شهادات ومذكرات

إبراهيم بيومي مدكور ومنهجه في دراسة تأريخ الفلسفة الإسلامية (2)

محمود محمد علينتحدث في هذا المقال عن منهجية أستاذنا الدكتور إبراهيم بيومي مدكور في دراسة تأريخ الفلسفة الإسلامية، وهذا ما نجده واضحاً في كتابه "في الفلسفة الإسلامية .. منهج وتطبيقه"؛ حيث يقع الكتاب في 216 صفحة، ويقسم إلي فسمين كبيرين: القسم الأول ويقع في في 30 صفحة وتشمل مقدمات في المنهج . والقسم الثاني تطبيق للمنهج . والقسم الأخير من ثلاثة فصول تدرس ما يسميه الدكتور مدكور " نظريات فلسفية ": نظرية السعادة، ونظرية النبوة، والنفس وخلودها عند ابن سينا. وقد ختم مدكور كتابه بخلاصة يؤكد فيها صحة منهجه وصحة تطبيقه عليه. كما أثبت في نهاية الكتاب بعض المراجع العربية والأجنبية  عارضاً ومعلقاً . ولم تخل فصول الكتاب من إشارات منهجية . ذاك أن مدكور يريد لكتابه هذا أن يعتبر " نموذجاً يحاكي ومنهجاً يرجي تطبيقه في دراسات مشابهة، وحلقة في سلسلة متصلة" ( ص 5)، وذلك في سياق ما يسميه " إحياء التراث الإسلامي" و " ربط الفلسفة  الإسلامية بمراحل التفكير الإنساني".

ويُذكر لكتاب الدكتور مدكور أنه كتب بلغة سهلة وواضحة بعيدة كل البعد عن الغموض والتعقيد، وعن كل ما يكتنف كتب الفلسفة عادة قديمها وحديثها من تصعيب وإبهام، يكون متعمداً أحياناً، لتكون هذه الكتب من اهتمام الخاصة دون العامة.

كما يُذكر لهذا الكتاب ويُسجل له أنه جاء بعد ثلاث سنوات على صدور كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) الصادر سنة 1944م، هذه الفترة الزمنية المتقاربة جعلت كل كتاب يُذكِّر بالكتاب الآخر، وهذا ما استفاد منه كتاب الدكتور مدكور، وذلك للشهرة الواسعة التي حظي بها كتاب الشيخ عبد الرازق لكونه من أسبق المؤلفات العربية في بابه؛ وظل الحديث عن هذين الكتابين مقترناً في بعض الكتابات العربية، كالذي أشار إليه الدكتور محمد عابد الجابري حين اعتبر أنهما من أهم المحاولات، إن لم يكونا أهمها على الإطلاق، وأعطاهما صفتا الريادة والطموح، وقال عن مؤلفيهما أنهما من الأساتذة الذين ساهموا مساهمة كبيرة في إعادة بعث وإحياء الفلسفة في الفكر العربي الحديث، بعد أن بقيت مخنوقة مقموعة طيلة عصر الانحطاط، بل منذ وفاة ابن رشد.

وقد أشاد بفضل هذا الكتاب نخبة كبيرة من باحثينا الأجلاء نذكر منهم علي سبيل المثال: ما وصفه  الدكتور " زكي الميلاد" قائلاً: يعد كتاب الدكتور إبراهيم مدكور (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م، أحد أهم المؤلفات الرائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، الحقل الذي تأخَّر الاهتمام به في المجال العربي الحديث، وقلَّ فيه الابتكار والإبداع، ولم يشهد فيما بعد تراكماً متصلاً يتسم بالتطور والتجدد. ومثَّل صدور هذا الكتاب حدثاً لافتاً في وقته، كان جديراً بأن يؤرخ له في مسارات تطور الفكر الفلسفي الإسلامي المعاصر، وبشكل يستدعي التوقف عنده، وذلك لتميزه المنهجي والتاريخي من جهة، ولكونه جاء مبكراً وسابقاً للعديد من الكتابات والمؤلفات في حقله.

كما وصفه الدكتور ماجد فخري حين تتبع الدراسات الفلسفية في مائة عام، وتوقف عند الكتابات العربية التي أرَّخت للفلسفة الإسلامية، حيث اعتبر أن كتاب الدكتور إبراهيم مدكور «هو أفضل ما ألَّفه العرب المحدثون في هذا الباب، ومع أنه ليس تاريخاً شاملاً للفلسفة العربية، فقد بسط مؤلفه الأسس الصحيحة لمحاولة التأريخ للفلسفة العربية تأريخاً جامعاً، ومثل عليه تمثيلاً حسناً".

كما أشاد به الدكتور محمد عابد الجابري (رحمه الله)، حيث صنف رؤية مدكور على ما أسماه الرؤية الليبرالية في مقابل رؤية الشيخ مصطفى عبد الرازق التي أسماها بالرؤية السلفية، والتي خنقت في نظره المنهج. والرؤية الليبرالية في نظر الجابري هي رؤية غير متعصبة، فليس يهمها فقط وضع الفلسفة الإسلامية في مكانها اللائق، بل يهمها أيضاً اكتمال مراحل تاريخ الفكر الإنساني، وفي إطار هذه الرؤية الليبرالية لن نجد حرجاً في الاعتراف بأن الفلسفة الإسلامية أخذت عن الفلسفة اليونانية، المهم هو أننا قد أعطينا بعد أن أخذنا كما فعلت كل الشعوب التي كانت لها حضارة، وإذن فلقد كان لنا مكان في التاريخ، وذلك برهان على الأصالة.

وثمة نقطة أخري  مهمة وجديرة بالإشارة وهي أن من أكثر ما تميز وتفوق به كتاب الدكتور مدكور على الكتابات الفلسفية الأخرى كما يقول د. زكي الميلاد، هو ذلك الجانب الذي يتصل بالمنهج التطبيقي، فهو من أكثر المؤلفات وضوحاً في المنهج من الناحيتين النظرية والتطبيقية، واتسم بالتجديد والابتكار من هذه الناحية، وكانت هذه من أعظم نجاحاته، بحيث يمكن القول: إنه كتاب في الفلسفة من جهة، وكتاب في المنهج من جهة أخرى، وما زال إلى اليوم يحتفظ بهذه السمة المتفوقة.

وما يعزز من قيمة هذا التميز المنهجي لكتاب الدكتور مدكور، أن صدوره جاء في وقت مثل بداية الاهتمام بدراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية في المجال العربي الحديث، ولم تكن هناك تراكمات سابقة عليه سوى كتاب التمهيد للشيخ مصطفى عبد الرازق، مع ذلك تمكن الدكتور مدكور من أن يبتكر لنفسه منهجاً تطبيقيًّا جديداً، ولم يكن تابعاً أو مقلداً فيه لأحد من المتأخرين أو المتقدمين.

والمنهج الذي يعول عليه الدكتور مدكور، ويقترحه في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، يتحدد في نطاقين هما:

أولاً: المنهج التاريخي، الذي يرى فيه الدكتور مدكور أنه المنهج «الذي يصعد بنا إلى الأصول الأولى، وينمي معلوماتنا، ويزيد ثروتنا العلمية، وبواسطته يمكن استعادة الماضي وتكوين أجزائه البالية، وعرض صورة منه تطابق الواقع ما أمكن".

ثانياً: المنهج المقارن، الذي يرى فيه الدكتور مدكور أنه المنهج «الذي يسمح بمقابلة الأشخاص والآراء وجهاً لوجه، ويعين على كشف ما بينهما من شبه أو علاقة. والمقارنة والموازنة من العلوم الإنسانية بمثابة الملاحظة والتجربة من العلوم الطبيعية".

وأما عن تطبيقات هذين المنهجين في نظر مدكور، فيتمثل ذلك في خمس نظريات تنتمي إلى الفلسفة الإسلامية، ثلاث منها جرت التطبيقات عليها في الجزء الأول، وهي نظريات السعادة والنبوة وخلود النفس، واثنتان جرت التطبيقات عليها في الجزء الثاني، وهما نظريتا الألوهية وحرية الإرادة.

ويرى الدكتور مدكور أن هذه النظريات ما هي إلَّا نماذج لدراسات ينبغي محاكاتها، وجزء من سلسلة يجب استكمال حلقاتها، وهناك نظريات أخرى بحاجة لأن تدخل في نسق هذه التطبيقات، منها نظرية واجب الوجود، والعلم الإلهي، والخلق والإبداع، والسببية والغائية، ومذهب التفاؤل، وغيرها من نظريات أخرى ميتافيزيقية وطبيعية وسيكولوجية وأخلاقية.

وطريقة مدكور في تطبيقات المنهج على هذه النظريات الخمس، تبدأ بتوضيح النظرية وإعطاء فكرة كاملة عنها، وشرحها بلغة أصحابها وواضيعها، وبحسب الصورة التي ظهرت عليه في المجال الإسلامي، ومحاولة تلمس أصولها، والبحث عن مصادرها فيما نقل إلى العربية من أفكار أجنبية، أو فيما جاء به الدين من تعاليم.

وحول موقف مدكور من المستشرقين والدراسات الفلسفية، فنجده يتحدث عن المستشرقين وهو يؤرخ لدورهم في مجال العناية بالدراسات الإسلامية بشكل عام، وبالدراسات الفلسفية بشكل خاص، ومنوهاً بهذا الدور، ومشيداً بفضل هؤلاء المستشرقين الذين اتجهت عنايتهم بالدراسات الإسلامية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ولكنها نشطت في الربع الأول من القرن العشرين ؛ وكانت للدراسات الفلسفية نصيب من هذه الجهود، حيث نشرت مؤلفات لفلاسفة المسلمين بقيت مخطوطة زمناً طويلاً، وقُوبلت أصولها العربية بما عرف لها من ترجمات لاتينية وعبرية، وعلّق عليها بما يشرح غامضها، ويعين على فهمها.

ويرى مدكور أن دور المستشرقين لم يقف عند هذا الحد، بل حاولوا أن يكشفوا عن معالم الحياة العقلية في الإسلام، وأرَّخوا لها جملةً وتفصيلاً، فكتبوا عن الفلسفة والفلاسفة، والكلام والمتكلمين، والتصوف والمتصوفين، وأخذوا يشرحون الآراء والمذاهب، ويترجمون للأشخاص والمدارس، ووصل بهم الحال إلى نوع من التخصص أضحى معها كل باحث معروفاً بالناحية التي تفرغ لها، فهناك من اعتنى عناية خاصة بتاريخ التشريع كالمستشرق المجري جولدزيهر، وهناك من اعتنى عناية خاصة بالتصوف كالمستشرق الإنجليزي نيكلسون، وهناك من اعتنى عناية خاصة بالكيمياء العربية كالمستشرق الألماني روسكا، وهكذا الحال مع آخرين.

بهذا الموقف يكون مدكور قد ظهر بمظهر الموقف الهادئ والإيجابي من الاستشراق والمستشرقين، وكان بعيداً كل البعد عن الانفعال والتشكيك بخلاف موقف الكثيرين في المجال العربي والإسلامي، ومن هذه الجهة يمكن تصنيف موقف الدكتور مدكور في خانة أصحاب الموقف الإيجابي تجاه الاستشراق الأوروبي كما قال د. زكي الميلاد... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..................

1- مدكور، د. إبراهيم بيومي: في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه، سميركو للطباعة  والنشر، القاهرة، جزآن، 1983.

2- الميلاد، زكي: إبراهيم مدكور: ومنهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، مجلة الكلمة، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، س 18، ع 71، 2011.

3-  فخري، د. ماجد: دراسات في الفكر العربي، بيروت، دار النهار، 1982.

4- الجابري، د. محمد عابد: التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991.

 

 

في المثقف اليوم