شهادات ومذكرات

مصابيح في دائرة الظل

 عصمت نصار(1) مارون عبود: كثيرون أولئك التنويريين العرب الذين أضاءوا حياتنا العقلية فى شتى دروب الثقافة، ومع اعتراف بعضنا بفضلهم إلا أن معظمنا لم يعمل على إحياء رسالتهم، ولم يسر على ضربهم وتركناهم وحكمتهم فى دائرة الظل. نعم أهملناهم رغم احتياجنا لإرشاداتهم النابعة من وعيهم ودربتهم ودرايتهم بمعالجة العديد من المشكلات التى ما زالت تعيننا فى حياتنا المعاصرة.

أجل أنادى بإحياء سنن أهل الفضل من قادتنا، وأعلام نهضتنا الذين نجحوا فى إخراجنا من طور العزلة الحضارية والجمود والتعصب والتخلف فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر - ووضعونا على أول طريق المدنية الحافل بأنوار التسامح والحرية والفلسفة والعلم والعدالة الاجتماعية. غير أننا جنحنا عنه فعدنا أسوأ مما كنا عليه فتقدمنا إلى الخلف ندك بأيدينا كل ما بنيناه، ودفعتنا حماقتنا إلى تحطيم ثوابتنا وجميل أخلاقياتنا وجليل عوائدنا، فتمردنا على مشخصاتنا فزادنا ذلك انحطاطًا. ومن ثم كان لزامًا علينا إعادة البناء لانتقاء النافع من هويتنا لنحييه، وإحصاء الضار لنتخلص منه ومن طريقنا نخليه.

واليوم أحدثكم عن نموذج فريد فى ثقافتنا العربية، مفكر وأديب وشاعر جمع كل أزاهير الحب والمودة والتسامح من فوق قمم جبال الشام، وغرسها منمقة فى جل أقواله وكتاباته، ثم عصرها فأضحت ترياقًا شافيًا من الأحقاد والصراعات السياسية والفتن الطائفية - لمن يرتشفها - قابل خصومه بالود، وجابه قادحيه ومنكريه بجميل الرد، فاستحق وسام التسامح الذى لم ينله فى حياته بل نقدّمه له اليوم وفاءً وبرًا واعترافًا بجميل لا يُنكر.

هو المعلم والصحفي والخطيب والناقد والمؤرخ «مارون حنا الخورى يوحنا عبود» (١٨٨٦-١٩٦٢م)، نشأ فى كنف أسرة مسيحية لبنانية متدينة غير أنه رغب عن دراسة اللاهوت وسجن ذهنه المتوقد بين تفاسير اصحاحات الكتاب المقدس، وراح ينهل من كل أروقة الأدب والفلسفة والعلم قدر طاقته.

جمع فى أفكاره بين الأصالة والمعاصرة، ورغب فى نقداته عن لغة الهجوم والشجب والطعن والقدح وفضّل عليها أسلوب الحوار والتقويم العلمي والحجج البرهانية والاقتراحات الإصلاحية الواقعية.

أجاد السريانية وهضم فى صباه أمهات الكتب اللغوية والأدبية العربية. جمع الكثير من مآثر العرب ومناقب علمائهم وترجم عن الفرنسية العديد من أقوال الفلاسفة والمبدعين المستنيرين، ومن أقواله الناقدة للتقليد والمحفزة للتجديد «أخشى على كتابنا الناشئين من تأثير همنجواى وسارتر، فإنهم يضيعون فى فضائهما الغريب .. والأدب العربى عندى انعكاس لمظهر حياتي، فكيف يمكننا أن نوفق بين جونا الخاص وجو الغرباء عنا. وأخاف أن يصيبنا ما أصاب الغراب الذى حاول أن يقلد الحجل (وهو طائر يشبه السمان)، فما نجح بتقليده بل نسى مشيته»،

ومن أقواله فى إصلاح التعليم «أشعر ويا للأسف أن التعليم صار واسطة بعد أن كان غاية ... والدليل هذه الشهادات الغالية اسمًا الرخيصة فعلاً - كنا نتعلم لنعرف واليوم يتعلمون ليحملوا شهادة، ويحصلوا على لقب علمي». حفظ المزامير وآمن بجوهر المسيحية، ولم يمنعه ذلك من الاستماع للقرآن مجّودًا ومرتلاً وتدبر آياته ومدح سنة النبي والإشادة بتعاليمه. اتخذ من الصحافة والتدريس فى المدارس والمعاهد سبيلاً لنشر فلسفته فى الوطنية والتسامح الملى بحرية البوح والتضامن الاجتماعي.

وظل طيلة حياته مؤمنًا بأن المخالفين فى الفكر والعقيدة - وإن كانوا قلة - لهم نفس الحقوق التى ينعم بها الكثرة، وأن المواطنة لا ينبغي أن تؤسس على العصبية العرقية أو الحمية الدينية بل على الألفة والحب ووحدة العوائد والمنافع العامة وحسن الجوار؛ كما بيّن أن خطاب السماء لم يتنزل على البشر لشقائهم وغرس الأحقاد فى قلوبهم بل لإسعادهم وتراحمهم وإيمانهم بأن الله هو المحبة وأن رسله وإن تباينت كتبهم؛ فإن مضمونها واحد ألا وهو حُسن المعاملة، وأن الإحسان مقدم على العمل بالأركان، وأن أجراس الكنائس، ومآذن الجوامع لا طائل منها إذا لم تفش السلام والرحمة ومكارم الأخلاق فى قلوب وسلوك وأعمال المنتمين إليها.

تأثر بـ (أفلاطون، والجاحظ، وأحمد فارس الشدياق، وأناتول فرانس) ومع ذلك كان له أسلوبه الرصين فى السرد ونهجه المتميز فى النقد الساخر والإصلاح، تشهد به مؤلفاته التى تجاوزت الستين. وليس أدل على تصالح الرجل مع نفسه من شهادة معاصريه الذين أكدوا أنه كان صاحب فلسفة يعيشها ويدافع عنها، وكان دائم التحذير من خطر الفتنة الطائفية على سوريا ولبنان، لذا لم يتحرّج من أفراد عائلته الكهنة الذين أمضوا حياتهم فى خدمة الكنيسة المارونية من أن يسمى ابنه الأوسط محمد وابنته الصغرى فاطمة إجلالاً واحترامًا للنبي المصطفى، وإعلانًا عن برّه واحترامه للشيعة بمختلف طوائفهم والدروز، وكأنه أراد أن يجعل من بيته وعائلته أنموذجًا للمواطنة التى لا يحيا فيها إلا من آمن بدستور الحب. ولما سُئل عن علة ذلك، قال: «نكاية فى الطائفيين». وكيف لا وهو القائل عن حكمة الإيمان: صلوا من أجل الرب فهو أصل كل محبة، الذى علمنا التضحية من أجل الآخرين فصلوا من أجل برّهم وإسعادهم. ومن أقوال حفيده وليد عبود عن تدين جده «إنه مع رجال الدين المناضلين ضد السلطات الغاصبة على أنواعها، لا مع رجال الدين الخانعين، الخاضعين، المتآمرين مع السلطة المدنية على الرعية. إنه مع المسيحية الحق، مع اشتراكية المسيح، لا مع تحويل الكهنوت وسيلة للإثراء والصعود الاجتماعي والاقتصادي والمادي».

وما أحوجنا الآن لأمثال مارون عبود لتعليم الطوائف المتناحرة فى شتى أنحاء العالم العربى أصول الإيمان وفلسفة الحب.

تُرى .. هل يستحق هذا الرجل وسام التسامح؟

(2) نظمي لوقا جرجس:

لا نكاد نلمح من بين الفلاسفة الغربيين من هو أعمق من الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (١٦٣٢ - ١٧٠٤م) فى ربطه بين الحقيقة النسقية - التى تؤكدها التجربة المباشرة ولا يعيبها الإضراب والتناقض. والتسامح - باعتباره الدرب المعرفي الأخلاقي للوصول لليقين - والعقلانية والموضوعية والحدس الواعي غير المتحيز، وقوة الإيمان المستمد من قناعات الأنا بأن الله محبة، وأن شرائعه هداية وتهذيب وإفشاء للسلام وتراحم بين الناس.

أما فى ثقافتنا المصرية المعاصرة؛ فلا يمكننا تجاهل الفيلسوف نظمى لوقا سفير المحبة الأرثوذكسية فى الفكر الإسلامي المعاصر؛ ذلك المصباح الذى يجب علينا إخراجه من دائرة الظل ووضعه فى ذروة ثقافتنا التى أعياها العنف وضللها الجاهلون وأقعدها عن المصالحة بين الدين والعلم، فباتت بين كفى الرحى التعصب والارتياب.

هو الأديب والشاعر والفيلسوف المصرى نظمى لوقا جرجس (١٩٢٠-١٩٨٧ م)، وُلد بدمنهور فى كنف عائلة مسيحية أرثوذكسية، نشأ نشأة دينية، وفى صباه تردد على مساجد مدينة السويس، وجلس فى حلقات العلم لاستيعاب التراث العربى الإسلامي فحفظ القرآن فى التاسعة من عمره والعديد من الأحاديث، رغبة منه فى التعرف على الدين الإسلامي عن قرب. ومع ذلك لم يترك المسيحية لأنه أدرك أن ليس هناك فارقًا بين الشريعتين من حيث الجوهر وثوابت المعتقدات والمقاصد والغايات. وقد أتم دراسته الثانوية فى الإسكندرية ثم انتقل للقاهرة فالتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة وتخرج فيها عام ١٩٤٠م.

ولعلّ عشقه للدراسات النفسية والاجتماعية والفلسفية هو الذى مكنه من الوصول إلى هذه الحقيقة؛ فقد درب ذهنه على استيعاب الأفكار المتباينة والربط بينها فى نسقية تزيل ما يعتليها من اضطراب وتناقض، كما أدرك أن دراسة اللاهوت المسيحي عن طريق دروس الأحد التقليدية لا يوصل الذهن إلى اليقين الإيماني، بل البحث عن الحقيقة الروحية بمنأى عن الجمود والتعصب، ومن أشهر أقواله فى هذا السياق: «لئن كنت أنصفت الإسلام ـ فى كتاباتي؛ فليس ذلك من منطلق التخلي عن مسيحيتي بل من منطلق الإخلاص لها والتمسك بجوهرها وأخلاقياتها» ... «وإذا كان جوهر جميع الأديان السماوية هو التوحيد؛ فإنّ القرآن الكريم لا يدع شائبة من ريب فى مسألة وحدانية الله، وقد أفصح عن ذلك فى سورة الإخلاص التى عبّرت عن جوهر الله الأحد الفرد الصمد»، الأمر الذى لا يتعارض مع حقيقة المسيحية فـ «لم يرد على لسان المسيح فى أقواله الواردة فى بشارات حوارييه (الأناجيل) إشارة إلى ألوهية المسيح، بل كان يدعو نفسه على الدوام (بابن الإنسان)، وأما البنوة لله عز وجل فما ورد لها ذكر إلا على سبيل المجاز المطلق وبمعنى يشمل البشر كافة، حين أوصى أن تكون صلاة الناس إلى الله بادئة بقولهم: (يا أبانا الذى فى السماء)».

وقد أراد بذلك التأويل نفى تهمة الشرك التى ألصقها الجهلاء بالمسيحية أولئك الذين زعموا أن المسيحيين يعبدون ثلاثة أقانيم ويعتقدون بأن المسيح ابن الله على شاكلة البشر: «لا بد من رد الناس إلى بساطة الاعتقاد، ولا بد من نفى اللبس وشوائب الريب عن العقيدة المسيحية، وهو التوحيد مطلق التوحيد» ... «الدين لسواد الناس وما كان الدين للمجادلة الذهنية. وإنما هو نبراس الهداية للكافة»، ويضيف «لا بدّ للدين أن يثبت قلوب الناس بالطمأنينة إلى عناية الله بالخلق، وإلى قدرته، وإلى سلطانه المطلق على الكون كله، فقرّر القرآن فى عزم وحسم أن (الله خالق كل شيء)، (وكان الله على كل شيء قديرا)».

كما ناشد المسلمين وذكرهم بأن العقيدة الإسلامية تنأى عن التعصب والعنف أو إيذاء المخالفين، وانطلاقًا من ذلك فهى لا تضمر الشر إلى أحد وتوأمّن الجيران وتآخى بين جميع البشر ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.

حصل على الدكتوراه فى الفلسفة، وعمل مدرسًا فى معهد المعلمين بالقاهرة، ثم كلية الآداب جامعة عين شمس. وراح يرغب تلاميذه فى دراسة الفلسفة باعتبارها طوق النجاة من الخرافة والنزعات الإلحادية والنظريات المادية، ومن أقواله فى هذا السياق: «البحث الموضوعي فى نشاط العقل لا بد أن يوصلنا إلى حتمية وجود الألوهية، وذلك لأن للعقل أعداء كثيرون من الجنسيين والماديين».

أمّا عشقه للرسول - صلى الله عليه وسلم - فذلك من الأمور التى كانت سببا مباشرا فى شهرته وذيوع أخباره، إذ كتب عام ١٩٥٩م كتابًا بعنوان (محمد الرسالة والرسول)، صرح فى مقدمته بتلك الرابطة الروحية التى ربطت بينه وسيرة المصطفى منذ صباه، وأنه لم يمدح النبي ولم يثن على دينه تملقًا أو مداهنة، بل لعظم رسالته المتممة لمكارم الأخلاق، مؤكدا أن أصول النقد والإنصاف تقضى بإعطاء كل ذي حق حقه من أهل الفضل والبر والإحسان، فيقول: «لست أنكر أن بواعث كثيرة فى صباي قرّبت بيني وبين هذا الرسول، وليس فى نيتي أن أنكر هذا الحب أو أتنكر له، بل إني لأشرف به وأحمد له بوادره وعقباه».

ولم تقف كتابات "نظمى لوقا" عند هذا الحد، بل تخطت ذلك إلى الدفاع عن الإسلام ضد هجمات غلاة المستشرقين والمتعصبين.

ظل طيلة حياته مؤمناً بأن جبلة الشعب المصرى تختلف عن سائر الشعوب من حيث التسامح الخلقي، وطيبة الطباع، وميله للألفة والعشرة والتعاون والتعاطف، وعزوفه عن العنف والشجار وغلظة القلب، أضف إلى ذلك شخصية المصرى المرحة وتفاؤله الدائم وسخريته من الأحداث، وإبداعه لفلسفة الممكن التى تحوّل كل الصعوبات بل والمستحيلات إلى إبداعات ومبتكرات؛ لذلك كله كان نظمى لوقا دائم تحذير المصريين من الفتن والمؤامرات التى ترمى إلى الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين وإفساد ما بينهم من مودة وحب وتراحم، وقد سخّر قلمه لتنبيه العقول وإرشاد الأذهان لخطر الفتنة الطائفية على المجتمع المصري.

وحسبي أن أهمس فى أذن أولئك الذين يغرسون بذور الفرقة والفتن فى أحاديثهم التليفزيونية وكتاباتهم الصحفية من المتعصبين الذين لا يقدرون مسئولية الكلمة، ولا سيما فى ميدان العاطفة الدينية. أقول لهم انصتوا واستوعبوا رسالة هذا الفيلسوف، ثم قلدوه وسام المحبّة العاقلة.

(3) رشيد سليم الخوري:

لم يطرد أفلاطون من مدينته كل الشعراء، بل أولئك الذين زيفوا الوعى وغلّبوا الشهوة على العقل ونقلوا أخبارًا كاذبة عن الآلهة. وعلى النقيض من ذلك، نجده ينظر إلى المصلحين منهم بإجلال واحترام، ويعلى من شأن أقلامهم الملهمة، تلك التى ترشد الناس إلى مواطن الجمال والجلال فى الكون، وتحثهم على التضحية من أجل الوطن، وتذكرهم بأمجاد الأبطال والحكماء والعلماء والمصلحين.

وأحسب شاعرنا من الذين حرص أفلاطون على وجودهم فى طليعة قادة الفكر المستنيرين.

هو الشاعر والصحفي القروى رشيد سليم طنوس الخورى (١٨٨٧-١٩٨٤م)، الملقب بـ «قديس الوطنية العربية»، «شاعر القومية والإنسانية»، أما أشهر ألقابه فهو «الشاعر القروي»، وقد أراد أحد النقاد ذمه بهذا اللقب فأضحى نعتًا يفتخر به صاحبه. ولد فى قرية البربارة فى لبنان، تعلم فى صيدا والتحق بمدرسة الفنون الأمريكية ببيروت، ومنها إلى الكلية السورية الإنجيلية هناك، غير أن ضيق ذات اليد حرمه من إتمام دراسته الجامعية، فراح يعلم الصبية فى المدارس الأولية، وجمع عشرات الكتب العلمية والتاريخية والأدبية وعكف عليها حتى ثقف ذاته.

وفى عام ١٩١٣ رحل إلى البرازيل، فاشتغل بالتجارة من بائع أقمشة متجول إلى صاحب وكالة تجارية، بالإضافة إلى تعليمه اللغة العربية لغير الناطقين بها، واشتغل كذلك بالصحافة ورأس تحرير مجلة «الرابطة» وعضوية العصبة الأندلسية فى سان باولو ورئاستها بعد ذلك، ثم عاد إلى الوطن عام ١٩٥٨.

أمّا شعره الذى راح ينشده منذ نعومة أظافره؛ فقد وجهه إلى عدة قضايا أهمها القومية والوطنية والوحدة العربية والحملة على الصهيونية والماسونية والمطامع الاستعمارية الغربية، ثم الطائفية وكل أشكال التعصب، أضف إلى ذلك مناهضة الاحتلال اليهودي لفلسطين ومساندة الكفاح الفلسطيني، ومن أشهر قصائده التى ألقاها احتجاجًا على وعد بلفور الغاصب:

عد من تشاء بما تشاء فإنما .. دعواه خاسرة ووعدك أخسرُ

فلقد نفوز ونحن أضعف أمة .. وتؤوب مغلوبًـا وأنـت الأقـدرُ

فلكم وقـى متواضعًـا إطراقـه .. وكبـا بفضــل ردائـه المتكــبرُ

يا مصدر الكذب الذى ما بعده .. كذبٌ، تعالى الحق عما تنشرُ

....

يا عُربُ، والثاراتُ قد خُلقت لكم .. اليوم تفتخر العلا أن تثأروا

يدعوك شعبك يا صلاح الدين قم.. تأبى المروءة أن تنام ويسهروا

نسى الصليبيـــون ما علّمتهم .. قبل الرحيـل، فعُد إليهم يذكروا

للسلم نحن كما علمتِ وللوغى .. منا المسيح أتى، ومنا عنتــرُ

تجنى على وطن المسيح مدمرًا .. وتذيع أنـك فى البــلاد معمّرُ

....

صعد رشيد المنابر خطيبًا فى بلاد المهجر، وقد بلغت شهرته ذروتها على أثر قصائده وخطبه عن عظمة الإسلام ودور حضارة المسلمين فى نهضة الإنسانية وفضائل النبي وحكمة القرآن.

ومن أشعاره عن الوحدة الوطنية والتسامح الديني بين الإسلام والمسيحية:

يا قومُ هذا مسيــحيٌّ يذكّركم .. لا يُنهِض الشرقَ إلا حبُّنا الأخوي

فإن ذكرتم رسول الله تكرمــة .. فبلّغوه ســلام الشاعــر القــروي

وقد تصدر الشاعر القروى للكثير من القضايا العربية والإسلامية فذهب فى إحدى خطبه فى سان باولو فى عيد المولد النبوي: إلى أن حب المسلمين للنبي لا ينبغي أن يكون بكثرة الصلاة عليه شفاهة أو التغني بقصائد مدحه فى حفلات الذكر والمواسم الدينية، فحب النبي فعلا وسلوكا وليس غناء وطربا، فعلى كل مسلم أن يتخذ من سنة النبي وسيرته العطرة زادا ليعمُر قلبه بالإيمان والتسامح مع الأغيار وحب من شاركوه فى الحياة والجوار، وعلى كل مسيحي أيضا أن يتأمل رسالته التى لا تختلف فى عطرها وأنوارها وجوهرها وصلبها عما جاء به موسى وعيسى، وذلك لأن السراج واحد ومصابيح الإيمان تضاء بزيت رباني يدعو إلى وحدة الجنس البشرى والعدل بين الناس كافة، واقتلاع العنف والعصبية والمطامع البربرية من سلوكنا، فنصبح بذلك خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر «أيها المسلمون، يَنْسب أعداؤكم إلى دينكم كلَّ فِرْية، ودينُكم من بُهْتانهم براء. ولكنكم أنتم تصدِّقون الفِرْية بأعمالكم، وتقرُّونها بإهمالكم. دينُكم دينُ العِلْم، وأنتم الجاهلون. دينُكم دينُ التيسير، وأنتم المعسِّرون. دينُكم دينُ الحُسْنَى وأنتم المنفِّرون. دينُكم دينُ النصر، ولكنكم متخاذلون. دينُكم دينُ الزكاة، ولكنكم تبخلون ..

يا محمدُ يا نبيَّ اللهِ حقًا، يا فيلسوفَ الفلاسفةِ، وسلطانَ البلغاء. ويا مَجْدَ العرب والإنسانية، إنك لم تقتل الروحَ بشهواتِ الجسد، ولم تحتقر الجسدَ تعظيمًا للروح. فدينُك دينُ الفِطْرةِ السليمة، وإني موقِنٌ أن الإنسانية بعد أن يئست من كلِّ فلسفاتِها وعلومِها، وقنطت من مذاهب الحكماء جميعًا؛ سوف لا تجد مخرجًا من مأزقِها وراحةِ روحِها وصلاحِ أمرِها إلا بالارتماء بأحضان الإسلام».

وقد فطن الشاعر القروى إلى أن ما يعانيه الشوام فى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين من جور وعنت وتعالٍ من الأتراك العثمانيين - فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر - ليس من الإسلام فى شيء، وذلك لأن التفاضل بين الناس فى الإسلام ليس باللون أو الجنس أو العرق، بل المفاضلة بينهم فى التقوى والورع والصدق فى محبة الله وطاعته، ومن ثم راح يبصر بنى قومه بأن سبيلهم لدفع ظلم الأتراك ومطامع الغزاة المستعمرين هو الوحدة والتآخي والجهاد فى صف واحد دفاعا عن عروبتهم ضد مؤامرات الصهيونية والحملات التغريبية التى ترمى لطمس هويتهم.

إذا حاولتَ رفعَ الضيم فاضرب

بسيف محمــدٍ واهجر يسوعـا!

أحبوا بعضكم بعضًا وُعظنا

بها ذئبًـا فمــا نجَّـت قطيعــا

والجدير بالإشارة فى هذا السياق، أن رشيد لم يكن هو الشاعر المسيحي الأوحد الذى مدح النبي فى القصائد وفى المنتديات الثقافية وعلى منابر الساسة فى بلاد الشام، ومنهم ميخائيل ويردى (١٨٦٨-١٩٤٥ م)، نقولا فياض (١٨٧١-١٩٣٠ م)، خليل مطران (١٩٧٢-١٩٤٩ م)، شلبي ملاط (١٨٧٥-١٩٦١ م)، أنيس الخورى المقدسي (١٨٨٠-١٨٧٧ م)، إلياس فرحات (١٨٩٣-١٩٧٦ م)، جورج سلستي (١٩٠٩-١٩٦٨ م).

وحقيق بي أن أؤكد أن أثر أولئك الشعراء فى الرأى العام لا يمكن إنكاره أو تجاهله، فقد نجحوا جميعا فى إيقاظ العقل الجمعى وتوعية الجمهور وتجييش المثقفين للإصلاح وإعادة البناء. وعليه لا مجال للمقارنة بين ما يتغنى به أبناؤنا اليوم من كلمات منحطة وصور متدنية ومقاصد عفنة، وما كان من أمر هؤلاء الشعراء وسامعيهم، فشاعرنا يستحق بجدارة وسام الشاعر المستنير.

ولسير الأعلام بقيّة

 

بقلم: د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم