شهادات ومذكرات

مصطفى رجب.. رحلة عطاء مستمرة (1)

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور "مصطفي محمد أحمد رجب " - ( العميد الأسبق لكلية التربية بجامعة سوهاج وأستاذ التربية الإسلامية ورئيس قسم أصول التربية السابق ورئيس الجهاز التنفيذي لهيئة محو الأمية وتعليم الكبار سابقاً)، أحد النجوم الكبيرة المتلألئة في حياتنا الثقافية المعاصرة خلال أكثر من نصف قرن؛ حيث يمثل صاحب مسيرة طويلة وممتدة في تاريخنا الثقافي، فله أكثر من ثلاثين كتاباً في أصول التربية والدراسات الإسلامية والشعر العربي، وهو لا يكاد يتحدث عن تلك المسيرة، إلا ويشير إلي الدور الذي لعبه في حياته الدكتور طه حسين، فهو من أبرز عشاقه، وأحد من تولوا التعليق على فكره في الفكر العربي المعاصر؛ خاصة في مجال فكره التربوي؛ فبحوثه العلمية قد أسهمت بدور فاعل في مسيرته الاكاديمية والعلمية ليصبح واحداً من أهم علماء التربية في مصر والوطن العربي وصاحب مدرسة يُطلق عليها " المدرسة الرجبية" في علوم التربية.

وما يلفت النظر في هذا الصدد، هو انفراد مصطفي رجب (مع حفظ الألقاب) بسمة العالم المدقق المتخصص في كل المجالات المعرفية التي طرقها. لقد أهلته  ثقافته الموسوعية للفهم الواعي بما يثار من قضايا في سائر أوجه المعرفة، وينعكس هذا الفهم علي تعبيره السلس والواضح والمنساب فيما يكتب. كانت هذه الموسوعية أيضاً وراء ما تميزت به كتاباته من الوضوح والإقناع، فضلاً عن شفافية حدسية وحضور ذهن، وذاكرة مسعفة تنتظم الأفكار في أنساق منتظمة ومنظومات متسقة يجري التعبير عنها في لغة شفافة سلسة تجمع بين التحديد والصرامة العلمية القاطعة وبين الأسلوب الأدبي الرصين. تلك جميعاً وغيرها كثير- سمات تميز مفكرنا وتزين فكره بخصوصية نادرة قل أن توافرت لغيره.

يضاف إلي أن له سمعة عريضة في مصر والعالم العربي شكلها علي مدي نصف قرن من الجهد الفكري والإنتاج الوفير، والذي امتد لسنوات عده استطاع من خلالها ان يتابع مسيرته العلمية متحلياً بطموحه الذي قاده للتميز بين أبناء جيله، وهو من جيل استطاع بجهده وتميزه أن يجد لنفسه موضعاً بين رموز الفكر والعلوم والفنون في مصرنا العزيزة.

والدكتور مصطفي رجب، من مواليد 18 أغسطس 1956، وهو ابن من أبناء صعيد مصر الذين تميزوا طفولتهم بالنبوغ من خلال حفظه المبكر للقرآن الكريم الذي جعله متميزاً ومتفرداً في اللغة العربية، وله شخصيته الخاصة التي تركت أثراً مهما فيمن حوله؛ حيث نشأ قرية شطورة التابعة لمركز طهطا بمحافظة سوهاج بمصر، وقد هاجرت عائلة الخطيب التي ينتمي إليها من قرية الأشراف البحرية بمحافظة قنا إلى قرية شطورة عام 675 هجرية.

كان جده الرابع الشيخ رجب من علماء الأزهر وله مؤلفات ما تزال مخطوطة بمكتبته حتى الآن وكذلك كان جده الشيخ أحمد رجب ووالده الشيخ محمد ممن يحفظون القرآن الكريم ويقومون على تعليمه مع بقية العلوم الشرعية؛ وقد أخبرنا في أحد لقاءاته التلفزيونية (التي أجراها معه المذيع اللامع خالد شعيب بقناة طيبة ) بأن المرحلة الأولي من عمره بدأت قبل الالتحاق بالمدارس الحكومية في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، حيث كان مصطفي رجب من الجيل الذي عاصر نظام التعليم بالكتاتيب، وكان هذا النظام التعليم يبدأ بدراسة أصول العربية من خلال التهجي والقراءة ثم كتابة الكلمات والجمل، وبعد ذلك يشرع في حفظ القرآن الكريم، ثم إذا وصل إلي سن السادسة يلتحق بالمدرسة الرسمية، وهذا ما حدث لمصطفي رجب عندما إلتحق بالصف الأول الإبتدائي كان يكتب ويقرأ ويحفظ القرآن كله بريشه من حبر علي ألواح من الصفيح، كما كان يكتب الكلمات مضبوطة بالشكل ضبطاً كاملاً كما هو الحال في المصحف الذي نحفظ منه ولا تزال هذه العادة فينا حتي الآن .

يقول مصطفي رجب :" ثم التحقنا بالمرحلة الابتدائية في بداية الستينيات من القرن الماضي، وكانت المدارس محدودة في القرية التي نشأت فيها، وهي قرية شطورة ؛ حيث كانت بها فقط مدرستان حكوميتان بُنيت بعد ثورة 1923 يوليو المجيدة.. وأما المدرسة التي تعلمت فيها فقد ضمت ضما إلي وزارة المعارف سنة 1949م.. كان الذين يدرسون لنا في مدرسة الشيخ إبراهيم مدرسين معممين- أي مشايخ ضُموا مع الذين ضمهم طه حسين وهو وزير من حفظة القرآن الكريم ليعملوا بالتدريس فلم يكونوا مؤهلين بأي مؤهلات سوي أنهم حفظة قرآن.. ثم انتهت علي أية حال هذه المرحلة بعد نكسة 1967م.. وانتقلنا إلي المرحلة الإعدادية وكان معلم من معلمينا في المرحلة الابتدائية اسمه الأستاذ حسين عبد العال (أعطاه الله الصحة لا يزال حيا حتي الآن)، كان يحدثنا كثيراً عن طه حسين فكنت أحب طه حسين وأضع صورته علي كراريسي.. فلما انتقلنا للمرحلة الإعدادية جاءنا معلم قاهري اسمه الأستاذ محمد قطب خريج آداب القاهرة فكنت أشم فيه رائحة طه حسين لأنه من نفس الكلية.. انتهت المرحلة الإعدادية علي أية حال وكان لا بد أن أنتقل إلي مدينة طهطا والتي توجد بها مدرسة رفاعة الطهطاوي الثانوية والتي التحقنا بها وكانت بها مكتبة هائلة تفوق مكتبات بعض الكليات أنهينا فيها قراءة كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كاملا وتجريد الأغاني والبيان والتبيين وكل كتب التراث القديم مثل مؤلفات الجاحظ وغيره..

وثمة نقطة مهمة وجديرة بالإشارة يشير إليها بعد ذلك مصطفي رجب، وهو أنه خلال في المرحلة الجامعية التحق سيادته بكلية التربية بأسيوط، وكان وقتها ليس فيها تخصص إلا لغة إنجليزية بالنسبة للأدبي، وكانت تربية سوهاج يوجد بها تخصص تاريخ، فآثر مصطفي رجب إلا أن يختار الإنجليزي عن التاريخ، لكن صادف من حسن حظه أن جاء فاكس بفتح قسم اللغة العربية لأول مرة في كلية التربية وكان مصطفي رجب أصلاً شغوفا بدراسة اللغة العربية، ولكن والده رفض لأنه وحيد، فالتحق مصطفي رجب بقسم اللغة الإنجليزية بتربية أسيوط، فكان كل ما كان يُدرس له قرأه، وبالتالي فلم يجد أي عناء في دراسته.. في السنة الأولي كان مصطفي رجب الأول علي الدفعة، والثانية، والثالثة، والرابعة، فتخرج مصطفي رجب بتقدير "جيد جداً مع مرتبة الشرف الأولي"، بفارق يزيد 40 درجة علي الثاني والثالث.. عُين مصطفي رجب معيداً في أسيوط،  واختار "قسم أصول التربية"، لأنه القسم الأقرب لطه حسين ومكث سنتين في أسيوط، ثم نقل إلي سوهاج سنة 1980م، وسجل مصطفي رجب الماجستير عن "فكر طه حسين التربوي".. ثم حصل مصطفي رجب علي الماجستير بامتياز في 1983.. ثم سجل الدكتوراه في الإعلام التربوي في عام 1982م أيضاً، وكان هذا التخصص جديداً، فلم يكن في ذلك الوقت قد صدرت أي كتب أو أقسام في الجامعات باسم الإعلام التربوي..

وبعد أن حصل مصطفي رجب علي الدكتوراه في سنة 1985م في فبراير، أرسل منها نسخة للأستاذ مصطفي أمين ؛ حيث كان بدأ في عهد الأستاذ الدكتور "أحمد فتحي سرور"- رئيس التربية والتعليم في ذلك الوقت إنشاء كليات التربية النوعية، وبها أقسام تسمي أقسام "الإعلام التربوي"، فأرسل إليهم الأٍستاذ مصطفي أمين خطاباً وقال بأن هناك رسالة دكتوراه اسمها كذا... وأرسل الأستاذ مصطفي أمين نسخة لمصطفي رجب من هذا الخطاب، وبالفعل ترأس مصطفي رجب قسم الإعلام التربوي ندباً في جامعة المنيا بكلية التربية النوعية بجانب عمله وكان مصطفي رجب آنذاك عميداً لكلية التربية بسوهاج؛ حيث كان مصطفي رجب قد نقلت إلي سوهاج كما قلت في سنة 1980 ثم كان مدرساً في سنة 1985م إلي 1989م، حيث رُقي أستاذاً مساعداً، ثم في سنة 1994م رقي أستاذاً، ثم تولي العمادة في سنة 1995م حتي عام 2001م، ثم عمل بعد ذلك رئيساً لمجلس قسم أصول التربية إلي أن أُحيل للتقاعد في 2016م.

وللدكتور مصطفي رجب مؤلفات عديدة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : الإعلام التربوي في مصر واقعه ومشكلاته، نحو ثقافة إسلامية، فكر طه حسين التربوي، الدور التربوي للصحافة المدرسية : دراسة ميدانية بمحافظات الصعيد، أطفالنا من أين نبدأ، أطفالنا ومشكلاتهم التربوية والنفسية، الإسلام في المناهج الصهيونية، لغة الشعر الحديث، الثقافة السياسية لمعلمي المستقبل، في هوية التربية الإسلامية ومنهجيتها، القيم والأهداف التربوية في الحديث الشريف، الإعجاز التربوي في القرآن الكريم، مضامين تربوية في الفقه الإسلامي، البحث في الإعجاز التربوي القرآني، الإعجاز التربوي في السنة النبوية، صفحات مجهولة من تراثنا الشعري الفكاهي، مع تراثنا التربوي، الإعلام العربي وإرهاب العولمة.. الخ.. كما صدرت له دواوين شعرية نذكر منها : الصيد في الماء الرائق، شعراء الفكاهة المعاصرون، في الممنوع، اعتراف جديد لابن أبي ربيعة، ديوان الحلمنتيشي، صمت،" الإفراط في الاستعباط "، ديوان "حلمنتيشيات ابن رجب "، وديوان " حلمنتيشيات في الممنوع"، " الإفراط في الاستعباط " و"في بلاد همبكستان ".. الخ... كما حقق الكثير من المؤلفات نذكر منها :  إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد لابن الأكفاني.. الخ..

وللدكتور مصطفي رجب إنجازات أخري نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : أنه عمل مساعداً فنياً ثم عميداً لمعهد السلطان قابوس العالي للدراسات الإسلامية بسلطنة عمان في الفترة بين عامي 1989 و1993، وعمل خبيراً تربوياً زائراً بمكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض من 1 يناير 2002 إلى 1 مارس 2002، وعمل محاضراً بكلية إعداد المعلمين بأبها بالمملكة العربية السعودية في العام الدراسي 1982-1983م، وعمل أستاذاً زائراً للدراسات العليا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة اليرموك– الأردن من 17 سبتمبر 2002 إلى 1 مارس 2003 ومن 12 سبتمبر 2004 إلى 1 يونيو 2005، وكان رئيس الهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار بدايةً من 20/7/2011م، كما كان عضو اللجنة العلمية الدائمة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين بالمجلس الأعلى للجامعات في مصر [ تخصص أصول التربية والتخطيط التربوي].من 2008 وحتى الآن، كما تم اختياره عقب الثورة المصرية بصفته أول رئيس مدني لهيئة تعليم الكبار بمصر، كما مثل مصطفي رجب مصر في تنفيذ اتفاقية التعاون الثقافي مع دولة الكاميرون عام1996، كما كان خبير التعليم (شعبة التعليم العام) بالمجالس القومية المتخصصة – برئاسة الجمهورية – مصر، علاوة علي أنه كان نائب رئيس اتحاد كتاب مصر فرع الصعيد – بالانتخاب – اعتبارا من أبريل 2007..وهلم جرا..

وكان مصطفي رجب عاشقاَ للشعر "الحلمنتيشي" ومتنقناً له، حيث كان يري أن هذا الشعر قادر على إخراج ما فى داخل الإنسان من مشاعر، لافتا أن ظهور هذا النوع من الشعر على يد "حسين شفيق المصري" و "بيرم التونسي"، كان لمناهضة الاحتلال البريطاني ومحاربة الفساد الأخلاقي والسلوكي.. وأضاف "رجب"، خلال لقائه مع الإعلامية «قصواء الخلالي» في برنامج «المساء مع قصواء»، والذي قد أُذيع عبر شاشة  TeN المصرية، أن الشاعر الكبير "حسين شفيق المصرى"، المعروف بـ"فارس الحلمنتيشي" لم يكن يعرف معنى الكلمة حين أطلقها لكنها "جت معاه كده" على حد وصفه، لافتا أن الشعر "الحلمنتيشي" يقوم فى الأساس على جعل العامية وكأنها فصحى، ما يعطى له طابع ساخر.

ومن القصائد التي كتبها مصطفي رجب ونالت إعجاباً كبيرا علي مواقع التواصل الاجتماعي قصيدته" عوافي" : قالت وقد بصَّت عليّ: عوافي!.. وتدلعت في ثوبها الشفافِ.. وتحايلت وتخايلت وتمايلت.. حتي سَبَت عقلي بغير سُلافِ.. قالت: أأنت من العجوزة يا فتى؟.. أم أنت جِلف من بني الأريافِ؟.. إني أراك مُونتكاً ومُرستكاً.. وعليك قنطار من الأصوافِ.. لكن لمحتُك في الطريق مبصبصاً.. وتكاد تقضم من لحوم كتافي.. فأجبتها والقلب يرقص بداخلي أهلاً وسهلاً بالجمال الصافي.. أنا من مصارين الصعيد.. وموطني طهطا.. ومن قوص أتي أسلافي.. ولدي في أسيوط نصف عمارة مملوكة في حارة الأشراف.. ولدي في إسنا جنينة منجة وبهائم تربو علي الآلاف.. والحلوة الحسناء من أي حتة.. إني آراها تلبس الخفاف.. قالت أنا فلاحة من طلخة.. وأقيم في الزيتون عند عفاف.. وعفاف أختي حلوة لكنها عند النصيب تزوجت إسكافي.. قلت إقبليني كي أكون عديله.. كما قد دهست عقارباً ونحافي.. قالت يا لهوي.. أنت جلف جامد ومن الصعيد بتزق بالأكتاف.. أنا كنت أحلم أن أُزوج عيلاً سكن الزمان من عياراً فافي.. وأبوه في مصر الجديدة ساكن في فيلة بمساكن الأوقاف.. فسكت عنها لحظة فتلولوت.. قالت آراك سكت كالخوافِ.. قلت اختشيِ.. أنا لا أخاف ولست من صنف العيال التافه الهنتافي.. إني عشقتك حين قلت عوافي.. ريفية من قعرة الأرياف.. أنا لست أرضي بالزمالك مسكناً أو بالمعادي مثل عبد الشافي.. ذاك الذي باع الصعيد بزوجة.. وإذا يزور يزور كالمصطاف.. إني إنغرست به فأثمر نخوة.. وشهامة في الحل والتطوافِ.. من عهد مينا جدنا لم ننحرف.. أو عهد عمرو مكرم الأضياف.. من قال إن رجالنا كرجالكم.. آمن يسوي الدرة بالأصداف.. من قال إن حريمنا كحريمكم.. فالدفئ بطانية كلحاف.. قالت لقد أعجبتني يادالعدي.. هيا إلي المأذون دون خلافي.. فأجبت لا لا بد لي من جزمة وعباية وعصاية وخرافي.. ويكون حولي معشر أشنابهم مسنونة الحدين كالأسياف.. وبعثت فتحي للصعيد فجأءني بعصابة السر والصفصاف.. وتشخلع المأذون بين ديارنا.. وتلي علينا سورة الأعراف.. واهتز رأسي فجأة فصحوت من نومي علي زوجي تشد لحافي.. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم