شهادات ومذكرات

محمد حسنى مبارك.. محاسنه ومساوئه! (3)

محمود محمد علينختم حديثنا في هذا المقال الثالث عن حسنى مبارك وأهم مميزات ومساوئ حكمه، وفي هذا يمكن القول: كان مشهد الملايين فى ميادين مصر احتفالا بسقوط مبارك، خير دليل على فرح المصريين، وحكمهم على الرئيس الذى دخل القفص الحديدى كمتهم بقتل شعبه وإهدار وسرقة ثروته، وقدرت الجارديان البريطانية ثروته وعائلته بـ70 مليار دولار، بينما فى 4 أغسطس 2011 كان أول فرعون مصري يحاكمه الشعب عقب إسقاطه.

وجاء تنحي مبارك، بعد أكثر من ثلاثين عاما في الحكم، بعد اعتصام دام 18 يوماً من المحتجين بميدان التحرير وسط العاصمة القاهرة، وفي محافظات أخرى، للمطالبة بإسقاط النظام، رافعين شعار: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية". ومع تصاعد الاحتجاجات، التي بدأت يوم 25 يناير من ذلك العام، قرر مبارك في 10 فبراير، تفويض نائبه اللواء الراحل عمر سليمان في اختصاصات رئيس الجمهورية وفق ما يحدده الدستور. لكنها خطوة لم تفلح، حيث استكمل مبارك في خطاب قال فيه إنه سيبقى وسيموت على أرض مصر، ولن يترك أرواح الشباب الذين قتلوا "منذ بدء الاحتجاجات" تضيع هدراً وسيحاسب المخطئ، وأعلن أنه لا يقبل إملاءات من الخارج، وستبقى مصر أرض المحيا والممات، لكن المتظاهرين رفضوا ما جاء في خطابه، واستمروا في المطالبة برحيله نهائياً عن الحكم. ومع طلوع شمس الجمعة 11 فبراير، خرج المتظاهرون في جمعة أسموها "الزحف"، وتوجه قطاع منهم إلى قصور الرئاسة، مثل قصر الاتحادية، والقصر الرئاسي في منطقة رأس التين بالإسكندرية. وفي مساء نفس اليوم، ومع وصول مسيرات احتجاجية إلى محيط قصر الاتحادية، ظهر عمر سليمان، في بيان تلفزيوني، أعلن فيه أن مبارك قرر التخلي عن منصب رئيس الجمهورية، وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد. وفور انتهاء خطاب التنحي، تظاهر العديد في مختلف أرجاء مصر في شكل احتفالية.

وفي 11 فبراير، أعلن نائب الرئيس عمر سليمان عن تنحي مبارك وانتقال السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويومها انتقل مبارك وعائلته من القصر الرئاسي في القاهرة إلى شرم الشيخ، وفي 2 يونيو 2012، انتقل مبارك إلى سجن مزرعة طرة، بعد إعلان الحكم عليه بالسجن مدى الحياة لتورطه في قتل المتظاهرين أثناء ثورة 25 يناير.

وفي جلسة إعادة المحاكمة، أدين مبارك وابنيه، علاء وجمال في 9 مايو 2015 بتهمة الفساد وحكم عليهم بالسجن، وكان مبارك يقيم في مستشفى عسكري وأُطلق سراح ابنيه في 12 أكتوبر 2015. حصل على البراءة في 2 مارس 2017 بحكم محكمة النقض المصرية، أطلق سراحه في 24 مارس 2017.

لقد كان مبارك ـ تقريباًـ هو الحلقة الأخيرة في مسلسل "البراءة للجميع" بعد أن تمت تبرئة نجليه وأركان نظامه من كل التهم التي وجهت إليهم وبقيت بعض القضايا البسيطة المضمونة مثل هدايا "الأهرام".. وفي قضية قتل المتظاهرين تحديداً تمت تبرئة وزير الداخلية ومعاونيه والأجهزة المنفذة.. وبذلك لم يعد هناك وجه لإدانة الرجل الكبير.. وبالتالي فنحن لم نفاجأ ولم نهتم بذات القدر الذي اهتمت به الصحافة الغربية... صحيفة "الجارديان" البريطانية كتبت تحت عنوان "الإفراج عن الديكتاتور المصري بعد 6 سنوات" أنه بالنسبة لأولئك الذين عملوا للإطاحة بالديكتاتور السابق "مبارك" فإن حريته تمثل لحظة قاتمة في تاريخ مصر الحديث.. ونقلت عن طارق الخطيب. الذي قتل شقيقه مصطفي في مظاهرات يناير 2011 قوله: "أنا لست حزيناً ولا محبطاً.. كنت قد فوجئت بأشياء حدثت سياسياً غير ذلك.. حيث سارت كل الأمور في الاتجاه الذي يمهد للإفراج عن مبارك" وذلك حسب قول مؤمن الهباء في مقال له بعنوان شهادة .. براءة مبارك.

وإذا كان مبارك قد تم تبرئته ولتضح للمؤسسة العسكرية نزاهة هذا الرجل فلماذا رفض «السيسى» السير على خطى «مبارك»؟!!!

وللإجابة نلجأ إلي ما قاله الأستاذ "دندراوى الهوارى " في هذا الشأن ؛ حيث أكد أن عهد مبارك شهد تناغماً عبقرياً بين المواءمات السياسية وبين الفساد والرشوة والواسطة وتجريف العقول وإعلاء قيم اللجان العرفية لتلعب دورا بديلا عن الدولة فى مواجهة الأزمات وحل الصراعات الطائفية بين عنصري الأمة، مسلمين وأقباطا.

فوجدنا في زمن مبارك الدولة المصرية مستمرة بالمسكنات (كما قال محمد الدسوقى رشدى في مقاله كورال «ولا يوم من أيامك يا مبارك»، مثلها مثل مريض استسهل ألمه، وتكاسل عن علاج جذرى واستمر فى تعاطى مسكنات ترضيه لحظيا، حتى استفاق فى مستقبله على حزمة أمراض مزمنة وخلايا غير قابلة للعلاج وقرحة فى المعدة لا تمنحه فرصة تذوق عيش الحياة فى هدوء... ليس هذا فقط بل كانت دولة مبارك تسقينا الوهم حتى ظننا أنه الحقيقة، واستيقظنا على صدمة مصارحة كاشفة لحجم الوهن الذى كانت عليه البنية التحتية لوطن كبير مثل مصر تنقطع كهرباؤه وتنهار طرقه وتتلاشى مقدراته من الطاقة بشكل يجعله طاردًا للاستثمار لا جاذبًا له.

علاوة علي أن مبارك:"كان يعقد الصفقات مع جماعة الإخوان المسلمين خلف الكواليس، بمنحهم 88 مقعدا في البرلمان، وترك كل النقابات لهم، يلعبون فيها كيفما يشاءون، وترك لهم الحبل على الغارب لإقامة المشروعات الاقتصادية، والتحرك في القرى والنجوع والمناطق الشعبية بكل حرية وأريحية يستفحلون ويتضخمون وينشرون أفكارهم ويجندون أولادنا دون أى مجابهة فكرية أو أمنية حقيقية تحمى الوطن من سيطرتهم على شوارعه، ثم يخرج في العلن مسخرا الجماعة فزاعة للمصريين، ضمانا لاستمرار حكمه، لذلك فإن مساحة الاختلاف بين السيسي ومبارك، شاسعة، فالسيسى (كما الأستاذ "دندراوى الهوارى في مقاله السابق ) لا يلجأ إلى تصدير الوهم ليصبح سيد الجماهير، أو استخدام المسكنات فى العلاج، أو الرضوخ والإذعان لأمريكا والغرب، ودول إقليمية، فبدأ فى فتح الملفات الصعبة والمسكوت عنها، والعمل من أجل المستقبل، فى سياسات طويلة الأمد تنهض بالدولة، ولا تعتمد على الحاضر، وتوفير «قوت الناس» يوماً بيوم. وواجه الجماعات الإرهابية بكل قوة، دون خوف، أو حسابات معقدة، بينما «مبارك» لم يقترب من أصل مشكلة لحلها، ولكن كان يلجأ للعلاج بالتنويم المغناطيسى تارة، والمراهم والمسكنات تارة أخرى. ولو كان السيسى يصدر الوهم للمحافظة على شعبيته الجارفة، ما لجأ إلى تدشين المشروعات القومية الكبرى، وكان أغدق على شعبه بكل ما يحصل عليه من قروض وودائع، ولكن المقابل سيكون مريرًا وموجعًا، وسينهار البلد انهيارًا كاملًا، ولن تقوى على مواجهة أصغر المشاكل.

السيسى قرر أن يدشن شبكة طرق عالمية تدفع بالبلاد إلى آفاق المستقبل والخروج من شرنقة الدلتا المميتة، كما قرر استصلاح المليون و500 ألف فدان، لتحقيق أهم عناصر الأمن القومى، وهو الاكتفاء الذاتى من القمح، وقرر أن ينمى سيناء، ويحفر قناة سويس ثانية، وأنفاقا كبرى تربط أرض الفيروز بالوادى وتسهل حركة التجارة منها وإليها، وقرر قهر الجبال بتدشين مشروع جبل الجلالة، وهو المشروع الذى سيحدث طفرة نوعية فى السياحة، ربما تتفوق على الغردقة وشرم الشيخ، ليصبح لدى مصر منتجعات سياحية عالمية، تتمثل فى جبل الجلالة وشرم الشيخ والغردقة. وقرر الرجل أيضًا أن يضع حدًا لأزمة الكهرباء التى أصبحت مشكلة مزمنة، وكارثية، فلا حياة دون طاقة فى أى دولة من الدول، وإقامة العاصمة الإدارية الجديدة، وهو المطلب الذى كان ينادى به الجميع طوال عقود طويلة، للتخفيف عن القاهرة التى تحولت إلى قنبلة موقوتة. هذا قليل من كثير، وتستطيع أن تقولها بكل قوة، نعم السيسى يزيل الوهم من العيون، لا أن «يكحل عيون الناس بالأوهام» مثل مبارك.

ولذلك لا تجذبك أنغام جلسة الزار التى يمارسها البعض بلطيمات الحنين إلى زمن مبارك والتغنى برخص الأسعار والاستقرار، لأن تجارب سنوات ما بعد مبارك أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أننا كنا نعيش وهما، بمسكنات تكثر السلطة من توزيعها على المواطنين حتى لا يشاهدوا إرث دولتهم الكبرى فى المنطقة وهو يتطاير عاما بعد عام، بشكل يجعل كل محاولات الإصلاح لما أفسدته سلطة تصدير الوهم فى عصر مبارك صعبا وقاسيا ومضاعفا لأنه إصلاح رباعي الأبعاد، إصلاح لما أفسده مبارك، وإصلاح لما تكاسل مبارك عن إصلاحه، وإصلاح لما فسد بعد رحيل مبارك حينما اكتشفنا أنه لم يترك لنا دولة حقيقية، وإصلاح لما يحتاجه المستقبل كى تعود مصر إلى مكانتها الطبيعية وذلك حسب محمد الدسوقى رشدى في مقاله كورال "ولا يوم من أيامك يا مبارك".

فلا تصدقهم إن حدثوك عن مبارك وأيامه، عليم أن تحسس عقلك وفتش عن مصالحهم أو جهلهم، هم الخطر الحقيقى فاحذرهم. ولا يوم من أيامك يامبارك، تبدو تلك النغمة شاذة وخبيثة وسلاح جاهل يستخدمه البعض عمدا للتلاعب بمشاعر المواطنين، الذين حاصرتهم خطوات وقرارات الإصلاح الاقتصادى الصعبة فى حاضرها، الضرورية فى توقيتها، المبشرة فى مستقبلها بإعادة بناء الدولة مستندة إلى أرض صلبة وليس إلى أرفف من أدوية المسكنات.

وأخيرا نقول: إن مبارك له ما له وعليه ما عليه وسيقف أمام الخالق سبحانه وتعالي عاريًا بلا مالِ أو جاهِ أو سلطان، سيحاكمه أحكم الحاكمين بعدله أمام معشر البشر وستظهر كل الحقائق جلية أمام رب الناس ولم يتبقى أمامنا إلا أن ننظر لمستقبل بلادنا ونعمل جاهدين من أجل رفعه شأن بلادنا ومواجهة التحديات الكبرى التي تواجه مصرنا.

علي أية حال نتفق مع حسنى مبارك أو نختلف معه، لكن لا نختلف أبدا على وطنيته وتاريخه العسكري المشرف ودوره كواحد من أبطال نصر أكتوبر العظيم؛ لقد أراد البعض ممن نهشوا الرجل أن يمحوا تاريخه الذى قضاه مدافعا عن الوطن ثلاثين عاما كرئيس للدولة و6 سنوات نائبا، ونحو 30 عاما خدم فيها القوات المسلحة من ضابط صغير حتى قائد للقوات الجوية. لم يخن مبارك شعبه ولم يفرط فى متر من الأرض بل أعاد طابا بعد اللجوء للتحكيم الدولي.

إن التاريخ هو الذى سيكتب حقيقة دور مبارك سلبا أو إيجابا خلال سنوات حكمه ولكن يكفيه فخرا تخليه عن الحكم وعدم هروبه من المواجهة. كان يسهل فيها مغادرة البلاد، لكنه أثر البقاء ورضخ لحكم القانون وجلس فى قفص الاتهام يدافع عن نفسه وحكمه، وطالت محاكمته لأكثر من خمس سنوات تحمل خلالها الكثير قبل أن تصدر محكمة النقض حكما صحيحا باتا ونهائيا لقى أصداء طيبة فى الشارع المصري، يبرئه من تهمة قتل المتظاهرين.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل.

 

في المثقف اليوم