شهادات ومذكرات

تَجارب وذكريات المؤتَمرات وأصناف الحضورفي سيرة د. عبد الرحمن بدوي

يسري عبد الغنييُعَدُّ الباحث الراحلُ أستاذنا ومعلمنا الأستاذ الدكتور / عبد الرحمن بدوي من الباحثين الذين حضروا عدداً كبيراً من المؤتمرات العلمية في طول العالم وعرضه، وقد ذكر في كتابه (سيرة حياتي) خلاصةَ تَجربته في حضور مثل هذه المؤتمرات في العالم العربي وفي أوربا وأمريكا وغيرها من مؤتمرات المستشرقين.

فقال في ذكرياته حول مؤتَمرٍ عقد في طهران عام 1973، وكان موضوعه حول العالم (أبي الريحان البيروني)، وقد ألقى بحثاً في عصر اليوم الأول للافتتاح باللغة الفرنسية عنوانه: (البيروني والفلسفة اليونانية) وخلاصة بحثه أنَّهُ: وإن كان البيروني واسع الاطلاع على الفلسفة اليونانية وأورد نصوصاً عديدةً مما تُرجم إلى العربية في القرنين الثالث والرابع فإنَّ الخوض في المعقولات لم يكن من شأنه كما قيل عنه، لأنه كان رجلَ علمٍ وضعيٍّ وليس فيلسوفاً نظرياً .

وقد أغضبت هذه النتيجة العلمية من أقام بحثه على خلافها من الباحثين، وقد حكى بدوي ما دار بينه وبين هؤلاء الباحثين فقال: ولما كان فرانتس روزنتال ولوي جارديه قد أعدَّا بحثيهما على زعم أن البيروني (فيلسوف) فقد أفسدتُ عليهما خطتهما، واضطر الثاني إلى تعديل بحثه، كما جاءني الأول ساخطاً غاضباً وهو يقول: لقد أفسدتَ عليَّ بحثي!.

فقلت له: أنا أدليت بالحجج الدامغة من نصوص البيروني نفسه، فإن كان لديك ما ينقضها فأورده، ولم يستطع جواباً، وألقى بعد ذلك بحثاً قصيراً تافهاً مبتذلاً

وكم تركنا من معارضةٍ خشيةَ أن نَحملَ أصحابنا على العنادِ، وقد حدث لي يوماً أن أَبديتُ بِهدوءٍ وجهةَ نظري لأحد المناقشين مع الثناء عليه وعلى وجهة نظره، وإذا به ينتفضُ ويرتعدُ ويُصِرُّ إصراراً! وحين أَيَّدني المناقشُ الآخر احتدَّ على الباحثِ المسكين، وفي الاستراحة قال لي: سامحك الله، لو لم تناقشني لتجاوزتُ عن الملحوظةِ . قلتُ: وماذا في النقاش؟ فلم يردّ ! قلتُ: هذا في نقاشٍ مخُتصرٍ، فكيف بما في المؤتَمر أو الملتقى؟ .

ثم قال بدوي ملخصاً تجربته في أصناف الحاضرين لهذه المؤتمرات:وقد لاحظتُ بوجهٍ عام أن الغالبية العظمى مِمَّن يحضرون هذه المؤتَمرات العلمية لا يستعدون لها أيَّ استعداد. ولهذا يكتفون بتحضير خطبٍ منبريَّةٍ تافهةٍ لا تكشف عن أي جهد لا في التحصيل ولا في التفكير، ويحسبون أن الحضور هو مجرد (سد خانات) حتى لا يتهموا بالتطفل واستغلال المرحلة للترفيه والوجاهة .

وهناك طائفة من الطفيلين المدمنين لحضور المؤتمرات أياً كان موضوعها حتى لو كانوا يسمعون باسم المُحتَفَلِ به لأول مرة في عمرهم، ومع ذلك يتوسلون ويتضرعون بكل الوسائل - وبأخسها غالباً - لاستجداء الدعوة لحضور المؤتمر من القائمين على تنظيمه، ولا يتورعون عن إلقاء (كلمة) هزيلة سخيفة عامة يمكن إلقاؤها في أي اجتماع مهما كان موضوعه . وكان من هذا الصنف في مؤتمر البيروني هذا اثنان أو ثلاثة سيعرفون أنفسهم فوراً حين يقرأون هذا الكلام، مهما غشى عدم الحياء على عيونهم ونفوسهم !!

ومنهم صنفٌ يَغُطُّ في نومهِ طوال إلقاء البحث، ثُمَّ يُفيق على ما يتلوه من تصفيقٍ تقليديٍّ، ولا يتورع عن إبداء ملاحظةٍ أو أكثر على بحثٍ لم يسمع منه كلمةً واحدةً ! وهو طبعاً يقول كلاماً لا معنى له ولا صلة له بالبحث !

وقد يستظرفُ بعضُهم نفسَهُ - مع إِنَّ ظِلَّه أثقل من جبل الهملايا - فيتخذ من الوقت المخصص للتعليقات فرصةً لقول نكتةٍ باردةٍ مَمجوجةٍ لا يضحك منها أحدٌ غيرَ نفسهِ، ويكون هذا هو كل ما يُسهم به في هذا المؤتمر الذي أَنْفَقَ عليه من أجله المنظمون له نفقاتٍ باهظةً !

وهذه الأصناف الأربعة قد تمثلت بكل جلاء في مؤتمر البيروني هذا، كما تمثلت في مؤتمر الفلسفة الإسلامية الذي انعقد في جامعة هارفرد، كمبردج، مساشوستس، وجامعة كولومبيا (نيويورك)، وفي مؤتمر ابن رشد في سبتمبر سنة 1976 في الكوليج دي فرانس باريس، وفي مؤتمر تاريخ العلوم في باريس في أغسطس سنة 1978 وفي كل مؤتمرات المستشرقين التي حضرتها وما أكثرها ! لكن بدرجة أقل ظهوراً لكثرة عدد المشتركين .

من حضر المؤتمر فليأكل بالمعروف ..

هناك فئة من الحضور يحضر من أجل الطعام، والبوفيهات المفتوحة في المؤتمرات، فيحضر المؤتمر وعينه على الساعة، وقد ذهب وعاد من المطعم عدة مرات ليهيأ له مكاناً مناسباً، ويسأل كثيراً عن موعد الغداء أو العشاء، وقد رأيتُ مواقف طريفة لو رويتها لكم لخرجتُ عن الموضوع .

وقد أعجبني تصوير أستاذنا الدكتور / عبد الرحمن بدوي لبعض هؤلاء الحضور في مؤتمر البيروني في طهران فقال: وكان بين المشاركين في مؤتمر البيروني هذا اثنان من رجال الدين المجوس كانا يلبسان جلبابين أبيضين، وعلى رأس كليهما عمامةٌ بيضاء وكانا لا يُكلِّمان أحداً، بل يَجلسان معاً ويتكلمان معاً، ولم يكن أيُّ واحدٍ منهما يعرف غيرَ اللغة الفارسية.

ولم ينطقا طوال المؤتمر بكلمة واحدة لا في الأبحاث ولا في التعليقات، أمَّا حين تناول الطعام فقد كانا شديدي التلهف على الأكل ينقضَّان على أطيب ما يُقدَّمُ على الموائد دون أي احتجاز أو استحياء !

ولهذا كان الأعضاء يتجنبون الجلوس معهما إلى نفس المائدة، لأنهما لن يبقيا من الطعام لغيرهما شيئاً يذكر (سيرة حياتي: 2/258-260)

وأذكر بعض هؤلاء تراه في الجلسات ناعساً سرحاناً حزيناً، فإذا حضر الطعامُ تَهللت أسارير وجهه، وأخذ يبادل الآخرين الابتسامات، ولسان حاله يقول: هذه أفضل فقراتِ المؤتَمر وأمتعها !

وبعض الحضور تراه يدخل ويخرج أثناء الجلسات فلا يقر له قرار، مرةً يذهب للمكالمة، وأخرى لشرب الشاي، وثالثة لدورة المياه، ورابعة لاستقبال صديق جاء يسلم عليه لم يره منذ عشر سنوات، والبحث يقدم تلو البحث وصاحبنا في عالم آخر، وسألتُ أحد الأصدقاء يوماً عن سبب عدم جلوسه للاستماع - ولو مجاملةً –

فقال: أنا أعمل بقوله تعالى:{فاقرأَوا ما تَيَسَّرَ منهُ}! فضحكتُ وسكتُّ، وقد يكون لضعف عرض الباحثين دور في هذا التسرب أثناء الجلسات، ولكنَّ الذي أحبه لنفسي ولغيري الالتزام بالحضور، والإصغاء للباحثين، والمشاركة في إنجاح الجلسات بإبداء الآراء والتعقيبات المركزة النافعة حتى يكون هناك مشاركة إيجابية في المؤتمر.

الهاتف الجوال مُعكِّر صفوِ الجلسات..

أصبح الهاتف المحمول الجوال مشكلةً في جلسات المؤتمرات، ينشغل به الكثير من الحضور عن الإنصات والهدوء النفسي أثناء الجلسات، فتجد نغمات الجوال تفسد بكثرتها وتنوعها أجواء الجلسة، ويشوش على الصوت في المنصات، وتجد بعض الحضور يجيب على الهاتف بصوت مرتفع وربما نسي بعضهم نفسه أثناء الحديث فأخذ راحته واسترسل في الحديث والضحك، والناس في ذهول واستغراب، وبعضهم يشغله الهاتف بقراءة الرسائل وكتابتها.

وبعضهم - وهذا من ألطف ما رأيتُ - يفتح لعبةً إلكترونية في الهاتف، ويتسلى بها ريثما تنتهي الجلسة، وكم تَمنَّيت أن تُمنع الهواتفُ المَحمولةُ من الدخول لقاعة المؤتَمرِ، ولكن هذا التصرف سيبدو غير لائق لو تَمَّ عمله، وقد رأيتُ بعضهم من الفضلاء لا شُغلَ له إلا الهاتف طيلة الجلسات، فقلتُ في نفسي:ليته استراح في بيته.

ثم عرفتُ فيما بعدُ أنَّ كثيراً من الحضور يَحضرُ من أجل الحضور نفسه والحصول على شهادة حضورٍ في نِهاية المؤتمر، والتقاطِ صورةٍ تذكاريَّةٍ، يضعها في سيرته الذاتية، وربَّما تفيده في الترقية العلميَّة أو الشهرة الفيسبوكية .

ولعل نظرتَنا للمؤتمرات تختلفُ عن نظرة آخرينَ لها، ففي المغرب مثلاً - وهي من أكثرِ البلدان العربية والإسلاميةِ نشاطاً علمياً، وتنظيماً للمؤتَمراتِ والندواتِ والملتقياتِ – لا ينظرون لكثيرٍ من الجوانب التي ذكرناها باعتبارٍ كبيرٍ، فقد سمعت في عدة مؤتمراتٍ هناك من المشاركين من لم يكتب بحثاً، بل يرتَجلهُ ارتجالاً، وقد يضع بعضُهم بيده ورقةً صغيرةً دَوَّنَ فيها عناوينَ مسائل بحثه.

ويُعاني المنظمون مِن عدم تسليم كثيرٍ من المشاركين لِبحوثهم لأنَّهم لم يكتبوها أصلاً، ومع أَنَّ بعض هذه المداخلات والمشاركات جيِّد وفيه فوائدُ، إِلا أنَّك لنْ تظفرَ بأكثرَ مِمَّا سَمعتَ. ولا يعني هذا أَنَّ المشاركات كُلها على هذا النحو، فهناك من يعتني ببحثه وطباعته وتوزيعه، ولا شكَّ أنَّ ثراء المؤتمرات هناك بالحوار والنقاش وكثرتِها أدَّى إلى مَلَكَةٍ علميَّةٍ في الحوار والبحث العلمي والارتجالِ، حتى بين الطلاب، وكثيراً ما سَمعتُ من مداخلاتِ الطلاب ماينافسون به الأساتذة.

صبر وانضباط:

ويقول أستاذنا الدكتور / عبد الرحمن بدوي: حضرت يوماً مؤتمراً طبياً في أوربا فرأيتُ من الانضباط في الحضور ما أذهلني حينها، فقلتُ لدكتور طبيب كان معي: لقد ذهلتُ من حضور هؤلاء وانضباطهم في الحضور أثناء الجلسات. فقال: لقد حضرت مؤتمرات كثيرة في أمريكا وغيرها ورأيتُ ما هو أعجب من ذلك، ورأيتُ يوماً في مؤتمر طبي بروفسوراً في السبعين من عمره لا يفوت أي جلسة في المؤتمر، ويحرص على الحضور في أول الجلسة ولا يغادر إلا بعد الانتهاء تَماماً، وتبين لي فيما بعدُ أنه أحد الحاصلين على جائزة نوبل في فرع من فروع الطب، ورأيتُ آخر لا يترك أي جلسة فلما سألتُ عنه قيل لي إنه عميد كلية في جامعة هارفرد ولا تكاد تميزه عن غيره من الحضور لتواضعه وجديته في الحضور والمواظبة، وهو في منصب علمي رفيع، ودار حديث طويل حول هذه الصور، والصور المؤسفة التي تحدث في مؤتمراتنا من التسرب والتسلل من هنا وهناك ...

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم