شهادات ومذكرات

بين الرحيل والطعنات القاتلة!

يسري عبد الغنيكان بونابرت قادرا على التمييز بين الصفقات الرابحة والخاسرة، فقرر الفرار خلسة من مصر في أغسطس/آب 1799 تاركا وراءه رسالة إلى قائده الأبرز الجنرال كليبر يحمّله مسؤولية قيادة مصر وجيش الشرق.

وخلال إقامته الأخيرة في القاهرة، وفقا للمؤرخ هنري لورانس، يتعين على القائد العام ألا يسمح بتسريب شيء عن نواياه، فتوجه بالخطاب إلى ديوان القاهرة مستعيدا حديثه عن دوره كمرسل من الله، وفقا لما جاء في "التاريخ العلمي والعسكري للحملة الفرنسية" لريبو:

"أو ليس حقا أنه قد جاء في كتبكم أن كائنا أرقى سوف يصل من الغرب مكلفا بمواصلة عمل النبي ؟ أو ليس حقا أنه جاء فيه أيضا أن هذا الرجل، هذا الوكيل لمحمد هو أنا؟"

هرب بونابرت إلى فرنسا في جنح الليل في 23 أغسطس/آب 1799 وترك رسالة بالغة الأهمية لقائده كليبر يوصيه فيها:

"إن من يكسب ثقة كبار الشيوخ في القاهرة يضمن ثقة الشعب المصري، وليس بين رؤساء الشعب من هم أقل خطرا من شيوخه، لأنهم قوم هيابون لم يألفوا خوض غمار القتال، على أنهم رمز للتعصب ولو أنهم ليسوا متعصبين، فهم من هذه الوجهة يشبهون القسس".

كما كتب بونابرت رسالة إلى ديوان القاهرة أوردها مواريه في شهادته جاء في متنها: "قررت أن أتولى قيادة أسطولي، وأن أعهد بالقيادة أثناء غيابي للجنرال كليبر، إنه رجل متميز أفتخر به، وطلبت منه أن يكن للعلماء والشيوخ نفس المحبة التي أكنها لهم."

وأضاف بونابرت :"إفعلوا ما في وسعكم ليحظى كليبر بنفس ثقة شعب مصر بي، حتى يكون هذا الشعب مصدر سعادتي عند عودتي في غضون شهرين أو ثلاثة، ولا تجعلوني أحمل إلا المدح والمكافأة للشيوخ عند عودتي".

غادر بونابرت الشرق دون أن يستولي على مصر، ولم تخضع له عكا، وترك البحر المتوسط في يد إنجلترا بعد تحطم أسطوله البحري في معركة أبو قير في الثاني من أغسطس/آب 1798، كما لم تتمكن جيوشه من القضاء على المماليك، ولم تُسحق المقاومة المصرية.

دام حلم بونابرت "الإسلامي" في مصر عاما واحدا، وهي فترة اتسمت بالقرب المادي بين الشرق والغرب تاريخيا وفكريا، وإن كان لم يستطع القائد الفرنسي تحقيق حلمه بتأسيس "إمبراطورية الشرق"، كانت هناك على الأقل فرصة جديدة أمامه لتحقيق حلم "إمبراطورية الغرب".

أسرار مقتل كليبر

تعد فترة تولي كليبر قيادة حملة "جيش الشرق" فترة بالغة الأهمية لما فيها من ثراء من ناحية المادة التاريخية والمراسلات

"من بونابرت إلى الجيش، لقد دفعتني الأنباء الواردة من أوروبا أن أقرر الرحيل إلى فرنسا تاركا قيادة الجيش للجنرال كليبر، يعز عليّ ترك الجنود مع ارتباطي بهم لكنه وضع مؤقت، واعلموا أن الجنرال الذي خلفته يحظى بثقة الحكومة وثقتي"، بهذا البيان الصادر بتاريخ 22 أغسطس/آب 1799، ترك نابليون بونابرت حملته العسكرية على مصر (1798-1801) متنازلا عن حلم تأسيس إمبراطورية الشرق بعد عام واحد من هزائم عسكرية متتالية دفعته إلى الفرار سرا من مصر إلى فرنسا.

وتعد فترة تولي كليبر لقيادة حملة "جيش الشرق"، كما تصفها الوثائق الفرنسية، فترة بالغة الأهمية لما فيها من ثراء للمادة التاريخية والمراسلات العسكرية فضلا عن تنامي الأحداث خارجيا مع العثمانيين وانجلترا وداخليا في مصر لمقاومة الاحتلال الفرنسي للبلاد.

سعى كليبر إلى التغلب على الصعوبات المالية والعسكرية والسياسية التي خلفها بونابرت، وأصبح موقفه مع بداية شهر يونيو/حزيران 1800 شديد الحصانة على الجبهتين الداخلية والخارجية لاسيما بعد انتصاره على العثمانيين في معركة هليوبوليس وإخماده انتفاضة القاهرة الثانية.

ويطرح المؤرخون سؤالا وهو هل كان يعتزم كليبر البقاء في مصر أم كان لا يزال راغبا في الجلاء عنها عائدا إلى فرنسا؟

وتشير الدلائل التاريخية إلى أنه كان يسعى لحكم مصر لفترة أطول، لاسيما وقد تلاشت المصاعب التي كانت تدفعه دوما إلى الجلاء عن مصر، كحل الأزمة المالية بفرض غرامات على المصريين بعد انتفاضة القاهرة الثانية، وانتهاء تهديد العثمانيين لوجوده على أرض مصر بعد هزيمتهم، كما أصبح عدو الأمس، أي مراد بك زعيم المماليك، صديق اليوم بعد تحالفه معه.

طعنات قاتلة

قويت آمال كليبر في تخليد ذكراه في وادي النيل لتأسيس مشروعات سياسية وعسكرية بعيدا عن بونابرت، لكنها آمال تبددت في لحظة اعتداء بخنجر نفذها شخص سوري من حلب يدعى سليمان أنهت حياة القائد العام لجيش الشرق عصر يوم 14 يونيو/حزيران 1800، وأسهمت في تبدل مصير الحملة الفرنسية في مصر.

كان كليبر ذهب في صباح ذلك اليوم إلى جزيرة الروضة لتفقد عرض عسكري لكتيبة من الأروام انضمت للجيش الفرنسي في مصر، عاد بعدها بصحبة المهندس المعماري "بروتان" لمتابعة أعمال ترميم مقر القيادة العامة ودار إقامته في الأزبكية الذي أصيب بأضرار خلال انتفاضة القاهرة الثانية، وانصرفا معا إلى دار الجنرال "داماس"، رئيس الأركان، لتناول الغداء مع مجموعة من القادة وأعضاء المجمع العلمي.

عاد الاثنان إلى مقر القيادة العامة وكانت حديقة القصر تجاور منزل داماس، وبينما كان كليبر وبروتان يسيران في الحديقة خرج عليهما رجل اقترب من كليبر مستجديا شيئا، فلم يخالج كليبر ارتياب من نوايا الرجل فمد إليه يده، فطعنه سليمان الحلبي طعنة في قلبه، وأسرع بروتان للإمساك به فكان نصيب المعماري ست طعنات سقط بها على الأرض.

وعاد الحلبي إلى كليبر مرة أخرى وطعنه ثلاث طعنات للتأكد من قتله، على الرغم من أن الطعنة الأولى كانت القاضية على حياة الجنرال وفقا لتقرير كبير أطباء وجراحي الحملة الفرنسية "ديجنيت".

تلقى أهالي القاهرة نبأ اغتيال كليبر بخوف وحذر من ثأر الفرنسيين، بينما تلقاه الفرنسيون بحزن وحذر من اندلاع انتفاضة ثالثة من الأهالي، وهددوا بالثأر وإحراق المدينة انتقاما لمقتل قائدهم، وأُطلقت دوريات عسكرية للبحث عن الجاني.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم