شهادات ومذكرات

غداء في مقبرة مارك توين

صالح الرزوقبقلم: سكوت ماينار*

ترجمة: صالح الرزوق

لسبع سنوات، عشت وعملت في إلميرا، نيو يورك، حيث  قبر سام كليمنس - ومعه قبور أفراد عائلته وكذلك أقاربه الذين يتوسط أسماءهم اللقب “لانغدون”. وفي بعض الأيام كنت أمتطي دراجتي الهوائية من جامعة إلميرا إلى مقبرة وودلون لتناول الغداء بجوار مقابر كليمنس /لانغدون، وللتفكير بمشاكلي وبالموضع الذي وصلت إليه خلال هذا التاريخ الحافل، بجانبيه الشخصي والعام - أو لأنظر لاتساعه وجسامته، وكان شيئا يفوق التوقعات. كنت متشردا برأس فارغ، وعلى علاقة ضعيفة بكل جوانب التاريخ: الشخصي والأدبي والوطني.

وودلون مكان فاتن بقدر ما يمكنك أن تتصور: منفصل وينطوي على نفسه، وتغطيه أشجار سنديان طويلة وصفصاف مهيب يوفر ظلا لا يستغنى عنه، ويحده مستطيلات عشبية خضر جميلة يتخللها ممرات من الحصى والإسفلت الرمادي، وكانت جذور الأشجار تنمو هناك بشكل أقواس فوق الأرض كأنها موجات متتابعة أومتتالية. هدوء يدخل للعظام، ولا يرعب أحدا ولكنه أيضا غير اعتيادي. وكنت أرتاح له كثيرا.  وكنت أجلس على منصة حجرية، وكانت تبدو منها دراجتي كأنها متطفل أو شيء دخيل على لوحة رسمتها الطبيعة. ولكن دائما يخامرني الشعور أنني لست من هنا.. دون علاقة عضوية مع نيويورك. فمسقط رأسي هو كليفلاند، ونحن ندفن أقاربنا في مقبرة ليكفيوعلى مقربة من الضريح المشهور لجيمس غارفيلد (الرئيس العشرون للولايات المتحدة - المترجم). ولكن لهذا السبب لا أشعر أنني بعيد تماما عن جوي.

خلال تلك الساعات أشعر بالحنين والحزن لكليمنس وأفراد عائلته - ليفي، لانغدون، سوزي، كلارا وجين.  ولكن إلميرا نقطة تقاطع مدهشة بين الناس والأفكار. فهنا وعلى مسافة غير بعيدة جرى لقاء كليمنس مع هارييت بتشرستاو وفردريك دوغلاس، وصديق عمره، الاشتراكي الطوباوي وليام دين هولز. الأمر الذي يؤكد أن نيو إنغلاند كانت في القرن التاسع عشر مكانا مؤثرا. وهي بالنسبة لي اليوم ككائن “أدبي” هي الجنة.   

**

(حيثما وجدت نفسك مع الأغلبية، يكون الوقت مناسبا للتمهل والتفكير).. مارك توين.

قرابة موعد وجبات الغداء وعلى الممشى المغطى بالحصى، كان يدير فيك دواينو (هو فيكتوردوانيو - المترجم) من جامعة نيويورك الحكومية في بوفالو، جلسات نقاش استمرت أسبوعين. موضوعها هو: ما هي أفضل طريقة لتدريس مغامرات هكلبري فين. كان فيك في تلك الحقبة واحدا من أهم المراجع الأدبية الحية بما يخص توين في أمريكا. وحينما حصلت المعجزة واكتشفت مسودة للنصف الأول من رواية لتوين في سقيفة في كاليفورنيا عام 1990، وربما كانت بين ممتلكات أحد أقارب توين البعيدين، أرسلت المسودة لمكتب فيك دواينو، في جامعة نيو يورك الحكومية، بوفالو، للتدقيق بها. وكان آنذاك مشغولا بمحاضرة تعليمية في مزرعة كواري. وهي من أملاك سام وليفي ومشيدة على سفوح تلال قريبة من مكان آل لانغدون، وعلى مشارف إلميرا تماما، وتشرف على وادي نهر شيمونغ - منظر فاتن من مناظر نيو إنغلاند، ويمتد من تلك النقطة حتى مدرجات حجرية على أعتاب بيت واسع ل شرفة أمامية عريضة ومهيبة. وخلال غدائنا معا، كان فيك دوانيو أحيانا يبكي كلما تذكر المعاملة السيئة التي تلقاها الملونون في الجنوب  بعيد الحرب الأهلية فورا. ومنه سمعنا عن القوانين العنصرية المحلية في الجنوب، والتي كانت أحيانا قاسية جدا، وتعمل على اعتقال العبيد المحررين (وتجويعهم)، قبل أن يبتعدوا عدة أميال نحو الشمال. وكانت العقوبة، وهي أقسى مما تتصور، تستمر لعدة شهور من السخرة في حقول القطن حتى لا يكرروا جريمتهم. وطبعا، لم يكن عند هؤلاء اللاجئين نقود. ومن أين لهم بها؟. ومن الظاهر أن حشونة تلك القوانين كانت أقسى من أن تهضمها معدة  دوانيو. 

وفي مناقشة أعقبت إحدى تلك المحاضرات سأل دواينو إذا كنا نعتقد أن شخصية هكلبري فين قد تبدلت من بداية الرواية حتى نهايتها. بكلمات أخرى سأل: هل لمغامرات هاك أي تأثير على شخصيته، ووجهة نظره للعالم، وتفكيره.أجاب معظم الحاضرين بالنفي، بمعنى أن هاك لم يتبدل على الإطلاق. والدليل متوفر في أقواله التي عبر بها عن رغبته بمواصلة المشوار مع توم سوير و خططه المتعبة. و تجد ذلك في نهاية الرواية. فقد كان يريد “العمل” على تحرير جيم من الأسر، وتعامل مع المشكلة وكأنها عمل خطير وحرج، كما ورد على لسان توم. ولذلك أخذت المسألة طابعا رومنسيا. وأي شخصية قادرة على الاستمرار مع خطة مبيتة، وتخاطر بمصير جيم، وتشعر بالمتعة من جراء ذلك، لا يمكن أن تتعرض لأي تبدل ظاهر. إنه لا يمكنها أن تنضج أصلا. وعلى هذا النحو استمرت المناقشة - ورأت جملة الآراء أن هاك يافع جدا ومنهك،  ولا يمكنه أن يتعلم أي درس مفيد من مغامراته. ولكن أنا وحدي انفردت بموقف مختلف لأنني شعرت أن السبب الأول ألغى الأبعاد الشخصية لهاك، وربما أفرط بتبسيط قضيته وظروفه. لقد كان، في النهاية ابنا لبابا فين، وهو والد كحولي وعدواني  يضرب ابنه،  ويجبره على أن يعيش معه. أضف لذلك أن هاك شاهد نفسه بمرتبة اجتماعية وظروف خاصة أدنى من توم سوير. وخلال الأحداث أوضح أنه يرغب أن يقايض بحياته وسمعته لإنقاذ جيم. إن شخصية هاك، بعكس توم، مرت بحالة معاناة شديدة، ولكنه لم يرتدع عن التضحية والمخاطرة، حتى ولو كان هذا على حسابه الشخصي. وأرى أن اتباع توجيهات توم مجرد خطيئة، وهي خطيئة علينا  توقعها من طفل لديه فكرة سيئة عن نفسه.

وفي خاتمة الرواية، يعلن هاك أنه لا يرى “أملا أفضل بمغادرة فضائه”. وكانت خالته سالي تخطط لتبنيه و“تمدينه”. ومن الواضح أن آخر جملتين في الرواية هما إشارة لـ “تحضيره”. يقول بهذا المعنى:”لا يمكنني الاحتمال. كنت هناك من قبل”. إن رفض هاك لثقافة نهر المسيسيبي تصرف صبياني لكن له معنى. وربما يدل على أن شخصيته غير مستقرة. وهذا رأي معقول، لأنه بنظري، يجعل الرواية أعمق، ويأتي بعد تضحيات شخصية جسيمة، رغم حقيقة أنه صغير، ولا يمكنه استيعاب كل المغزى. ومع أن مثل هذه المناقشة البسيطة أدبية ولا شيء غير ذلك، هي ذات مغزى عندي لأسباب لم تكن واضحة تماما في حينه. ثم انتبهت أنني أنا بالذات أشترك معه بعدة خصال وصفات.

**

(الشجاعة مقاومة ضد الخوف، و أداة لنتحكم بها بخوفنا، ولكن ليس لنلغيها).. مارك توين.

كنت وسط الطريق في رحلة عالمي المصغر - متوجها إلى الجزء الشمالي من نيويورك، ونحو عدة محطات بدأت من نيو فاوند لاند وكندا، ثم بلدات لها أسماء مثل أثينا وييلو سبرنغز، وكلتاهما لعب دورا مؤثرا في توجيه خط  قطار الأنفاق. وحينما أقف قرب نهر أوهيو اليوم (يمكن مشاهدته من نافذة مكتب زوجتي في بورتسماوث)، كل ما يمكنني أن أفكر به هو الشجاعة التي دفعت أولئك الأشخاص للقيام بعبوره باتجاه الضفة المقابلة، ولا سيما في شتاء القرن التاسع عشر. لقد مات عدد منهم وهم يحاولون العبور، وعدد آخر وقعوا بأيدي صيادي العبيد ببساطة وأعيدوا لعبوديتهم من سينيساتي ودايتون وأماكن مماثلة.

بالنسبة لتوين كل الرحلات التي تخللت حياته تنتهي بالمياه - الميسيسيبي، والهادي، والأطلنطي، وذلك ليدفع تكاليف استثمارات خاسرة، حتى لو أنه لم يكن مضطرا لذلك. كانت الحياة صعبة لو نظرت لتاريخ توين من زاوية أسفاره وتعدد مساراته، وقد حاصرتني تلك المتاهة أنا أيضا، ووضعتني بمواجهة شجاعته التي قاوم بها الموت. مات لانغدون ابن آل كليمنس وهو في شهره التاسع عشر، وماتت ابنتهما سوزي وهي ابنة أربع وعشرين عاما. وتبعتها جين وهي بعمر تسعة وعشرين عاما. ولم تبقى على قيد الحياة غير كلارا. ثم توفيت في كاليفورنيا عام 1962. وأحد أهم الخصال المتعلقة بسام كليمنس هو التالي: كيف يمكن لكل ذلك المرح أن يأتي من حياة مليئة بالتراجيديا الشخصية، وبالمعاناة على نطاق شامل وكوني.

حينما امتطيت دراجتي وأسرعت بها لموعد الغداء عند ضريحه وأضرحة زوجته وأولاده، فعلت ذلك على أمل أن أتعايش مع شيء من أخلاقهم الشخصية، ربما لأنني كنت بحاجة لذلك أنا بالذات. ولكن كما ذكر توين نفسه: الشجاعة ليست دائما الشيء الواضح أو النقي الذي نتخيلها به. كان تذكر  الانتهاكات، التي وقعت ضحية لها في طفولتي، أسهل لحد ما وأنا تحت تلك الأشجار وبين تلك الممرات في مقبرة وودلون. إنه يصعب علي الكلام عن الاعتداء على الأطفال، بكل درجاته وأشكاله، وأنا  رجل ناضج. هناك شيء له علاقة بهذا البرد القاسي على ما أفترض.  لقد كان الثلج يحاصرني ويحولني لأعمى، وأنا أقف في تلك المساحة المتجمدة لدرجة الضرر والأذى.     

يمكن للأطفال أن يكونوا هم الناجين. هم/ ونحن نتحلى بهذه المنة التي تؤهلنا للانزواء والتخيل، وأحيانا لإسقاط صور مثالية على أنفسنا وعلى غيرنا. نحن نعوم في التيار ونحاول أن نبقي رؤوسنا فوق الماء، وأن تجنب النتيجة المحتومة إذا سقطنا للقاع. كنت هكذا أعوم بمساعدة طوف من صنع يدي، وهو ما سمح لي بالحركة والحياة.

إن آليات التأقلم مثل أطواف خشبية في الماء.

وعندما توجب علي أن أتخلى عن ذلك الطوف، وأشق طريقي لليابسة، أصبحت الظروف قاسية. وقد كافحت ومرارا فقدت الإحساس بالاتجاه لفترة من الوقت، وفقدت نفسي أيضا في ممرات غريبة تغطيها أوراق النباتات، وأحيانا كنت أفرط بالنضوج وينتابني الحنين. والكآبة كذلك. وتعلمت في خاتمة المطاف أن هذا لا يكفي لأطفو. وعليك أن تعرف كيف تعوم للأمام وتتابع طريقك بسرعة، وأن تنهض حينما تجرك قوة التيار للأسفل. ثم بمعجزة تنهض مجددا وأنت تتنفس الهواء المتجمد بهدوء وثقة. وإن كنت محظوظا، تجد معك صديقا هناك - أكبر منك وأكثر حكمة. شخصا عانى أيضا وتعلم من معاناته.  أما السخرية المرة والمثمرة  التي نجمت عن هذه التجارب فقد علمتنا أشياء لا نمتلكها إلا بالمعاناة. المعاناة وحسب. وهو ما لا يمكننا الحصول عليه بأي وسيلة مختلفة. هذا هو أفضل معلم وطريق لنا، إنه خط الحياة الملقى أمامنا. خط المستقبل. وهذا ما يعنيه توين الأمريكي لي: فهو من كتب قصصا عن انتصارات عظيمة أو بسيطة، وعن آلام تنتهي بالنجاح، وعن شخوص لديها شجاعة كافية، وهذه أداة مدهشة تنطوي ضمنا على --- الفرح المؤجل.

**

(أخبار موتي مبالغ بها كثيرا).. مقولة شائعة تعزى لمارك توين.

واحد من الأمور التي أحبها في البوذية فكرة التقمص. كنت أتكلم مع طلبة قسم الأدب أحيانا عن الفرق بين الإنقاذ والتنوير. وأخبرتهم أن البوذيين المؤمنين بدينهم لا يخافون من الموت، لأنهم يعرفون أنهم عائدون لهذه الحياة. ولكن ينتابهم الرعب من أن يعودوا بشكل نملة أو حلزون. وهذا يحدث إذا لم تكن حياة الإنسان السابقة صحيحة وملائمة لاستكمال دورة التطور. وبهذه الطريقة، قد تكون الشائعات حول موتهم أو نهايتهم الأخيرة، كما أفترض، مبالغا بها. كان توين شكاكا بالدين ومنتقدا له، ولا سيما الدين الغربي الذي توقف عنده بعدة مقالات، ضمنا مقالته “تأملات في الدين”. ذكرت كلارا ابنة كليمنس أن أسباب منع المقالة التي حجبت عن العامة  لعدة سنوات بعد وفاة أبيها، هي جزئيا لمحتواها واحتمالات فهمنا له، فقد نفهم منها على سبيل الخطأ أنه أيد الاتحاد السوفياتي، ونهجه الأرثوذوكسي.

ثم إن فكرة أن الشائعات عن وفاته مبالغ بها تنطوي على طرفة كوميدية بمعناها. ولا سيما إذا تصورت ممثلا يؤدي دور مارك توين بتمثيلية يقوم بها شخص واحد في أرجاء البلاد. ويلقي أقوال توين هذه على مجموعة من الحاضرين الأحياء.

ولكن غرابة الفكرة تتساوى مع مثاليتها. وربما هي تود أن تخدعنا - أن تكون غريبة بمقدار ما فيها من معنى ومقاصد. وقد أكد لنا شكسبير، وهو واحد ممن كانوا هدفا لمزاح توين بين حين وآخر، أن الكوميديا والمرح طريقة من طرق التعامل مع الحقيقة، والتعبير عنها وإدارتها في ظل أصعب الظروف. ومن الواضح، هذه هي استراتيجية من استراتيجيات حياة توين. وأنا أفهم أن المرح كان أساسيا في حياتي وأنا أدين له بالبقاء. فأنا مدمن على القهقهة من القلب. ولا زلت أحفظ عن ظهر قلب مشاهد من عدد من الأفلام وأحاول ما بوسعي تقليد الأصوات والحركات الكوميدية التي رأيتها. ومثل مارك توين، أخفيت أحزاني وأسفي جيدا، وهو ما كان غالبا يدهش ويفاجئ أصدقائي الذين سمعوا بما أعاني منه. ورأيت أن خيارات توين في المرح والحرب من أجل البقاء رغم التراجيديا الشخصية، صفة أمريكية، وجزء مما أبحث عنه بجولاتي على الدراجة، كما أنه جزء من تأملاتي في أرجاء وودلون - حيث أجد معنى البقاء والنجاة والهواء المنعش بالرغم من كل المآسي. بعض المقابر تبدو حزينة، ولكن معظمها جميلة. وبهذا الإحساس أنفقت وقتا طويلا فيها.  إنه لشيء مدهش أن يمضي إنسان حي وقته بين الأموات. ألست معي أن هذه خصلة تدل على العشق والتمسك بالحياة، أو لنقل على إرادة البقاء والأمل.  

**

مع أنني أعيش الآن في أوهايو، أحيانا أعود إلى وودلون وأتجول بين الأضرحة. هناك الرياح تهب بين الأشجار ولكن الشمس تلهب المناطق الظليلة بالدفء. وأستطيع أن أسمع صوت عزيف الرياح الذي لا يمكن ترجمته. ثم أنظر للسماء التي هي أمامي، وأجد أسماء عديدة وكثيرة، واحتفظ القليل منها بالنقوش الغرانيتية حوله. كان توين يعلم أنه في أعماق قلوبنا رغبة للعناية بالحياة والتعبير عنها بنقش كلمات على الحجارة. وكان يعلم أن الأطفال مثل أي كاتب لهم قيمة يمكن للتاريخ أن يحفظها لنا. وكان يؤكد أنه لا بد من تقديم الحماية ضد الظروف القاسية. إننا كائنات قابلة للمعرفة والثقافة، ويكفل لنا ذلك مرور الوقت أو مقاعد الدراسة. وأعتقد أن كل الحكمة المرجوة من “مغامرات هكلبري فين” هو تمرير هذه الفكرة.. إن حياة أي إنسان، سواء هو رجل أو امرأة أو طفل تكون طويلة أو قصيرة. غير أنها ذات معنى مكتوب له أن يبقى. وما يجعلها محتملة أنه في مرحلة من المراحل نتأكد أننا سنرى  كل شيء في النهاية.

 

(الترجمة تمت بمشاركة المؤلف).

.....................

* شاعر وأكاديمي أمريكي. المقال سينشر في مجلة “Meuseum History Journal”

 

في المثقف اليوم