شهادات ومذكرات

الشيخ الصادق الغرياني.. المونولوجست الدينى!

في العاشر من ديسمبر من عام 2018 نشر الأستاذ رشدي أباظة مجموعة مقالات عن الشيخ عبد الحميد كشك في مجلة روزا يوسف وسماها بعنوان “الشيخ كشك.. المنولوجست الدينى”، وذكر الكاتب أن سبب كتابته لتلك المقالات أنه كان قد تلقى سؤالا من الشيخ كشك، وهو أى الدعاة أخطر.. دعاة «السلطان» أم دعاة «الجماهير»؟ . وهنا أجاب الكاتب بدولة السلطان، لكن الشيخ كشك قال بل دعاة الجماهير هم الأخطر وأشد تنكيلا!

وبالفعل صدق كلام الشيخ كشك في دعواه خصوصا مع تلك الشخصية التي أتحدث عنها في هذا المقال وهو الشيخ الصادق الغرياني (الملقب بعراب الإرهاب)، والذي أصفه بالمنولوجست الليبي، ولما كان المقصود بالمنولوجست  هو ذلك الشخص الذي لديه القدرةُ على إضحاك الجمهور وتسليتهم عن طريق تقليد الآخرين، وأيضًا عن طريق الغناء وإلقاء النِّكات، وما شابهها من فكاهات؛ فنفس الشئ يطلق علي هذا الرجل الذي تمكن من أن علي يُضحك بالناس باسم الدين من خلال الفتاوي التي يصدرها، فالغرياني كما هو معروف عنه هو ذلك الرجل الذي نصبته الميليشيات الإخوانية مفتيا عاما للديار الليبية في فبراير 2012، وكان أحد المروجين لمشروع سيف الإسلام القذافي قبل ثورة 17 فبراير التي أطاحت بنظام القذافي.

وكان مشروع "ليبيا الغد" الذي أطلقه سيف القذافي عام 2001، هو السبب في بروز الغرياني في الأوساط الليبية، حتى أنه اعتبر الواجهة الدينية للمشروع برفقة الشيخ علي الصلابي، زعيم إخوان ليبيا، فقبلها كان مجرد مدرس للعلوم الشرعية في جامعة الفاتح بطرابلس.

وعقب اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا وسقوط النظام  تحول الغرياني بدرجة 180 درجة، فالرجل الذي كان عرابا لمشروع سيف الإسلام القذافي تحول في ليلة وضحاها ليصبح عرابا للدماء، والمفتى الحصري للجماعات المتطرفة؛ ففي خلال سنوات الحرب الثمانية اعتمد المتطرفون الليبيون على فتاوى الغرياني، والتي طالب من خلالها الجماعات الإرهابية، برفع السلاح ومحاربة قوّات الجيش الليبي، حتى أصبح أحد أبرز المساهمين في انتشار الفوضى وتعزيز الانقسام في ليبيا.

ويذكر أن الغرياني برز في "سوق الفتاوى المتطرفة" منذ ثورات الربيع العربي في عام 2011م وذلك عندما أصدر فتوى بضرورة خروج الليبيين لنصرة المتظاهرين أمام نظام العقيد معمر القذافي. وقال في فتواه: "إنّ الخروج إلى المظاهرات فرض عين لمساندة الإخوة المكلومين في باقي أراضي البلاد، وإن البلاد تعاني غزوًا أجنبيًّا من مرتزقة أفارقة يموَّنون من حكومة طرابلس إلى بنغازي عن طريق جسر جوي".

وفي عام 2012، أعلن في سلسلة من الفتاوى المتتالية، انحيازه التام إلى تيار الإسلام السياسي في ليبيا ودعمه للجماعات المتطرفة، حيث كان يدعو في كل مرة الليبيين إلى التقاتل، محرضاً على العنف؛ ومن أغرب الفتاوى التي خلفت جدلاً واسعاً، تلك التي استهدف فيها قوات الجيش الليبي في حربها لتحرير البلاد من التنظيمات الإرهابية، حيث أفتى بهدر دم القائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر وجنوده، ودعا إلى الخروج للقتال ضدهم بدعوى "الجهاد".

كما أفتى الغرياني بعدم جواز الصلاة خلف من يدعو لنصرة حفتر، قائلاً "لا تجوز الصلاة خلفهم ولا سماع كلامهم، لأنّ الحرام لا يجوز سماعه ولا تجوز رؤيته، وهكذا العلماء يقولون الحرام إذا كان شيء حرام لا يجوز لك أن تسمعه، ولا يجوز لك أن تراه، ولا يجوز للمسلم أن يصلي خلفهم أو يجلس عندهم أو يستمع لهم أو ينظر إليهم. إلى ذلك، أصدر فتوى تقول "إن من ينضم إلى حفتر ويموت معه، يخشى أن يموت ميتة جاهلية، في حين كل من يقاتله ويموت فهو شهيد وفي سبيل الله".

في المقابل، دافع الغرياني الذي يقيم في تركيا، بشدة عن الجماعات المتطرفة والمليشيات المسلّحة في فتاواه، حيث سعى في كل مرّة إلى الدفاع عنها وتبرئتها من كل الأعمال الجرمية، حتى إنه أجاز دفع أموال الزكاة للجماعات المسلحة لشراء المقاتلين والسلاح.

ودعا الغرياني، الذي يلّقب في ليبيا بـ«مفتي الدمّ والفتنة»، على غرار يوسف القرضاوي، من سمَّاهم بـ«المجاهدين وكتائب الثوار للنفير بعدتهم وسلاحهم إلى العاصمة طرابلس»، زاعمًا أن «الجهاد والقتال ضد العدوّ واجب وفرض عين على كل قادر ولا يجوز التخلي عنه...»، كما طلب من قادة الكتائب المقيمين خارج البلاد، وبالتحديد في تركيا (خاصة عناصر مجلس شورى بنغازي، المصنّف تنظيمًا إرهابيًّا) بسرعة العودة فورًا إلى ليبيا والتوجه لجبهات المعارك، وقتال عناصر الجيش الوطني الليبي.

كما فضح الغرياني  الدور القطري المشبوه في بلاده، بعدما اعترف القيادي الإخواني باحتيال تنظيم الحمدين القطري لتنفيذ مخططاته لإسقاط الدولة الليبية، وتفجير الانقسامات الداخلية، عبر مد الميليشيات الإخوانية بالسلاح والعتاد، ولذلك خلال الأيام الماضية، تداول رواد موقع تويتر مقطع فيديو للغرياني، المقرب من قيادات جماعة الإخوان الإرهابية بليبيا، يعترف فيه بتمويل قطر للحركات المسلحة في ليبيا.

وثمة نقطة مهمة أخري أود الإشارة إليها هنا وهي أنه عندما أن قررت بلدية طرابلس في الأيام الماضية، تعليق الدراسة لمدة أسبوع بسبب الاشتباكات والقذائف العشوائية، حفاظا على سلامة الطلاب، ظهر الشيخ ‫الصادق الغرياني بموقف مخالف لهذا الإعلان الذي رأى في سلامة المدنيين والطلاب ضرورة.

وتساءل الغرياني عن سبب عدم تعطيل المدارس في المدن الأخرى بخلاف ما حصل في مصراتة، وقال: هل وحدها التي تعطل فيها المدارس والأعمال من أجل الوطن وباقي المدن لا يعنيها الأمر؟

سؤال الغرياني يبحث عن تجاوب الجميع مع هدفه وهو حمل الجميع صغارا وكبارا السلاح والتوجه نحو جبهات القتال؛ ويرى مراقبون أن قرارات وفتاوى “ارتجالية” بدأت تظهر في وقت صار فيه الجيش هو الأقرب إلى وسط طرابلس وهو ما جعل من تلك القيادات تحاول الضغط على المدنيين ليصبحوا وقودا للحرب.

وقال الغرياني "إن قطر فضلها عظيم على الثورة الليبية، ويجب أن نعترف بحقها وأن نكن بالوفاء لحكامها لأنه من لا يفي يكون أقل مرتبة من الكلب؛ وأضاف: "كنا في أحلك الظروف وقطر تمد إلينا يد المساعدة واحتالت بشتى الطرق لإسقاط نظام القذافي، حتى أنها قدمت الأسلحة والذخائر للمقاتلين ضمن شحنات الأدوية التي دخلت ليبيا".

ولم يكتف الغرياني بذلك بل خرج عن السياق العام، مواصلًا سلسلة الفتاوى المثيرة للجدل، التى تكشف عن محاولات مشبوهة لتوظيف الدين في دعم الجماعات والميليشيات المسلحة؛ حيث جدد الغرياني الإفتاء بـ«عدم تكرار أداء فريضة الحج والعمرة، وتوجيه نفقاتهما لدعم الفصائل المسلحة –الميليشيات - التي تقاتل الجيش الليبي".

وقد أثارت فتوى الغرياني لاستهجان، كما أثارت فتوى سابقة له بـ«إخراج زكاة المال للفصائل المسلحة في طرابلس»، زاعمًا أن القتال ضد الجيش الوطني الليبي «جهادًا»، محرضًا في الوقت نفسه على قتل القائد العام للجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر وجنوده، مشيدًا بما تقدمه قطر من دعم للفصائل المسلحة (الميليشيات الإرهابية في طرابلس).

ومن الملاحظ أن المشكلة في فتوى الغرياني أن متطلباتها سياسية لا دينية؛ فالفتوى الدينية هي التي تراعي مقتضى الحال والتي تهتم بأمر المسلمين كافة، دون تمييز ولا تخصيص، حيث وُجِّه كثير من الانتقادات إلى الصادق الغرياني؛ سواء أكانت في ليبيا أم خارجها، فهو لا يكف عن الزجّ بالدين في أعمال السياسة؛ ففي يوليو 2012 وقبيل أول انتخابات عامة تشهدها ليبيا منذ نحو 46 عامًا، طالب الغرياني الناخبين الليبيين المتوجهين إلى الاقتراع في انتخابات المؤتمر الوطني العام بعدم التصويت لتحالف القوى الوطنية الذي فاز لاحقًا في الانتخابات، وعدم التصويت لمحمود جبريل باعتباره “مناصرًا لليبرالية”؛ ليثير الغرياني لغطًا في فترة الصمت الانتخابي.

كما أن هناك بعض الفتاوى والآراء التي تتدخل في عديد من شؤون الدولة التي تعد خارج اختصاصات المفتي، حسب آراء عدة، كما حدث في خطابه بشأن أحداث سرت، واستخدامه الدين للتحريض ضد حفتر، والدعوة للانضمام إلى سرايا طرابلس علنًا، فضلًا عن إفتائه بحرمة التظاهر في بنغازي، ورأيه بشأن أحداث مدينة بني وليد، ومحاولاته فرض رؤية خاصة حول ما يتعلق بكتابة الدستور الجديد لليبيا؛ مما جعل البعض يراه (تهديدًا لمدنية الدولة) حسب رأي نشطاء في المجتمع المدني والمهتمين بقضايا الحريات في ليبيا.

وقد طالبت جهات وشخصيات في ليبيا بعزل الصادق الغرياني، من منصبه؛ لأسباب مختلفة أبرزها جاء من رئيس المجلس الانتقالي السابق في ليبيا المستشار مصطفى عبد الجليل، الذي صرَّح في 11 يونيو 2014 بضرورة عزل الصادق الغرياني من  منصبه؛ بسبب فقدانه شرطًا من شروط الأهلية، وهو فقدان ثقة الليبيين به، حسب ما نصّ عليه قانون تعيين منصب المفتي. كما انتقد فتاويه كثير من العلماء؛ خصوصًا فتواه الخاصة بوجوب مقاتلة قوات الجيش الوطني التي يقودها المشير خليفة حفتر ضمن عملية الكرامة.

في أغسطس 2014، طالبت اللجنة الوطنية الليبية لحقوق الإنسان مجلس النواب بإعفاء المُفتي العام للديار الليبية الشيخ صادق الغرياني، من منصبه، ورفع الحصانة عنه؛ حيث قالت اللجنة: “إن هذا القرار جاء بعد رصد اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان دعوات صريحة للمُفتي العام للديار الليبية، بالتحريض على ممارسة وإثارة العنف وتصعيده وتحريضه على القتل والتعذيب والتمييز وانتهاك حقوق الإنسان من قِبَل الغرياني عبر وسائل الإعلام، والتي تنذر بحدوث حرب أهلية وتؤثر سلبًا على الأمن والسلم الاجتماعيين للمجتمع الليبي”، كما طالبت بإحالته إلى التحقيق مِن قِبَل مكتب النائب العام.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم