شهادات ومذكرات

موسكو بعيون العراقيين في ايامهم الاولى

ضياء نافعهناك مثل روسي يقول – العين ترى الشئ الذي تريد ان تراه، وهو مثل دقيق فعلا وينطبق على العراقيين في الايام (او حتى الاسابيع والشهور) الاولى من وصولهم الى روسيا، ولازلت أتذكر حادثتين طريفتين حدثت معي في اليوم الاول من وصولي الى موسكو العام 1959. الحادثة الاولى في المطار، حيث كان هناك موظف سوفيتي يستقبلنا مع طالبين عراقيين وصلا قبلنا باسبوعين، فطلب منّا الطالب الاول (واسمه أحمد) ان نناديه (احمدوف)، وقال لنا الطالب الثاني (واسمه تحسين) ان نناديه (تحسينوف)، واوضحا سبب هذا الطلب، ان قواعد اللغة الروسية تقتضي ذلك، وان الروس حولهم  ينادونهما  هكذا الان، وانهما تعوّدا على ذلك، وكنّا ننظر اليهما متعجبين، ولا نعرف ماذا نقول لهما. أما الحادثة الثانية، فقد جرت في القسم الداخلي، حيث وصلنا، وبدأ مسؤول القسم منحنا ارقام الغرف التي سنسكن فيها . كنّا اول وجبة تصل الى هذا القسم، وتبين ان الغرف التي منحونا اياها تقع في الطابق الخامس، فطلبنا تبديلها، كي نسكن في الطابق الثاني كي لا نصعد وننزل كل يوم خمسة طوابق، خصوصا وان كل القسم الداخلي كان فارغا . لم يوافق المسؤول على ذلك، وقال، انه لن يغيّر الغرف . انزعجنا نحن من هذا الموقف، فانبرى  أحد العراقيين  بيننا وقال لنا، انه واثق، ان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي قد بحثت هذا الموضوع قبل وصولنا، وان هذا الموظف ينفّذ قرارات اللجنة المركزية للحزب ليس الا، ولهذا فانه يرفض تلبية طلبنا، اذ ان هذا يعني عدم تنفيذ قرارات  اللجنة المركزية للحزب . تعجبنا جميعا من تعليقه هذا، وسألناه ان يوضح لنا هذا الذي يقوله لنا، فقال، من المؤكد، ان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي تعرف، ان العراقيين لا يمارسون الرياضة البدنية الضرورية للانسان يوميّا، ولهذا قررت اللجنة المركزية تقديم غرف الطابق الخامس للطلبة العراقيين الذين يصلون قبل الآخرين تقديرا ومكافأة  لهم، كي يمارسوا الرياضة البدنية تلقائيا وهم يصعدون الى الطابق الخامس وينزلون منه كل يوم ولعدة مرات . استمعنا الى زميلنا هذا بغرابة، ولكننا لم نستطع ان نناقشه طبعا، اذ كان يتكلم بثقة مطلقة، لدرجة، ان أحد الطلبة قال، يبدو انه يعرف ذلك من مصادر عليا، وهكذا اضطررنا ان نوافق – وعلى مضض طبعا – للسكن في الطابق الخامس، وبدأنا بحمل حقائبنا الثقيلة (كما تعوّدنا السفر على الطريقة العراقية!) والصعود – وبصعوبة - الى الطابق الخامس .

وهناك حادثة طريفة جدا وقعت امامي، وهي وصول أحد الرفاق المتحمسين جدا الى موسكو، وقال لنا، ان من جملة الاشياء المدهشة، التي لاحظها منذ وصوله ولحد الان عدم وجود الذباب في موسكو، واضاف قائلا، ان هذا يعني، ان السلطة الثورية البلشفية هنا قد قررت (ونفّذت فعلا) تخليص الانسان  نهائيا من الذباب و شروره على حياة الانسان.  ضحكنا نحن جميعا، اذ مضى علينا عدة سنوات هناك، ولكن احد العراقيين المرحين انسحب رأسا، وعاد بعد دقائق وبيده قنينه زجاجية صغيرة مليئة بالذباب وهو يضحك ويعطيها له ويقول – (اصطدت مجموعة من الذباب لاجلك خصيصا)...

وهناك حوادث (من الجانب الآخر) طبعا، اي من هؤلاء الذين كانوا  ضد الاتحاد السوفيتي على طول الخط (ان صح التعبير)، وهي حوادث تدخل ايضا  ضمن هذه الآراء الجاهزة والطريفة والبعيدة طبعا عن النظرة الموضوعية والمنطقية ايضا، وأذكر حديثا رواه لي أحد هؤلاء عندما التقيته في باريس مرة في نهاية ستينيات القرن الماضي (وهو مدير عام زمن عارف الثاني)، وقال لي انه زار موسكو ضمن وفد رسمي عراقي، وذهبوا به لزيارة مرقد لينين في الساحة الحمراء، فشاهد (بامّ عينيه !) كيف كان الناس يقبّلون الابواب وحتى العتبة عند الدخول لزيارة مرقد لينين، وانه قال لهم، لماذا تقومون بهذه الطقوس الدينية المقدسة وهو انسان مثل كل البشر، فأجابوه انهم يعبدونه، فقال لهم، ولكن الجثمان سيتلاشى بمرور الزمن، فقالوا له، انهم عندها سيجلبون جثمانا جديدا لهذا الغرض . وقد سألت هذا الشخص وانا استمع اليه مندهشا، باي لغة تحدثت معهم، اذ انك لا تعرف اللغة الروسية، فقال، انه تحدث معهم باللغة الانكليزية، التي يجيدها كل الروس  .

هذه الامثلة تبدو – للوهلة الاولى – طريفة ليس الا، ولكن تحليلها بعمق وموضوعية تبين اسلوب التفكير لدينا وطريقة انعكاسه على مسيرة حياتنا الفكرية والعملية ايضا . كم من الاخطاء تم ارتكابها نتيجة هذا التفكير السطحي الساذج، وما احوجنا الان ان نتأمل – وبعمق - كل ذلك ...

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم