شهادات ومذكرات

مع د. فاضل مرزوك في موسكو

ضياء نافعفاضل مرزوك أحد طلبتنا في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد (الدراسات المسائية) في تلك السنين الخوالي بتسعينات القرن العشرين، عندما كنّا ندعو الى حرية الطلبة في اختيارهم لتخصصهم اللغوي في الدراسات المسائية (نسبيا طبعا) دون الالتزام الدقيق والاعتماد فقط على مجموع الدرجات التي حصلوا عليها في امتحانات البكلوريا في الصف السادس الاعدادي كما هو معمول به في العراق، و رغم اننا لم نستطع التحرر كليا من تلك التعليمات المركزية الصارمة حول تلك التعليمات، الا اننا – مع ذلك – حاولنا قدر المستطاع الأخذ برغبة الطلبة في اختيار اختصاصهم، او في الاقل مراعاة هذه الرغبة، وقد ساعدنا بالطبع ان طلبة الدراسات المسائية كانوا بالاساس انضج و اكبر عمرا مقارنة مع طلبة الدراسات الصباحية. وهكذا بدأنا التعامل مع هذه التجربة، ونتيجة لكل هذه العوامل، كان انسجامنا الروحي والعلمي والتربوي مع طلبة المساء اكثر و اعمق من انسجامنا مع طلبة الصباح . وبالفعل، برز من ضمن خريجي الدراسات المسائية اناس متميزون في علميتهم، واستطاعوا اكمال دراساتهم العليا لاحقا في بلدان تلك اللغات التي تخصصوا بها، ومن جملتهم د. فاضل مرزوك، الذي حصل على شهادة الدكتوراه في اللغة الروسية من روسيا نفسها، وعاد الى العراق، وحاول – وبكل طاقته وامكانياته – ان يحصل على تعيين في جامعة بغداد / قسم اللغة الروسية ليمارس اختصاصه، ولكنه لم يستطع، اذ كانت امكانية التعيين مغلقة تماما امامه وامام زملائه الآخرين ايضا، وهكذا، وبعد ان فهم ان ابواب التعيين كافة مغلقة امامه، اضطر للعودة الى الخارج، واستطاع ان يشق طريقه في بولندا، مستخدما معرفته العميقة باللغة الروسية وشهادة الدكتوراه، التي حصل عليها في روسيا، وهو الان يقوم بتدريس اللغة الروسية في بولندا وبنجاح، ويقوم بين فترة واخرى بزيارة (معهد بوشكين للغة الروسية)، وذلك للمشاركة في الندوات العلمية والسيمينارات التي ينظمها المعهد المذكور للمتخصصين في اللغة الروسية، وقد التقيته في موسكو اثناء مشاركته في ندوة علمية عندئذ . اللقاء كان (حارّا جدا !) بين معلّم يكنّ الاحترام لطالبه ويعرف تفاصيل مسيرته الدراسية منذ بدايتها، وطالب يكنّ اضعاف هذا الاحترام لمعلّمه ويعرف ايضا تفاصيل مكانته التربوية والعلمية ودوره المتميّز في كلية اللغات بجامعة بغداد، وبما ان هذا اللقاء حدث دون موعد مسبق وجاء عفويا، فانه كان طبيعيا جدا و دون رتوش كما يقال...

حكى لي (ابو عباس) كيف قابل رئيس جامعة بغداد عند عودته، وكيف حاول الحصول على التعيين، ولكن بلا جدوى، وكيف اضطر ان يقول لرئيس الجامعة، انه يتعجب كيف لا يعترف (وهو خريج جامعة غربية !!) بوثائق علمية صادرة من جهات عالمية تشهد بامكانياته العلمية، وانه حصل على ذلك بعد جهد هائل، فسألته – وماذا قال لك؟ أجابني ابو عباس، ان رئيس الجامعة قال لي اذهب الى هؤلاء الذين نصحوك بالعودة واطلب منهم ان يمنحوك وظيفة ما، وابتسم د . فاضل وقال، انه فهم بعد كل محاولاته الطويلة والعريضة، انه حتى رئيس الجامعة لا يقدر ان يصدر أمرا بتعيين اي شخص منذ فترة طويلة، ولهذا قرر السفر مرة اخرى، ووجد مكانا مرموقا ومحترما في بولندا لتدريس اللغة الروسية، والمساهمة في عملية البحث العلمي هناك . وقدّم د. فاضل لي عدة كتب باللغتين البولونية والروسية، تحتوي على بحوث كثيرة، وكان اسمه موجودا بين المشرفين على اصدارات تلك الكتب، ثم قدّم لي كتابا جميلا باللغة الروسية من تأليفه عنوانه – الوسائل الشفاهية لمفهوم العمر في اللغة الروسية، ويقع في 236 صفحة من القطع المتوسط، ووجدت على الغلاف الاخير للكتاب صورة فاضل مرزوك بشكل واضح وملوّن، وخلاصة تعريفية حوله باللغة الروسية تشير الى انه خريج جامعة بغداد وانه عضو في جمعية المترجمين العراقيين، اضافة طبعا الى شهاداته الروسية، وانه مدرس اللغة الروسية في الوقت الحاضر ومترجم محلّف . كتاب د. فاضل مرزوك، كما ارى، هو على الاغلب اطروحته، اذ انه يتكون من المقدمة وثلاثة فصول وخلاصة ختامية ومصادر البحث، الا انه لا يشير الى ذلك في كتابه. وفي كل الاحوال، شعرت بالفخر وانا اطلّع على كتاب روسي من تأليف متخصص عراقي، كان يوما ما طالبا يجلس امامي في صفوف كلية اللغات الحبيبة ...

لم استطع بالطبع ان أقرأ البحوث باللغة البولونية في تلك الكتب، ولكني اطلعت على البحوث باللغة الروسية بشكل عام، وهي ذات طابع اكاديمي بحت، وقد توقفت طويلا عند بحث كتبه شونيكوف من جامعة العلوم الانسانية في موسكو حول الدراما الروسية المعاصرة، حيث يتناول بعض خصائص الدراما في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، واثارني المقطع الخاص حول مسرحية عنوانها – (نضج الكرز في بستان الخال فانيا)، وهي مسرحية توحد مسرحيتين من أعمال تشيخوف (بستان الكرز والخال فانيا)، وتنقل ابطال تلك المسرحيتين الى احداث ثورة اكتوبر 1917 الروسية، وهي فكرة خيالية شجاعة وغير اعتيادية تماما .

اللقاء بين معلّم وأحد طلبته القدامى لذيذ دائما، خصوصا اذا كان هذا الطالب القديم قد أحرز خطوات كبيرة وناجحة في مسيرة الحياة ...

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم