شهادات ومذكرات

السهروردي المقتول.. فيلسوف الإشراق (1)

محمود محمد علييرى معظم المؤرخين والمترجمين أن شهاب الدين السهروردى هو "أبو الفتوح يحيي بن حبش بن أميرك"، غير أن "ابن أبى أصبيعة" في عيون الأطباء، ذكر أن أسم السهروردى هو "عمر" دون أن يذكر اسم أبيه . وقد لاحظ " نيللينو " Nallono في كتابه علم الفلك عند العرب، هذا الخطأ الذى وقع فيه "ابن أبى أصبيعة" ووصفه بالسهو الشنيع والغلط الفظيع ؛ أما ياقوت الحموى في معجم الأدباء فيقول أن: "اسم السهروردى هو "أحمد" وأن كنيته هى "أبو الفتوح".

ولكن ابن خلكان (في إخبار العلماء) يشير إلى أن الاسم الصحيح هو : "أبو الفتوح يحيي بن حبش بن أميرك". ثم يضبط هذا الاسم ضبطاً لغوياً لما عسى أن يلتبس في هذا الاسم من ألفاظ غريبة أو عجيبة، قد يصعب نطقها أو فهمها فيذكر أن لفظ " حبش " بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة والشين المعجمة . وقال عن لفظ " أميرك " إنه بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة، ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها راء مفتوحة، ثم كان وهو اسم أعجمى معناه " أمير " وهو تصغير " أمير " لأن الكاف التى تلحق بآخر الاسم هى للتصغير.

ويلقب السهروردى بالمؤيد بالملكوت، وذلك لما عرف عنه من العلوم الإلهية والأسرار الربانية التى رمز الحكماء إليها وأشار الأنبياء إليها، ولما أيد به من قوة التعبير عن هذه الأسرار وتلك العلوم في كتابه العظيم " حكمة الإشراق " . ويلقب أيضاً بخالق البرايا، وذلك لما كان يظهره في الحال من العجائب، ويرى الشهرزورى أن واحداً رأى السهروردى في المنام، فقال له الأخير لا تسمونى بخالق البرايا .

ولما كان السهروردى قد قتل بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبى سنة (589 هـ - 1193 م) فلهذا السبب أطلق عليه المؤرخون لقب " الشيخ المقتول "، وذلك تمييزاً له عن غيره ممن يشتركون معه في النسبة إلى سهرورد، فثمة علماء ثلاثة يعرفون باسم السهروردى وهم :

1- ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر السهروردى، المتوفى سنة 630 هـ الموافق 1167 م أو سنة 1168 م .

2- شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عموية، مؤلف عوارف المعارف، سنة 632 هـ الموافق سنة 1234 أو 1235 م .

3- محمد بن عمر بن الشيخ شهاب الدين، المتقدم مباشرة، صاحب زاد المسافر في التصوف.

غير أن " أحمد أمين " في كتابه ضحي الإسلام، يرى أنه ربما لقب " بالشيخ المقتول " فذلك إيماء بأنه قتل استحقاقا لهذا القتل، وإلا كان لقب بالشهيد، وأنه أشاع في " حلب " تعاليمه الفلسفية ورأيه في الحلول، وأن الله والعالم شئ واحد وتصريحه بذلك ألب الفقهاء والشعب عليه، فاضطر الملك الظاهر بن صلاح الدين حاكم حلب أن يتخلى عن حمايته فقتل عام " 587 "، وهو السادس والثلاثين من عمره.

ويرجع " الأب جومس نولجانس " (في بحثه عن السهروردي ضمن الكتاب التذكاري) أن علة لقب السهروردى بالشيخ المقتول يرجع إلى أنه الذى تعود عليه الناس فسموه به، ولأنه لم يمت موتاً عادياً، وإنما مات مقتولاً، ولهذا يكون اللقب الذى تعود الناس تسميته به " المقتول " يشير إلى أن موته لم يعتبر دليلاً على الإيمان الحقيقى الذى يتسم به الشهداء، وإنما مات ككافر مداناً من السلطات الدينية .

وهنا يتضح أن السهروردى إذا كان قد لقب بالشيخ المقتول، فذلك لما تواتر عليه جمهور المؤرخين، أما تلاميذه وأتباعه فإنهم يطلقون عليه لقب " الشهيد " ؛ حيث اعتبروه شهيد الفكر والعقيدة الإشراقية .

وفي منتصف القرن السادس الهجرى ولد شهاب الدين السهروردى المقتول عام 549 هـ الموافق 1153 م في (سهرورد)، وهى بضم أوله وسكون ثانيه وفتح الراء والواو وسكون الراء، ودال مهملة وهى : بلدة قريبة من زنجان بالجبال .

على أنه ليس من الممكن الآن تحديد موقعها بدقة، لكن إذا أردنا تحديد موقعها في العهد القديم، فيمكن القول بأنها كانت تقع في الشمال الغربى من إيران في ميديا القديمة وهى مدينة كانت مزدهرة إبان الاضطرابات المغولية .

وبخصوص المولد والنشأة يعطينا المؤرخين والمترجمون طائفة قليلة من المعلومات التى لا خطر لها ولا غناء فيها، والتى لا تكفى لإظهارنا على صورة واضحة لحياة السهروردى في طفولته وصباه، ولعل كل ما نعرفه عنه أنه ولد في سهرورد، وأن تاريخ مولده يقع بين سنتى (545 هـ) الموافق (1150 م)، وسنة (550 هـ) الموافق (1155 م)، وأنه قضى حياته الأولى بتلك البلدة القريبة من زنجان، وهى (سهرورد)، وهنالك تلقى أول ما تلقى من ثقافات دينية وفلسفية أو تصوفية . أما على من تلقى هذه الثقافات وما مبلغ وقوفه عليها وتحصيله لها !! وما الخصائص العلمية وغير العلمية التى امتازت بها بيئته المنزلية من ناحية، وبيئته الاجتماعية من ناحية أخرى، ومن أبوه، وما مكانة هذا الأب، وما أثر في تنشئة ابنه، وتثقيفه وتوجيهه !! . فكل ذلك أمور لا يكاد الباحث يظفر بها أو يقف على بعضها فيما بين يديه من المراجع، حتى الشهرزورى تلميذ السهروردى المباشر وشارح مؤلفاته لا يخبرنا في ترجمته المطولة بإجابات شافية عن هذه الاستفسارات.

ولعل السبب في هذا يرجع إلى صغر سن هذا الفيلسوف الصوفى وكثرة أسفاره كانا من العوامل التى قيضت نطاق انتشار علمه، أو ذيوع صيته، فلم يحفل بتتبع نشأته الأولى .

وكان السهروردى كثير السفر والترحال والتنقل في مختلف الأقطار، فلقد كان السفر من بعض هواياته، فلا يكاد ينزل ببلده جديدة حتى يبحث عن العلماء والحكماء، ويأخذ عنهم علمهم، وعن الحكماء حكمتهم، ويصاحب الصوفية، ويجالسهم، ويأخذ نفسه بالتجريد وسلوك طريقتهم من رياضيات ومجاهدات كانت سبيله إلى ما أشرقت به نفسه من أنوار المكاشفات.

فقد حدثنا الشهرزورى ما نصه : " كان قدس الله روحه كثير الجولان والطوفان في البلدان، شديد الشوق إلى تحصيل مشارك له فى علومه، ولم يحصل له، قال في آخر " المطارحات " ... ها هو ذا قد بلغ سنى تقريباً ثلاثين سنة وأكثر عمرى في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارك مطلع على العلوم، ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها وأكثر العجب من ذلك .

والبلاد التى سافر إليها السهروردى لا تتجاوز كما أخبرنا المؤرخون والمترجمون بلاد الشام، وبلاد الروم، وقد حدثنا الشهرزورى أيضاً عن السهروردى في موضع آخر، فقال ما نصه : " .... وسافر في صغره في طلب العلم والحكمة إلى مراغة، واشتغاله بها على يد " مجد الدين الجيلى "، في أصفهان، وبلغنى أنه قرأ هناك بصائر ابن سهلان الساوى على الظهير الفارسى، والله أعلم بذلك، إلا أن كتبه تدل على أنه فكر في البصائر كثيراً، وسافر إلى نواحي متعددة، وصحب الصوفية، واستفاد منهم، وحصل لنفسه ملكة الاستقلال بالفكر والانفراد، ثم اشتغل بنفسه بالرياضيات والخلوات والأفكار، حتى وصل إلى غايات مقامات الحكماء ونهايات مكاشفات الأولياء .

من هذا النص يتضح لنا أن السهروردى قد أخذ العلم في بداية حياته على يد " مجد الدين الجيلى " أستاذ فخر الدين الرازى، ثم سافر بعد ذلك إلى أصفهان، وأصفهان إحدى المدن الكبرى التى استقر فيها " ابن سينا " وقتاً غير قصير، واتخذ فيها قسطاً كبيراً من موسوعته الفلسفية الكبرى " الشفاء "، وكان له فيها تلاميذ وأتباع تعاقبوا إلى أن رآهم السهروردى، واطمأن إلى صحبتهم، واتخذ منهم أصدقاء أولع بهم . وفى أصفهان قرأ السهروردى " بصائر ابن سهلان الساوى المتوفى سنة 450 هـ - الموافق سنة 1060 م " .

وكتاب البصائر من أجواد أنواع التلخيصات لمنطق الشفاء لابن سينا، كما أن السهروردى، وهو بأصفهان خاطب الفكر السينوى . فكتب له رسالة " بستان القلوب "، كما ترجم " رسالة سينا إلى اللغة الفارسية .

كما اتصل السهرودرى بالشيخ " فخر الدين المادرينى "، وكانت بينهما صداقات واجتماعات كما أخبرنا بذلك ابن أصيبعة ؛ حيث استفاد السهروردى من اتصاله به في تكوين مذهبه المشائى الذى عرض له في " التلويحات واللمحات والمقامات والمطارحات وهياكل النور ..... الخ .

ثم يذكر الشهرزورى بأن السهروردى سافر إلى مناطق متعددة لطلب العلم دون أن يذكر اسمها بالتفصيل، غير أنه أشار بأن السهروردى كل يفضل الإقامة " بديار بكر "، وقد إتصل بأمير خربوط " عماد الدين قرة أرسلان " حاكم ديار بكر وأهدى إليه كتابة " الألواح العمادية .

ويذهب " ماسينيون " Massinon (في كتابه مجموعة نصوص لم تنشر) إلى أن السهروردى أسس مدرسة إشراقية في بلاط الأمير. غير أن كتابات المؤرخين والمترجمين لم تؤيد هذا الرأى، حيث أن صغر سنة وكثرة أسفاره لا تجعلنا نعتقد أنه كان لديه من الوقت ما يسمح له بتكوين مدرسة فلسقية، ولا سيما وأن إقامته فى الأناضول عن الأمير أرسلان لم تطل، لأن الشيخ كان كثير السفر ميالاً إلى التجوال .

على أن حياة التجوال التى كان يحياها السهروردى، لم تقف به عند البلاد التى أشار المؤرخون والمترجمون إلى أنه قد دخلها، وأفاد منها ما أفاد من ثقافات، واتصل فيها بمن اتصل من شخصيات وإنما هى قد امتدت به إلى الشام، حيث قدم مدينة حلب سنة 579 هـ، كما يقول : " ابن أبى أصيبعة، وهى آخر البلاد التى سافر إليها، وفيها قتل بسبب معتقداته الفلسفية . وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم