شهادات ومذكرات

راوية عبد المنعم عباس وشمولية تاريخ الفلسفة

محمود محمد عليتعد الأستاذة الدكتورة "راوية عبد المنعم عبد الحليم عباس" - أستاذة الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب جامعة الاسكندرية بجمهورية مصر العربية، واحدة من الباحثات المصريات التي توقفت عند محطة فلسفة تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة خلال مشوارها العملي الثري، واختارته لتكمل معه المسيرة، فهي عاشقة لهذا التخصص في أي شيء يتعلق بحياتها، وهي لا تعرف شيئا اسمه المستحيل، ومبدأها في الحياة ينطلق من مقولة «إذا توافرت الإرادة فهناك طريق لتحقيق أي هدف»، وهذا ما سارت عليه منذ بداية حياتها العملية في قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة الاسكندرية، حيث كانت تؤمن بأن العمل هو انعكاس لشخصية المرء، والتفاني فيه هو هدفها الأول في الحياة.

لقد عرفت "راوية عبد المنعم عباس" (مع حفظ الألقاب) معنى النجاح منذ نعومة أظافرها، واعتدت على تحقيقه، حين كانت طالبة في المراحل الدراسية الأولى، فالتفوق كان حليفها، وكنت دائما تسعى للوصول إليه، وقد غرست أمها هذا الشيء في نفوسها، والذي تأثرت به بشكل كبير في حياتها، فالأم هي المدرسة التي يتعلم فيها الأبناء أهم وأجمل معاني الحياة.. وكانت شغوفة بشمولية الفلسفة الحديثة والمعاصرة وتفاصيلهما منذ صغرها، فدائما ما كانت تهتم بأسلوب تقديم أي شيء، وتحرص على إضافة لمسة جمالية إليهما، حتى حين تخرجت بعد حصولها على رسالة الماجستير والدكتوراه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.

وراوية عبد المنعم عباس؛ مفكرة وكاتبة مصرية، وأستاذة جامعية، وباحثة لا يشق لها غبار، ونموذج نادر وفريد للمرأة الاسكندرانية، والتي نجحت في أن تثبت ذاتها، فمن طفلة صغيرة تلهو على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إلي امرأة قادرة علي صناعة العالم؛ وذلك عندما تمكّنت من خلق نموذج للمرأة يتجاوز مستوى الشكل، والذي ظهر في كتاباتها ومقالاتها ودراساتها في مجال الفلسفة عامة وفلسفة الفن وعلم الجمال خاصة.

وبرغم ذلك لم تحظ "راوية عبد المنعم عباس" مثـل غيرها بما هي أهل له من الاهتمام والتقدير الذي بتناسب مع جهودها،  فهي تنتمي للرعيل الثاني من رواد الفكر الفلسفي في جامعة الاسكندرية ومع ذلك فلا يعرفها إلا المتخصصون الذين درسوا علي يديها أو رجعوا إلي مؤلفاتها وترجماتها . وللأسف ليس بين أيدينا اية بيانات أو وثائق يمكن أن تكون عوناً لنا في رسم صورتها ولا نملك إلا شذرات قليلة لا تتعدي بضعة صفحات معدودة جاءت عرضاً في كتاباتها أو في سيرتها الذاتية .

والدكتورة " راوية عبد المنعم عباس " من مواليد 13/9/1951 بالإسكندرية، حيث حصلت علي درجة الليسانس من قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية "شعبة فلسفة" – دور يونيو عام 1973م بتقدير ممتاز، وحازت درجة الماجستير سنة 1979م، ومُنحت درجة الدكتوراه في عام 1983م، وأخذت تترقي في العمل الجامعي فنالت في 1995م علي درجة أستاذ مساعد، وفي عام 2003م مُنحت درجة الأستاذية، وخلال تلك الفترة أُعيرت إلي جامعة قاريونس بليبيا، ثم إلي جامعة الإمارات العربية المتحدة.

قال عنها العالم الكبير والمفكر الجليل الأستاذ الدكتور "محمد علي أبو ريان": "لقد درست السيدة الدكتورة "راوية عبد المنعم عبد الحليم عباس"، تحت إشرافي طوال مرحلة الليسانس، وتخرجت بتقدير جيد جداً، وكانت أولي دفعتها بقسم الفلسفة بجامعة، والحق أنها كانت في طليعة المتخرجين الممتازين علماً وخلقاً، ثم سجلت تحت إشرافي للحصول علي الماجستير في تاريخ الفلسفة العام، وكان تخصصها الدقيق هو " الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر "، وحصلت علي درجة الماجستير بتقدير ممتاز، ثم ما لبثت أن تقدمت لتسجيل الدكتوراه في نفس التخصص، حيث حصلت علي درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولي، وكانت طوال قيامها بهذه الأبحاث تعمل منذ تخرجها كمعيدة، ثم كمدرسة مساعدة بالقسم تحت إشرافي، وقد تولت مهمة التدريس منذ حصولها علي درجة الدكتوراه في تخصصاتها الدقيقة في " الفكر الحديث والمعاصر، بالإضافة إلي التخصصات العامة الأخرى، وفي مقدمتها " فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة"، وفي " تاريخ الفن "، كما كان لها حظ التأليف المشترك مع أستاذ زميل لها بالقسم، وكان قيامها بالتدريس في هذه التخصصات تحت إشرافنا ونشهد بنجاحها التام في أداء رسالتها في هذا الفرع من المعرفة الفلسفية، ولقد أفسحت دراسات الدكتوراه أمامها إلي تمكنها من تدريس مواد أخري كعلم الأخلاق وفلسفة الأخلاق، وكذلك فلسفة السياسة، ونحن في هذه التزكية، إنما نشهد بنجاحها التام في التدريس وفي صلتها بطالباتها وطلابها علماً وخلقاً . هذا بالإضافة إلي دأبها علي البحث وتوفرها علي العمل الاكاديمي، ونشر الأبحاث.

وللدكتورة " راوية عبد المنعم عباس " مؤلفات كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : ديكارت والفلسفة العقلية، مالبرانش والفلسفة الإلهية، بليز بسكال وفلسفة الإنسان، وجون لوك إمام التجريبية، والمذهب الحسي عند كوندياك، والموقف الفلسفي عند آلان وصلته بفن الحياة.. علاوة علي أن لها مؤلفات في مجموعة دراسات في الميتافيزيقا ونذكر منها : دراسات في الفلسفة العامة (رؤية بقضايا الفكر الفلسفي) وهي مجموعة أبحاث، وعالم الفلاسفة ( الفكر والحرية والمسؤولية ) وتضم مجموعة أبحاث منفردة، ودراسات في الميتافيزيقيا (مجموعة أبحاث).. كما لها أيضاً مجموعة دراسات في فلسفة القيم (فلسفتا الفن والجمال)، ونذكر منها : فلسفة البناء الاستطيقي عند ايتين سوريو-رؤية جديدة في فلسفة الفن المعاصر، والفن والحضارة، والحس الجمالي وتاريخ الفن- دراسة في القيم الجمالية والفنية، والقيم الجمالية، وفلسفة الفن وتاريخ الوعي الجمالي .. كما أن لها أعمال مشتركة نذكر منها : فصول من الفكر الفلسفي الحديث (بالاشتراك مع د. عبد الوهاب جعفر ود. صفاء عبد السلام)، والحس الجمالي وتاريخ التذوق الفني عبر العصور (بالاشتراك مع د. علي عبد المعطي رحمه الله).

واسمح لي عزيزي القارئ أن أقدم لك جانب من رؤيتها في شمولية تاريخ الفلسفة؛ وبالذات ما يتعلق بالإنسان والفن والجمال- هي في نظرها تمثل ثلاثية الحياة والمدخل إلي الوجود الحيوي ومفتاح حركة الكون وتطوره وسجل تاريخه وحضارته، فالصلة الحميمة الأزلية بين هذه العناصر الثلاثة في نظر "راوية عباس" هي التي تسجل البداية الموغلة في القدم لعهد الكائن البشري بهذا الكوكب .

إن الصلة بين أطراف هذه الثلاثية العجيبة في نظر "راوية عباس" تمثل الفعالية الأبدية والديالكتيك المتواصل بين الموجود والوجود أي الإنسان والبيئة الطبيعية والمادية المحيطة به كما تعبر عن عنصر الدوام والأبدية وتجسد الشغف بالتلاحم مع العالم والانفتاح عليه والولع به، وهي في ذات الوقت تعمق التأمل والتسامي الروحي الذي تقوم عليه عبادة المخلوق للخالق والتسبيح لحمده علي نعمه الكثيرة التي لا تحد آناء الليل وأطراف النهار باعتباره – سبحانه  - الخالق البارئ المصور الذي خلق الكون وأبدعه وفطر لإنسان علي العقل والتأمل وبث فيه التسامي والتوحد فأحب الجمال وعشق الكون وتغني به بما فطره عليه من إحساس بالجمال والجميل فالله سبحانه وتعالي يحب الجمال .

وإذا كان الإنسان هو الكائن الاجتماعي لميله الطبيعي إلي الاجتماع مع غيره من بني جنسه فهو كذلك في نظر "راوية عباس" الكائن العاقل المفكر والمنطقي لما حباه الله به من نعمة التفكير والتعقل وهو في ذات الوقت الكائن السياسي لميله إلي التواجد داخل حدود طبيعية وإقامة دولة لها نظام سياسي وبنفس الدرجة فهو الكائن الفني الذي يميل إلي الإبداع والخلق ويستخدم هبة التجديد والابتكار ليطوع المادة الطبيعية ويضعها في كل شكل فني وتقني لتيسير السيطرة علي العالم المادي وتكييف الواقع المعيش وفق متطلباته الخاصة  لإشباع حاجاته المادية والنفسية، والإنسان في نهاية المطاف هو المخلوق الجمالي الذي يمتلك حساً جمالياً فطرياً عالياً مثلما يمتلك جميع الملكات السابقة من التفكير والمنطلق وحب الاجتماع والحياة داخل جماعة سياسية وعشق الفن وابتكار الصناعة والاختراع، وهذا في نظر راوية عباس يأتي عالم الفن والجمال ليتوج بهما الإنسان مسيرة نضاله في هذا العالم، وهكذا ما نتلمس مدي عمق وحساسية الصلة بين هذا المخلوق وبين عالمي الفن والجمال؛ بحيث يمكننا أن نقول (كما تذكر د. راوية عباس) – دون مبالغة – إن عمر الفن وتاريخ الوعي الجمالي هو عمر الإنسان وتاريخ حياته فالإنسان هو ذلك الكائن الذي وهبه الله عز وجل القدرة علي الإحساس بالجمال وتذوق الفنون، ومن ثم القدرة علي الإبداع والخلق الفني الذي يتذوقه ويشعر به فيما يحيط به من مظاهر الحياة الطبيعية والمادية والتقنية من حوله وفي كل لحظة من لحظات الزمن، والإنسان لا يحيا مستقلاً عن عالمي الفن والجمال بل يستغرق فيهما بشكل تام فمنذ متي تجد الإنسان من الحركة والفاعلية والانفتاح علي الوجود؟ ومنذ متي توقف الإنسان عن الشغف بالجديد والبحث عن المجهول للكشف عنه ؟ ومحاولة الصنعة والابتكار؟ ومنذ متي كان الإنسان مقصراً في الأداء والفعل والعمل أو عاجزاً عن الإضافة أو الحذف والبناء أو التحوير والإنجاز والخلق والإبداع فمتي غفل الإنسان عن الإعجاب والشعور بالارتياح والغبطة لما تفعله يداه وتبدعه قدراته الخاصة.

إن الفن في نظر "راوية عباس" هو صناعة الإنسان وابتكاره والجمال هو الإحساس الذي يسري في نفوسنا متي استمتعنا برؤية الجمال والجميل يتوزع في حياتنا التي يغمرها في جميع مظاهرها وألوانها الطبيعية أو الصناعية .. وعلي الرغم من تجسد الفن في نظرية الإيداع والأثر الفني بصفته دراسة تتميز كما تقول "راوية عباس" بالطابع العلمي كما ا، الجمال سواء كان دراسة للقيمة والحس الجمالي أو كان بمعني الاستطيقا الحديثة ذات الطابع العلمي أيضاً فإنها تعني دراسة الحكم الجمالي والذوق عند المتلقي أو المتذوق كما أن كل منهما يبدو متلاحماً مع الآخر ومتواصلاً، بل إن صح التعبير مستغرقاً في الآخر فلاشك أن فلسفة الفن تتصل كما تقول "راوية عباس" بالجمال عن كثب كما أن الأخير يتصل اتصالاً وثيقاً بتاريخ الفن وفلسفته حتي أن الاتجاهات الحديثة في دراسته العلمية تنحو إلي تعريف الجمال بأنه " كل تفكير فلسفي في الفن"، كما أنه لا يوجد من درس جماليات بدون الرجوع إلي الأعمال الفنية كي يتمكن من الوصول إلي تحديد صحيح للجمال مما يوثق الصلة بينهما، وبالتالي يمكن أن نعد تاريخ الفن كما تقول "راوية عباس" بمثابة تاريخ الوعي الجمالي عند الإنسان ذلك الجمال الذي يمثل إحساساً بالنشوة يسري في نفوسنا متي استمتعنا بمشاهدة الجمال يتجسد في حياتنا يغمرها في جميع مظاهرها وألوانها الطبيعية أو الصناعية.

إن الجمال في نظر "راوية عباس" هو ذلك اشكل من أشكال الفكر المنعكس علي نشاطه الذاتي، وهو الذي جعل الإنسان يشيد المساجد والكنائس والمعابد والكاتدرائيات والقصور، كما ينحت التماثيل والجدران والمسلات ويرسم اللوحات ويؤلف الألحان والأنغام والسيمفونيات كما ينظم الأشعار والأزجال وغير ذلك من ألوان الفنون .

وما من شك في أن الرسام كما تري "راوية عباس" الذي يمسك بريشته ليرسم لعاصفة أو النحات الذي يكد في نحت التمثال الجميل، إنما استمد مقومات فنه من بين أحضان العالم المحيط به الذي يمثل البداية الحقيقية لميلاد الجمال وهو بداية الإحساس به كما أن رؤية الطبيعة الساحرة وهي تنبض في أبهي صورها خلال الزمان والمكان هي تجسد له وتدفق للشعور به في أعماقنا.

إن الجمال كما تقول "راوية عباس" يبدو أمامنا سابح في الكون ومرأي فيما نتأمله من جمال في مظاهر العالم الطبيعي من جمال الأزهار وتناسق الأشجار وأشكال وألوان النباتات الزاهية وأصوات تغريد الطيور وأضواء القمر والشمس، وفي صوت صرير الماء وخفيف أوراق الشجر وهمس النسمات العابرة وهكذا يبدو الكون كما تري "راوية عباس" الكون في أجمل صورة فيستمتع الإنسان بجمال الخالق في خلقه .

إن الفن والجمال في نظر "راوية عباس" دعوة إنسانية تخاطب وجدان الإنسان العقل، وهي غذاء الروح والشعور والحس الجمالي دليل علي السمو والارتقاء وقرينة علي الوجود الفاعل للإنسان وكده وصراعه وفلاحه في هذا العالم فهو يعجز عن السيطرة علي العالم الجامد الصامت أمامه ما لم يستمد من خياله الرحب الحيل الفنية والتكتيك الجمالي المنظم والمنسجم فيتناغم مع عالم المادة وينتصر عليه ولا يفلح الإنسان في السيطرة علي الواقع ما لم يتمكن من السيطرة علي عالم الماديات وتشكيلها لمصلحته الخاصة وذلك في شكل فني وجمالي ..

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور "راوية عباس" بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكرة مبدعة في الفلسفة، ونموذج متفرد لأستاذه جامعية نذرت حياتها بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة والثقافة العربية، وأثرت حياتنا الفكرية بكل ما قدمته من جهود.

تحيةً مني لراوية عباس التي  لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم