شهادات ومذكرات

المرزوقي طبيبًا فوق العادة

منير لطفيرغم تفاوت الأزمنة والأمكنة، وتمايُز الرتوش والتفاصيل؛ إلّا أنّ التاريخَ ما برح  يكرَّر نفسَه ويعيد الحدَثَ ذاتَه مع تطابُقٍ في المضمون وتوافُقٍ في الجوهر، حتَّى ليُخيَّل إليك أنَّ التاريخ ينفخ في رمادٍ حين يُعلِّم ولا أحد يتعلَّم، ويصرخ في وادٍ حين يُدرِّس ولا أحد يَدْرُس؛ فالرحلة من السجون والمنافي إلى القصور والعروش، لم يكن الجنوب إفريقي المناضل (نيلسون مانديلا) هو مَن قصَّ شريطَها وأعلن افتتاحها، ولن يكون التونسيّ النبيل (المنصف المرزوقي) هو مَن يكتب خاتمتها أو يغلق الباب دونها، طالما أنَّ عجلة التاريخ تسير وذاكرة البشَر تتبلَّد، بينما سُنَن الله لا تتبدَّل ولا تتحوّل.. "سنّة الله التي قد خلَت من قبل ولن تجدَ لسُنّة الله تبديلا" ، "فهل ينظرون إلّا سنّت الأوّلين فلن تجد لسنّت الله تبديلا ولن تجد لسنّت الله تحويلا".

في تونس الخضراء الواقعة في الشمال الإفريقي على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وفي قرمبالية الواقعة 30 كم جنوبي العاصمة، وإبّان الاحتلال الفرنسي الذي جثم على صدر التونسيين لسبعة عقود ونصف؛ وُلِد محمد المنصف المرزوقي في السابع من يوليو عام 1945م، وتربّى في حِجر عائلة بدويّة تنتمي إلى قبيلة المرازيق التي وصَف أطفالَها في مذكّراته بأنهم يُولدون وفي فمهم عَجُز أو صدْر بيت من الشِّعر، ولا يزعقون إلّا على وزنٍ من أوزان الخليل، كناية عن امتلاكهم ناصية اللغة والشّعر.

 وبعد تلقِّيه مبادئ الدراسة الأوّلية بالعاصمة التونسية، رحل إلى والده المَنفِيّ سياسيّا بطنجة المغربيّة، وذلك في عام 1961م، حيث تحصَّل هناك على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة)، قبل أن يمدّ له القدر يده بفرصة ابتعاث ثمينة لدراسة الطبّ في فرنسا بدعم من الحكومة الفرنسية. وعن علاقته بالقراءة في هذه السنّ المبكّرة، ذكر أنه ببلوغه عتبة الخامسة عشرة كان قد قرأ مؤلَّفات العقّاد والمنفلوطي وطه حسين وتيمور وجبران، إضافة إلى دواوين كبار الشعراء.  علاوة على الفرنسيّة التي أجادها وقرأ بها لموليير وراسين وكوناري وغيرهم. هذا بالإضافة إلى الأدب الروسي وزعيميْه تولستوي ودوستويفسكي.

وبين جنبات مدينة النور (باريس)، لبث خمسة عشر عاما (1964-1979م)، التحق خلالها بجامعة ستراسبورغ التي تُعَدُّ مِن أعرق الجامعات الأوروبية وأكبر الجامعات الفرنسيّة؛ فدرَس الطبّ، وتحصَّل على درجة الدكتوراه في تخصّص الأعصاب، ثمّ عمل بالتدريس في الجامعة ذاتها، قبل أن يسافر إلى الصين ليدرس نظام الكومونات وطريقة تقديم الخدمات الصحيّة، والتي استفاد منها لاحقا لدى عودته لتونس وعمَلِه كأستاذ مساعد لطبّ الأعصاب في الجامعة التونسية، ثمّ مشرفا على قسم طبّ المجتمع وتجربة الطبّ الجماعي بكلية طبّ سوسة، وهو القسم الذي يركّز على الجانب الوقائي ويحتكّ بقعر المجتمع في القرى والنجوع.

واستنادًا إلى نشاطه السياسي المناوئ لسلطة (زين العابدين بن علي) الاستبدادية آنذاك، ودعْمه للحريّات والحقوق من خلال تأسيسه للرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان؛ اعتُقِل وطُرِد من وظيفته الجامعية، وكان عليه أن يختار بين ثلاثة اختيارات أحلاها مرّ، تلك الاختيارات التي ضمّنها ابن خلدون مقالته حين قال: "إذا دخلتَ إفريقية (تونس) فوافِق أو نافِق أو غادِر". ولمّا أبت نفسه الحرّة أن يوافق أو ينافق، اختار أن يحزم حقائبه من بلدٍ جارت عليه وهي عزيزة وقومٍ ضنّوا عليه وهم كرام، فغادر إلى فرنسا كمنفًى قسْريّ لمدة عشرة أعوام أخرى (2001-2011م)، عمل خلالها محاضرا في جامعة باريس، واستكمل  بذلك عدّة الربع قرن في فرنسا.

وعلى أنغام ثورة الياسمين التي كانت باكورة الثورات العربية، وجاءت كريحٍ صرْصرٍ عاتية فرّ مِن هولها الطغاة وطأطأ لها الجبابرةُ الأعناق؛ عاد المرزوقي إلى تونس مرفوع الرأس موفور الكرامة، فأسّس حزب المؤتمر مِن أجل الجمهورية، وترشّح للرئاسة، وفاز بها في أوّل انتخابات حرّة وديمقراطية منذ نشأة الجمهورية وانتهاء عصر البايات الملكي في عام 1957م ، ليَعْبر بالثورة التونسية في تؤدة واتزان إلى مرفأ السلامة وبَرِّ الأمان، رغم أشواك الثورة المضادة وتربُّص العديد من القوى الإقليميّة والدوليّة.

والواقع أنه لم يكن طبيبا وسياسيّا وحقوقيّا فحسب، ولكنه يُضاف إلى عداد المفكّرين بالنظر لمؤلَّفاته التي جابت حقولًا معرفيّة متباينة، كالطبّ والفكر والسياسة والأدب، ولعلّ أشهرها مؤلّفه الصادر عام 2010م  تحت عنوان (الرحلة..مذكّرات آدمي)، بعدما وُلد بعمليّة قيصرية تعرّض فيها للنصب من قبل أحد الناشرين الذي قبض المبلغ والمخطوطة وذهب كالريح، وجُوبه من قِبل ناشرين آخَرين بالرفض المهذّب تارة وغير المهذّب تارة. مع أن الكتاب سِفرٌ فتِيٌّ غجريّ، حفل بالسرد الروائي والحوار المسرحي والعمق الفكري والتحليل الفلسفي والأسلوب الأدبي، وجاء مغايرا لِما عهده القرّاء في المذكّرات من استقصاء الوقائع وسرْد الأحداث حسب الترتيب الزماني والمكاني، وهو ما استشْعره المرزوقي ونبّه إليه في صدر الكتاب قائلا: "لن يكون من السهل تصنيف هذا الكتاب، فهو كتاب قد يقبل به الأدب أو الفلسفة أو حتى العلوم الإنسانية.. وقد يُطرَد من كلّ هذه الميادين باعتباره جنسا هجينا لا ينتمي لأيّ حقل معرفي محترَم ومعترَف به".

ولعل هذا ما دعا الجهات الدولية لتكريمه في محافلها المختلِفة؛ فنال درجة الدكتوراه الشرفيّة من جامعة تسوكوبا اليابانية، وصنَّفته مجلة فورين بوليسي الأمريكية ضمن أفضل مائة مفكر عالميّ في عامي 2012و2013م. كما تمَّ تكريمه من قِبَل المُنتدَى المغاربي، والمعهد الملكي للشئون الدولية في لندن. عدا عن حصوله على ميدالية حقوق الإنسان مِن قِبَل الأكاديميّة الوطنيّة الأمريكيّة للعلوم ، وغيرها.

وبالرغم من إخفاقه في الترشّح الثاني للرئاسة التونسية عام 2014م، وبلوغه منتصف العقد الثامن من العمر؛ إلّا أنه ظلّ وفيًّا لمبدئه حين قال: "كونوا صُنَّاعا للحدَث ولا تكونوا مِن ضحاياه"، إذ مازال يَشتعل حماسة لإرساء دعائم الحريّة والديمقراطيّة، ليس في تونس وحدها بل في محيطه العربي والإفريقي، ومنها تأسيسه لحزب سياسي جديد اندمج بموجبه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية مع كيانات سياسية أخرى، وهو حزب حراك تونس الإرادة الذي رأى النور في عام 2015م، وهو العام نفسه الذي انطلق فيه ضمن أسطول الحرية الرابع لكسر الحصار الظالم على غزّة، فاعتقله الصهاينة وقاموا بترحيله إلى فرنسا، بعد أن مُنعت السفن من الوصول لبغْيتها.

ومن الناحية الفكرية، وعلى امتداد مسيرته النضالية الطويلة؛ ظلّ يفاخر بانتمائه إلى مدرسة سياسيّة متفرّدة، احتذى فيها بمانديلا إفريقيا وتأسَّى بغاندي الهند، تلك المدرسة التي تهدف إلى أخْلقة السياسة وتنقيتها من عفن الاستبداد والفساد والكذب، وإلى أنْسنة الحُكم بنفْض القدسيّة عن الحاكم الذي يتألّه فيعتبر نقدَه عيبا في الذات العليّة وتَعدِّيا على قدس الأقداس! وهو بهذا ليس علمانيا قحّا يغرّد خارج سرب الدِّين، بل علمانيّا متصالحًا مع عروبته وإسلامه، ومتباهيًا بالاقتداء بمحمّد النبيّ صلى الله عليه وسلّم وعمر الفاروق رضي الله عنه. بمعنى أنّ العلمانية في نظره ليست سوى تقنيات تكنولوجية حديثة، وأدوات حكم جديدة، تسعى إلى تحقيق المقاصد الشريفة التي هي من صلب الدِّين ولا ريب، كالحريّة والكرامة وحقوق الإنسان والمساواة وتداول السلطة.

ومع أنه قضى شطرا كبيرا من عمره في فرنسا، وتشبّع بثقافتها، وكتب أربعة كتب بلغتها، وتزوّج من إحدى بناتها؛ إلّا أنه لم يستغرب كما استغرب الكثيرون من سكان المغرب العربي الذين نزحوا إلى فرنسا، بل ظلّ وفيًّا لجذوره البدوية وحضارته الإسلامية ولغته العربية، إيمانًا منه بأنه لا تَقدُّم لأمّة لا تحترم نفسها ولا تقدّر لغتها، وهو ما أقرّه بوضوح قائلا: "أنا لا أستطيع التنكّر لأصولي البدوية ولا لانتمائي للطبقة الفقيرة ولا لمجيئي من منطقة مهمَّشة، كلّ هذا سيبقى موجودا في داخلي". ولعلّ هذا عائدٌ –كما قال- إلى متانة وعمق الانتماء الذي تربَّى عليه في البيت والمدرسة، والتصاقه بأخبار وطنه وهموم أمّته، ومداومته على القراءة والكتابة بلغة الضاد. إضافة إلى معرفته الدقيقة بأمراض الحضارة الغربيّة من استشراء إدمان الكحول، والتشتّت العائلي، والماديّة المفرِطة.

وقد وضع يده على نقطة التقاطع بين الطبيب والسياسي، وأشار إلى استراتيجية التوازن المشترَكة بين الطبّ والسياسة، وذلك في إحدى لقاءاته الصحفية بقصر قرطاج الذي أدار منه دفّة البلاد قائلا: "أنا طبيب أعرف أنّ الصحة هي قدرة الجسم على إعادة التوازنات التي اختلّت بعد المرض، وبالنسبة لي: السياسة وحقوق الإنسان هي إعادة هذه التوازنات التي اختلّت بين المناطق، بين الجهات، بين الأمم العربية والأمم الأخرى".

ومن مواقفه الإنسانية التي أبَت فيها نفسُه أن تسكنها روح التشفّي والانتقام، توديعه لجسد بورقيبة عام 2000م، والذي حكاه ضمن مذكّراته قائلا: "على جثمان رجلٍ حقدتُ عليه طفلا لأنه كان عدوّ الأب، وشابا لأنه كان عدوّ العروبة، وكهلا لأنه كان عدوّ الديمقراطية؛ قرأتُ الفاتحة بتأثُّر، لأنه من القِيم التي ربّتْني عليها والدتي أنه بحضور الموت تنتهي الضغائن والأحقاد". 

***

بقلم: د. منير لطفي

طبيب وكاتب - مصر

 

 

في المثقف اليوم