاتها بتناول الأفكار الأصيلة، والفلسفات العميقة، الأمر الذي أعطى كتبها ودراساتها ثقلا أكاديمياً . وقد وصف الدكتور حبيب الشاروني (أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة الراحل – بكلية الآداب – جامعة الاسكندرية) كتابها : "الوجود الحقيقي عند مارتن هايدجر": بأنه "من أمهات الكتب". كما أن لها كتاباً عن الفيلسوف الألماني المثير للجدل فريدريش نيتشه " يعد محاولة جادة تهدف إلى قراءة الفيلسوف قراءة صحيحة تستبعد كل المفاهيم الخاطئة التي أُلصقت بفكره" .. وقد حرصت على تعلم اللغة الألمانية، لقراءة نصوص الفلاسفة بعيدا عن أخطاء الترجمة إلى العربية والإنجليزية، وقد سافرت إلى ألمانيا مرتين .

ومن أهم مؤلفاتها : محاولة جديدة لقراءة فريدريش نيتشه – فلسفة العلوم أو الترانسندس، والحضارة الغربية الحديثة بين النشأة والتدهور، وفي فلسفة الحضارة بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور أحمد محمود صبحي، والوجود الحقيقي عند مارتن هايدجر، وهيرمينويطيقا : تفسير "الأصل في العمل الفني"- دراسة في الانطولوجيا المعاصرة ، وانطولوجيا اللغة عند هايدجر، والتنوير والرومانتيكية في الحضارة الأوربية – رؤية نقدية في فلسفة الحضارة، وقراءة للمصطلح الفلسفي، والذات الحقيقية عند كارل ياسبرز "  قراءة في مفارقة المواقف الحدية"، والاليثيا بين أفلوطين وهيدجر، والأصل في اللغة دراسة في انطولوجيا في قصيدة تراكل – أمسية شتوية، وميتافيزيقا اللامتناهي عند جيوردانو برونو- قراءة لفلسفة في غير أوانها، وميتافيزيقا الشخصية الحقيقية عند نيقولا برديائيف – قراءة في المفارقة الوجودية ، وحبيب الشارونى: الأستاذ القدوة في الزمن الضنين، والأصل في التقنية: دراسة في الأنطولوجيا المعاصرة، وأحمد محمود صبحي رائد الفكر الإسلامي...الخ.

وقد حصلت صفاء جعفر علي عدة جوائز من أهمها : جائزة الجامعة للتشجيع العلمي عن كتاب " هيرمونطيقا الأصل في العمل الفني " عام 1999 م، وجائزة الأبداع الفلسفي من المجلس الأعلى للثقافة عن كتاب: الذات الحقيقية عند كارل ياسبرز" 2000م.

ولم تكن صفاء جعفر ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان عملها العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكانت في ذلك متسقة مع نفسها تمام الاتساق، فقد كانت تبحث دائماً عن النوعية من الحياة، وتعرف كيف تتذوقها وتُرضي بها حسها المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفها عن الإنتاج الغزير، برغم قدرتها عليه، هو أنها كان من ذلك النوع النادر من المفكرين، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

ولم تكتف صفاء جعفر بالإلمام بمقتضيات البحث العلمي في مجال الدراسات الفلسفية أو ترسيخها في قلوب وعقول تلامذتها وكل من يستمعون إليها، بل كان لها السبق في استبطان عقول من تشرف علي رسائلهم ؛ بمعني أنها كان مقتنعة تماماً بأن لكل باحث شخصيته وميوله، فمنهم من يميل إلي المنهج التاريخي المقارن، ومنهم من يميل إلي التحليل والتعمق، في حفر الأفكار، فلم تحرم صفاء جعفر هؤلاء أو هؤلاء من ميولهم، ولكنها أضافت إليها، فحافظت علي شخصية تلاميذها والقواعد العلمية في آنا واحد، مما يندر أن يتوفر عند أساتذة كثيرين. لقد تفردت صفاء جعفر بفضيلة الجمع بين الأستاذية والصداقة لتلاميذها لدرجة كان يشعر معها هؤلاء التلاميذ أنهم يتحدثون ليس إلي أستاذتهم ، بل إلي صديقتهم الودودة التي لا تمل من شكواهم ولا تضيق بمشكلاتهم . إنها الأستاذة التي كانت تؤمن بأن قيم الإنسانية تفوق قيم الأستاذية، وأن البحث العلمي والتقدم الاكاديمي لطلابها وتلاميذها مرهون بإحساسهم بالأمان إلي جوارها والأنس إلي رفقتها ومحبتها .ولذلك ضاقت المسافات بينها وبينهم رغم فارق السن والخبرة والأستاذية، إنها علي دراية بكل دقائق حياتهم تفتح لهم مكتبتها وتهبهم الساعات الطوال في صحبتها، لا تبخل عليهم بنصيحة ولا تتوقف عن رعايتهم ماديا وأدبيا وعلميا، والمدد عندها لهم بلا حدود . لقد اختلطت بهم واختلطوا بها حتي أصبحوا في مرتبة أصدقائها النجباء دون تكلف أو ادعاء مع حفظ المسافات بينها وبينهم .

أضف إلي ذلك حبها العميق للغة العربية، فقد كان عاشقة لها، غيورة عليها، حظية بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبها في كل كتاباتها؛ حيث كان أسلوبها جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراتها قصيرة، لكنها واضحة الدلالة؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات، وتكاد تشعر أنك مع شاعرة مبدعة تعزف علي أوتار كلماتها لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً  وأنساً مع شئ من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همساً . هذا علاوة علي اتقانها الرائع للغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور صفاء جعفر بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكرة مبدعة في الفلسفة ، ونموذج متفرد لأستاذه جامعية نذرت حياتها بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة والثقافة العربية، وأثرت حياتنا الفكرية بكل ما قدمته من جهود.

تحيةً مني لصفاء جعفر التي  لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع ، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً . بارك الله لنا في صفاء جعفر قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين" (كما قال أستاذي عاطف العراقي)، وأمد الله لنا في عمرها قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاها الله لنا إنسانة نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منها عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم