شهادات ومذكرات

رجائي عطية.. فيلسوف المحاماة والمحامين (2)

محمود محمد علي (رسالة المحاماة)

نعود ونكمل حديثنا عن فيلسوف المحاماة والمحامين في هذا المقال الثاني، والذي نستهله بمفهوم المحاماة في فكر الأستاذ رجائي عطية، وذلك كما ورد في كتابه رسالة المحاماة، فهو في هذا الكتاب يحدثنا حديثا قد يبدو غريباً عما تعودناه .. فهو يحدثنا فيه عن المحاماة التي كانت والتي يجب أن تكون .. ومرجع هذا الحرص هو إيمانه الشديد بأن جيلنا يسلم الراية عالية خفاقة للأجيال القادمة، وبالتالي لا تأخذنا الدهشة حينما يتحدث رجائي عطية عن أشياء لم تعد موجودة الآن، لماذا؟ لأن مهمتنا كما يقول :" أن نتقدم بالمحاماة وأن نلزم كل من نتعامل معه بأنها تمثل رسالة .. رسالة ينهض بها المحامون فرسان الحق والكلمة .. يخوضون فيها الغمار، ويسبحون ضد التيار! .. يحملون راية العدل قي صدق وأمانة وذمة ووقار.. يناصرون الحق ويدرأون الظلم.

وكلمة رسالة في نظر رجائي عطية لا تقال هنا اعتباطا فلا هي في نظره مهنة ولا حرفة ولا صنعة، وإنما هي بالفعل في نظره رسالة كرسالات الأنبياء والرسل.. فحينما نفهم ونعرف ما هي المحاماة! وكيف يجب أن تكون كما كانت وأحببناها!!، من أجل ذلك سنفهم الفارق الواضح كما يقول رجائي عطية "بين ما سوف نطرحه وبين المعاناة الجارية"، وله في هذا الأمر هدفين (وهو يعتبر نفسه قد نجح إذا ما وصل لتحقيق كل منهما)، الهدف الأول ويوجهه رجائي عطية لكل المحامين في الشرق والغرب فيقول : عليكم أن تحبوا وتعشقوا المحاماة، فلا رجاء للمحاماة ولا رجاء للمحامي، إلا إذا كانت المحاماة هي المعشوقة، والمحامي هو العاشق، وهذا العشق هو وحده الذي يكفل التقدم بالمحاماة والنهوض برسالتها، أما الشق الثاني والمطلب الثاني الذي نسعي إليه وهو أن نقدم من واقع خبرته التي تجاوزت حوالي 60 سنة في ممارسة هذه الرسالة مفاتيح أدائها أو مفاتيح المعرفة التي يجب أن تتوافر فيها.. مفاتيح التعامل في محرابها .. مفاتيح التعامل في ساحات المحاكم... مفاتيح التعامل في غير محاكم نيابات كانت أو سلطات استدلال .. مفاتيح الأداء .. مفاتيح المرافعة .. مفاتيح الإلقاء" .

هذه بعض مفاتيح أداء رسالة المحاماة كما يؤكد رجائي عطية، ولكن من حقنا أن نسأله: ما مرجع إصراره علي أن المحاماة رسالة،، وما الفارق الذي بيننا وبين الطبيب أو المهندس، أو الحرفي أو الصيدلي أو الباحث في العلوم، أو الزراعي.. وهلم جرا؟

ويجيبنا قائلاً :" كل هؤلاء المهنيون أو الحرفيون يؤدون عملاً جديراً بالاحترام، ولم يزعم أحد منهم أن قيامهم بما يقومون به يدخل في باب الرسالة" .

وهنا نسأل رجائي عطية لماذا يصر علي أن المحاماة رسالة.. ويجيبنا قائلاً :" لأن المحاماة نيابة ودفاع وحماية للغير"، ولفظ الغير هنا في رأي رجائي عطية هو مفتاح الرسالة والفارق بين أي مهني وبين المحامي، أن المحامي في رأيه لا يعمل لحساب ذاته، وإنما يعمل علي الدوام للغير ونيابة عن الغير ودفاعاً عن الغير وحماية للمحاماة لحقوق الغير، ومن أجل هذا كانت المحاماة في نظر رجائي عطية رسالة، وهذه الرسالة لا يمكن أن يقوم بها من يؤثر أن يسير في الصف، والمقصود يسير في الصف في نظره ؛ أي أنه يستطيع الموظف أن يذهب إلي عمله في ميعاده، ويؤدي العمل الموكول إليه،  وينتظر العلاوة في موعدها والترقية في موعدها، أو يسعي إلي سفرية أو بدل سفر  ... الخ.. ولكنه يظل في طابور.

أما المحامي كما يؤكد رجائي عطية فلا يمكن أن يكون في طابور ولا يمكن أن ينفع في هذا الطور، والسبب لأنه يجب علي المحامي أن يغرد خارج السرب، والمقصود بالتغريد خارج السرب هنا كما يقصده الأستاذ رجائي عطية أن المحاماة تقوم بعمل مجيد جداً ومتميز جداُ؛ بحيث لا يستطيع الأوساط من البشر (أي متوسطي الكفاءة أو العلم والمعرفة) أن يقوم بها .

وهنا نسأل الأستاذ رجائي عطية لماذا ؟ ويجيبنا لأن المحامي قد يتحدث إلي قضاة قد يكونوا أسبق منه تخرجاً وأكبر منه سناً وأعرق منه خبرة، ولكن المطلوب منه في مرافعته الشفوية أو المكتوبة أن يزحزح عقيدة ربما تكونت في ذهن القاضي أو القضاة، وهذه الزحزحة لا يمكن أن ينجح فيها أحد إلا أن يكون من المتميزين، والتميز في نظر رجائي عطية هنا ليس مجرد شعار أو حلية، وإنما التميز يمثل واقع، وهذا الواقع هو أساس  مشروعية المحاماة، فالمحامي في نظر شأنه شأن الذي يقف في الطابور أو شأن الموكل الذي لجأ إليه أو شأن القاضي الذي يترافع أمامه وشأن وكيل النيابة ... الخ وإلا كما يقول رجائي عطية فقد مشروعية وجوده ووجود المحاماة .لماذا؟ يقول رجائي عطية : لأنه يحلق فوق السحاب ليصل بقناعة المتلقين عنه إلي ما يبتغي أن يدخله في صفحة ثانية، استحالة ينهض علي ذلك ويحققه إلا إذا كان متميزا ولابد أن يقتنع المحامي والمحامين أنه يتعين عليه أن يكون متميزا لأنه في هذا التميز كما يري رجائي عطية يمثل مشروعية الوجود... مشروعية الضوء ... مشروعية الأداء ... مشروعية الرسالة.

وهنا نسأل رجائي عطية : كيف يحدث هذا التميز؟ ويجيبنا : التميز موهبة والموهبة كما قد تكون مخلوقة هي أيضا نتيجة دربة ومران .. نتيجة صبر ورياضة للنفس .. نتيجة اطلاع وقراءة وتحرك في الحياة بما أسميه "شوق" إلي المعرفة ..هذا هو الفارق بين المحامي وبين من سواه لأنه يتحرك في حياة تملؤها أشواق المعرفة، وهذا الشوق هو الذي يجعله لا يترك شيئاً يمر أمامه دون أن يسعي إلي معرفته، وهذا السعي الحثيث، هو الذي يكون التراكمات الثقافية التي تجعل من المحامي صورة متميزة .

ثم يؤكد رجائي عطية بأنه سيبقي رائعاً وعظيماً ومنشوداً أن يكون العدل مهجة وضمير وغاية ولسان وقلم القاضي فيما به يحكم، بيد أنه ليس يكفي المحامي أن يكون العدل مهجته وضميره وغايته، وإنما عليه أن يكون مفطوراً علي النضال من أجله، وأن يسترخص كل عناء، ومجاهدة وخطر في سبيل الوصول إليه، القاضي حسبه أن يقتنع بالعدل فيحكم به، فالكلمة به صادرة من لسانه وقلبه، ثم هو محصن بالاستقلال والحصانة القضائية وبالمنصة العالية التي إليها يجلس، أما المحامي فيخوض غماراً عليه أن يقف فيه شامخاً منتصباً رغم أنه بلا حماية أو حصانة، يكافح من أجل الحق الذي ينشده ويستصغر في سبيله مصالحه ويستهين بما قد يصيبه في شخصه وحريته، وربما في حياته نفسها، وتاريخ المحاماة شاهداً علي ذلك في كل العصور!

لذلك كانت المحاماة في نظر رجائي عطية رسالة تستمد هذا المعني الجليل من غايتها ونهجها .. فالمحامي يكرس موهبته وعلمه ومعارفه وقدراته لحماية "الغير" والدفاع عنه ..قد يكفي المهندس أو الطبيب أو الصيدلي أو المحاسب أو المهني بعامة أن يملك العلم والخبرة، والجد والإخلاص والتفاني، وعطاؤه مردود إليه .. معني " الغير" والتصدي لحمايته والدفاع عنه ليس حاضراً في ذهن المهني أو الحرفي، ولكنه كل معني المحاماة وصفحة وعي المحامي .. الداعية الديني مسلماً كان أو مسيحياً يجلس إلي جمهور المتلقين المحبين المقبلين الراغبين في الاستماع إليه، لا يقاومون الداعية ولا يناهضونه، ولا يناصبونه عداء ولا منافسة، أما المحامي فإنه يؤدي رسالته في ظروف غير مواتية ما بين خصم يناوئه، ورول مزدحم قد يدفع إلي العجلة أو ضيق الصدر، ومتلقِِ نادراً ما يحب سماعه، وغالباً ما يضيق به، وقد يصادر عليه، يري أنه يستغني بعلمه عن الاستماع إليه !! لذلك كانت المحاماة رسالة، الكلمة والحجة أدائها والفروسية خلقها وسجيتها .

ويستطرد رجائي عطية فيقول : يستطيع المهني أن يؤدي مهمته متي دان له العلم والخبرة بتخصصه بالطب إذا كان طبيباً، فذلك يكفيه للتشخيص وتحديد العلاج، وبالهندسة إذا كان مهندساً، فذلك يكفيه لإفراغ التصميم ومتابعة التنفيذ وهكذا، أما المحامي فلا يكفيه العلم بالقانون وفروعه ولا تكفيه الموهبة وهي شرط لازم، وإنما يتوجب عليه أن يكون موسوعي الثقافة والمعرفة، لأن رسالته قائمة علي " الإقناع" يتغيا به التأثير في وجدان غيره، والوصول إلي غاية معقودة بعقل وفهم وضمير سواء، وهذه الغاية حصاد ما توفره الموهبة ويدلي به العلم وتضافره الثقافة والمعرفة مجدول ذلك كله في عبارة مسبوكة وشحنة محسوبة لإقناع المتلقي، وما لم يصل المحامي إلي الإقناع، فإن مهمته تخفق في الوصول إلي غايتها. لذلك فإن المحامي لا يمكن أن يكون من الأوساط أو الخاملين، وإنما هو شعلة نابهة، متوقدة، متيقظة، موهوبة، ملهمة، مزودة بزاد من العلوم والمعارف لا ينفذ، مستعدة علي الدوام لخوض الصعب وتحقيق الغاية مهما بذلت في سبيلها ما دامت تستهدف الحق والعدل والانصاف.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل فلسفة الأستاذ رجائي عطية بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة لرؤيته ورؤاه في فلسفة المحاماة والمحامين.

تحيةً مني لأستاذي رجائي عطية الذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في رجائي عطية قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين"، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنسانا نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.... وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم