شهادات ومذكرات

ليفيوس.. مؤرخ يكتب تاريخ روما

يسري عبد الغنيفي عام 217 قبل الميلاد، كانت قوات قرطاجنة أثناء غزوها لإيطاليا بقيادة عبقري الحرب / هانيبال، قد تمكنت من الإيقاع بالجيش الروماني والتمثيل به على شواطئ بحيرة تراسيمين شمالي روما، ونحن ندين بمعرفتنا الدقيقة بهذه الواقعة التاريخية وبغيرها من الكثير من معالم التاريخ الروماني إلى المؤرخ / تيتوس ليفيوس، وينادى بالإنجليزية باسم لايفي .

النشأة الريفية:

إن المعلومات التي لدينا عن حياة واحد من أعظم المؤرخين الرومان، معلومات جد ضئيلة، وخلاصتها أن لايفي أو ليفيوس ولد عام 59 قبل الميلاد، في مدينة بادوا، وهي إحدى المدن المزدهرة في منطقة شمال إيطاليا، وقد كان لولادته في الأقاليم، ونشأته وسط الهدوء الريفي بعيدًا عن ضجيج العاصمة الإيطالية، أثر عميق في تكوين هذا المؤرخ العظيم، وفي تكوين نظرته إلى الحياة، ذلك أن روما كان قد حل بها الفساد، وعزت الأمانة في مجتمعها، وبدا كأن جميع القيم السلوكية قد اختفت منها تمامًا، أما في بادوا فإن الفضائل القديمة كانت لا تزال محتفظة بكيانها .

وفي ذلك الجو التقليدي كانت نشأة لايفي، ولذا فإننا نجد أن إعجابه بالعادات والتقاليد القديمة قد ألقى ظله على كل ما كتبه في مجا ل التاريخ .

والمعروف أن لايفي ينحدر من أسرة شريفة في الغالب، وكانت دراسته تتركز في القانون والخطابة، استعدادًا لما كان يخطط له من مستقبل في الحياة الاجتماعية، ويقال إنه كان يريد أن يصبح من المحامين المشهورين في بلاده .

غير أن الشاب لايفي عندما وصل إلى روما حوالي سنة 30 قبل الميلاد، لم يجد في مظاهر الحياة السياسية هناك ما يجذبه إليها .

في تلك الآونة كان أوكتافيان المعروف باسم أغسطس قد هزم مارك أنطونيو (صاحب قصة الحب الشهيرة مع الملكة المصرية / كليوباترا) في موقعة أكتيوم البحرية بالقرب من مدينة الإسكندرية المصرية، في العام السابق لوصول لايفي إلى روما، وانهمك أوكتافيان بعدها في لم شتات السيطرة الكاملة على الإمبراطورية الرومانية .

وعلى ذلك وجد لايفي الطموح في أنه لا مستقبل يرجى له في الحياة السياسية في عهد حاكم ليس في الواقع سوى حاكم مطلق، فاضطر للبحث عن طريق آخر لتأمين مستقبله .

مؤرخ بدرجة متحمس جمهوري:

كان من أهم المشاكل التي تقابل أغسطس في سبيل توحيد الإمبراطورية الرومانية، إحياء الدستور الأخلاقي السليم للجمهورية، الذي كان الأساس الذي قامت عليه عظمة روما، والذي كانت آثاره قد زالت تمامًا خلال نصف قرن من الحروب الأهلية المتصلة، وكان جزء من برنامجه يقضي بتشجيع الكتاب على تقريظ منجزات الماضي، وكان لايفي واحدًا من أكبر مؤيديه حماسة .

وكان بعض ما كتبه المؤلف و المؤرخ / لايفي من الناحية الفلسفية بعد وصوله إلى روما بقليل، قد لفت إليه انتباه أغسطس، وسرعان ما عهد إليه بما أصبح الشغل الشاغل له باقي حياته، ألا وهو كتابة تاريخ روما ابتداء من قصة إنشائها حتى عهد أغسطس، وقد كانت النشأة التي نشأ عليها لايفي، وحبه للناس، وللأخلاق الطيبة الفاضلة التي تميز بها الماضي، سببًا في أنه شعر بالارتياح لهذا العمل، فعكف على كتابة ما كلف به مكرسًا له الأربعين عامًا التالية من حياته .

تاريخ روما عن طريق الحوليات:

لم يكن من المستغرب أن يحذو لايفي حذو من سبقه من المؤرخين، فيكتب تاريخ روما على شكل حوليات، أي وصف للحوادث عامًا فعامًا، وكانت تلك هي الطريقة التي اتبعها المؤرخون القدماء، وهي وإن كانت مفيدة كسرد إخباري، إلا أنها لا تسمح بإعطاء صورة شاملة للحوادث التاريخية وتطورها، وقد أخذ على لايفي، وبحق، عدد من النقائص فيما كتبه، فقد كان يفتقر إلى الدقة في مراجعة المصادر التي استقى منها الحوادث، وكثيرًا ما كان يكرر بعض الحوادث بأوصاف متناقضة .

كما أنه لم يحاول أن يتعمق في فهم بعض الشئون العسكرية، مما يجعل روايته لبعض المعارك تتسم بالغموض، فضلاً عن أنه لم يكن يدقق في صحة التواريخ، ويجمع نقاد التاريخ على أن لايفي كتب الجزء الخاص بالتاريخ القديم لروما، وهو مفتقر إلى الحقائق، وترك العنان لحماسه الجمهوري، فنحى به إلى التحيز .

ومع ذلك، وبالرغم من هذه الأخطاء، فإن التاريخ الذي كتبه لايفي يعتبر عملاً عظيمًا، كانت مشاعره الوطنية وإحساسه بالولاء للمثل العليا لأغسطس تلقي ظلالها على كل ما كتب، وإذا كان تصوره لحدة ذكاء الشعب الروماني القديم وقوة بأسهم يعتبر مبالغًا فيه إلى حد كبير، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أنه شخصيًا كان يعجب بتلك الصفات إعجابًا شديدًا .

وعندما كان يصف تدهور المقاييس والمثل القديمة، كان يفعل ذلك بقوة وحماسة يمكن أن تثير حتى القارئ في عصرنا الحديث، وفضلاً عن ذلك، فقد كان لايفي كاتبًا يجيد الوصف التاريخي كل الإجادة، ومن المتعذر أن ننسى وصفه للمآسي التي وقعت في كاناي و تراسيمين أثناء الحرب البونية، أو للذعر الذي ساد روما عندما بلغتها أخبار كاناي (الحرب مع قرطاجنة وهانيبال)، ويمكن تشبيه ما كتبه الشاعر الروماني الشهير / فيرجيل شعرًا عن قصة روما القديمة، بما كتبه لايفي عنها نثرًا .

هذا وقد وصل لايفي إلى مدارج الشهرة أثناء حياته، ومما يروى لهذه المناسبة أن رجلاً طاعنًا في السن جاء من قادش إلى روما خصيصًا لرؤية لايفي، وبمجرد أن قابله واستمع إليه، قفل راجعًا إلى بلده مباشرة دون أن يهتم بمشاهدة معالم روما .

توفي لايفي في عام 17 ميلادية، في مسقط رأسه بادوا، وكان قد عاد إليها في أخريات ايامه، عندما وجد أن قوة أغسطس المتزايدة قد جعلت من النظرة الجمهورية القديمة لمضمون الحرية موضوعًا يصعب على الكاتب أن يطرقه، بل وقد يكون خطرًا عليه إن فعل .

مؤلفات ليفيوس غير المكتملة:

ويمكن القول بأن عمله في كتابة تاريخ روما لم يستكمل، إذ أنه توقف عند سنة 9 قبل الميلاد، و يتكون مؤلف لايفي عن تاريخ روما من 142 جزءًا، لكن لم يصلنا منها سوى 35 جزءًا، تسرد العشرة الأولى منها تاريخ روما منذ تأسيسها حتى الحروب السامينتية 293 قبل الميلاد، وتغطي الأجزاء الباقية المدة من الحرب البونية الثانية 218 قبل الميلاد، إلى حروب مقدونيا 167 قبل الميلاد، ولم يصلنا من باقي الأجزاء سوى نبذ وملخصات قام بكتابتها مؤرخون لاحقون .

كان هذا هو ليفيوس أو لايفي الذي كتب تاريخ روما العظيم، وعاش من سنة 59 قبل الميلاد إلى سنة 17 ميلادية، فهل لنا أن نتعلم من السابقين ؟ !

 

بقلم: د . يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم