شهادات ومذكرات

مصطفي صفوان.. فيلسوف في معية التحليل النفسي

محمود محمد عليمن مدينة الإسكندرية، مدينة أفلوطين المفضلة .. المكتبة المنارة .. عصا الحكيم .. عبقرية الدرويش.. نغترف عالما كبيرا من علمائها المعاصرين، إنه حلم الإسكندرية حيث ولد فيها المصطفي صفوان، وفيها صرخ صرخة الرعب الأولي عندما أخذوا أباه إلي السجن، وفيها تاهت كرنفالات النفس الشرية، وفيها تفلسف بين جدران الجامعة قبل أن ينتقل سنة 1945 م إلي جامعة السوربون في باريس، وهو قبل أن يتوفاه الله الأسبوع الماضي كان أحد شيخ علماء التحليل النفسي في فرنسا، لكنه أبدا يعود إلي نفائس الإسكندرية .

وهنا أود في هذا المقال أن أقول: أما أن ترحل قامة علمية مثل الدكتور "مصطفي صفوان"، (أستاذ التحليل النفسي بجامعة السوربون)، دون كلمة رثاء فى الإعلام المصري والعربي، فتلك علامة من علامات التردي، ودليل من أدلة الرداءة والعشوائية، فهذا الرجل كان من أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعلمون بما يؤمنون، ولذلك أقول أي الكلمات لديها القدرة أن ترثى عالماً وفيلسوفا وكاتباً بالغ الصدق والنبل والنقاء مثل مصطفي صفوان (مع حفظ الألقاب) ؟! .. أي الكلمات لديها القدرة ؟!، فالذين يتسمون بالصدق والنبل في مهنة علم النفس قليلون، وقد ازدادوا برحيله قلة!.. لا أظن أنه من قبيل المبالغة أن أقول إنه من أكثر الذين قدر لي أن أقرأ لهم من أستاذة التحليل النفسي بعداً عن المداهنة أو المتاجرة بالمهنة لحساب أي سلطة من السلطات بما في ذلك سلطة الرأي العام ذاته الذى كثيراً ما يغازله بعض الكتاب على حساب الحقيقة الموضوعية!.

فللأسف لم يشفع للعلامة مصطفى صفوان أنه قضى ما يقرب من ستين عاماً مع التحليل النفسي، أو أنه ترجم سفر فرويد الشهير "تفسير الأحلام" منذ ما يزيد عن أربعين سنة، ولم يفكر القائمون على المشاريع الثقافية العربية في إعادة نشر كتبه القليلة التي ترجمها باقتدار إلى العربية، ومنها "مقال في العبودية المختارة" وهو كتيب صغير الحجم، عظيم الفائدة!..هذه الحالة المؤسفة بالنسبة لما ترجمه تنطبق أيضاً على مؤلفاته التي يكتبها بالفرنسية والإنجليزية والتي تطبع في كبريات دور النشر الأوربية.

وهنا لا أنسي ما كتبته عنه الناقدة الفرنسية إليزابت رودينسكو في مقال لها عن صفوان في جريدة "لوموند"، حيث أدرجت فيه مصطفي صفوان في خانة علماء النفس العالميين المعاصرين الكبار، ومما قالته في شأنه: "على المستوى العيادي (الكلينيكي) قاد احتكام مصطفى صفوان المستقيم، إلى نقد التحولات التي طرأت على الأسرة، وبخاصة الزواج المثلي وأعمال الإنجاب المعتمدة طبياً. ولم يكن يتردد في التأكيد أن التحليل النفسي في المجتمع الغربي، يزمع على الإختفاء، وكذلك العقدة الأوديبية التي جعل منها مرتكزاً غير قابل للعزل، في الفكر الفرويدي". وأضافت: "في نهاية حياته، متشائماً ومشبعا بالمرارة... كان يخشى انحطاط المنظومة العائلية وإلغاء الرغبة الجنسية لمصلحة المقاربة الجنسية الصرفة للجنس الإنساني. ويبقى أن صفوان في تعليمه ورهافته التي تند عنه، وبموقفه الصارم جداً من الأصولية الإسلامية، تمكن من إحاطة نفسه بهالة فريدة في عالم التحليل النفسي العالمي".

ولد مصطفى صفوان في (17 مايو 1921 - 7 نوفمبر 2020)،، ونشأ في مصر خلال الانتداب البريطاني، وهو كما قلنا كاتب ومحلل نفسي مصري أقام بفرنسا، حيث تخرج من جامعة فاروق الأول (جامعة الإسكندرية حاليًا) ضمن الدفعة الأولى عام 1934، وكان من بين أساتذته الذين أثروا في تكوينه يوسف كرم ومصطفى زيور وأبو العلا عفيفي، أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف، والأخيران كانا أعمق تأثيراً، فقد وجهه الأول إلى قراءة فرويد، ولفت الثاني نظره إلى قضية اللغة والمجاز التي ظلت أساسية في تفكيره طوال حياته. وزاد من درجة انشغاله بها تأثير والده الأزهري المستنير، فضلاً عن إعجابه الكبير بلغة طه حسين وعبد القادر المازني، وما اكتسبه عبر نقاشات مجموعة المبدعين الذين أحاطوا به خلال فترة الشباب.

وفي أواخر الأربعينيات سافر صفوان إلى باريس لاستكمال دراسته العليا وارتبط آنداك بجاك لاكان وبعد عودته وعمله في الجامعة المصرية تعرض لموقف قد ييدو بسيطا جدا مع حرس الجامعة لكنه كان حاسما بالنسبة له لاتخاذ قرار الهجرة إلى فرنسا؛ وفي فرنسا تكون على يدي جاك لاكان، وأصبح من كبار مريديه وتلامذته، لأنه يقدر بقوة فرادة لاكان النّظريّة وفرادة تقنيته، ويدرك أهمّيّة "العودة إلي فرويد". شهد كلّ الانشقاقات التي اخترقت حركة التّحليل النّفسيّ بفرنسا بما في ذلك حل "المدرسة الفرويدية". وهو من الأعضاء المؤسسين "للجمعية التأسيسية للتحليل النفسي"، في عام 1983، ومن ثم "المؤسسة الأوروبية" للتحليل النفسيّ. وعضو شرفي لعدّة جمعيات تحليل نفسيّة.

وقد لمع اسمه بين زملائه حين أشار إليه الفيلسوف الفرنسي الشهير" غاستون باشلار" كـ"محلل نفسي شاب يستحق من الشهرة أكثر مما له"، ما سمح له بعد سنوات قليلة بالاستقلال والعمل بصورة منفردة. وفتحت دروس جاك لاكان أمامه المجال لتطوير اهتمامه باللغة والتمييز بين الرمزي والمتخيل؛ فكانت ممارسته للتحليل النفسي أقرب إلى حس عالم اللغة منه إلى السيكولوجي الدينامي.

وبعد أن بلغ ذروة نجاحه الأكاديمي عمل صفوان على اختبار مقولاته حول اللغة والحياة اليومية، وأظهر اهتماماً بتحليل الشخصيات الشكسبيرية، ثم ترجم مسرحية "عطيل" لشكسبير بطلب من تلميذه وصديقه حسين عبد القادر، ونشرتها مكتبة الأنجلو في مصر، لمواجهة الازدواجية اللغوية، واحتقار الناس للسانها الذي اعتبروه "أداة من أدوات السلطة لكسر الناس"، وأكد أنه "من دون تعليم اللغة العامية ستبقى الهوة بين الثقافة والشعب قائمة، وستبقى عملية الخلق الأدبي شوهاء؛ إذ إن اللغة الأدبية مختلفة، ولكنها ليست لغة ثانية" (حوار منشور بمجلة "كلمن"). ورسخ صفوان في مؤلفاته أهمية إيجاد أدب رفيع من اللغة العامية، وهي فكرة ظلت نخبوية ضعيفة التأثير، على الرغم من وجود شعراء لامعين، مثل فؤاد حداد وصلاح جاهين.

  وحول إسهامات مصطفي صفوان في مجال التأليف ؛ فقد صدر له العديد من الكتب، التي بدأ في نشرها في الخمسين من عمره ومنها: "الجنسانيّة الأنثويّة" (1976)، و"فشل مبدأ اللّذة" (1979) و"اللاّشعور وكاتبه" (1982)، و"الطّرح وشوق المحلّل" (1988)، و"دراسات في الأوديب" (1994)، و"الكلام أو الموت" (1999) و"ضيق في التّحليل النّفسيّ" (2000)، و"عشر محاضرات في التّحليل النّفسيّ" (2001) و"ندوات جاك لاكان" (2001) و"البنيوية في التحليل، "الكلام أو الموت ..اللغة بما هي نظام اجتماعي: دراسة تحليلية نفسية" (2003)، "أربعة دروس في التحليل النفسي " (2004)، "لماذا العرب ليسوا أحرارًا" (2007) وغيرها، إضافة إلى مساهماته في ترجمة المؤلفات الرئيسة لسيجموند فرويد، ومنها "التحليل النفسي وتفسير الأحلام"، وترجمة كتاب "العبودية المختارة" لبويسي، وكذلك ترجمة مسرحية "عطيل" إلى اللهجة المحكية المصرية، وكان الرئيس الفخري للمركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية في لبنان.

وفي أغلب تلك المؤلفات اشتبك مصطفي صفوان مع الأدب في دراساته وتحليلاته، ودعم الكتابة بالعامية المصرية، وقد ترجم بنفسه مسرحية عطيل إلى العربية، مستخدمًا العامية المصرية، وعن تلك الترجمة قال، في حوار سابق له، إننا نحتاج إلى حقبة طويلة يجري فيها تعليم اللغة العامية ونحوها والكتابة بها. فهو يرى أن الناس حتى الآن تحتقر لسانها ولا تعرف أن فيه نحواً وفيه قواعد، وهو ما ليس له مثيلا في العالم، ففي فرنسا مثلاً قواعد اللغة الفرنسية هي قواعد تلك اللغة التي يتكلمها الناس في الشارع، وهي استمرار وتبلور لانفصال العاميات في لغات تفرعت عن اللاتينية. وأضاف أنه من دون تعليم اللغة العامية ستبقى الهوة بين الثقافة والشعب قائمة وستبقى عملية الخلق الأدبي شوهاء. إذ اللغة الأدبية مختلفة ولكنها ليست لغة ثانية، فهي خلق لكنْ خلق باللغة التي تعلم الشعب قواعدها.

وأكد صفوان أن هناك أدباً عربياً يمكن للتحليل النفسي استخدامه كمادة له، وذكر في ذلك السياق ثلاثية رضوى عاشور "غرناطة" عن آخر أيام العرب في الاندلس وهجرتهم منها. ورأى أنها قوية بدسامة الثقافة المستندة إليها وقدرتها على إحياء عصر بأسره، فكأنك تعيش في شوارع غرناطة، والطاقة المبذولة في تخيل مأساويات أشخاص الثلاثية عميقة. وربما لو لم تكن الرواية باللغة العربية لحازت على ترجمات أكثر ورواج أكبر.

كما أكد صفوان أيضاً أن هذا لا يعود إلى رغبة الكتّاب الذين يفضلون بلا ريب أن يكون عدد قارئيهم مضاعفاً عشرات المرات، بقدر ما يعود الى إشكاليات النظام التعليمي من أساسه، ذاك الذي يحاصرهم بالكتابة لطبقة متوسطة وبالأحرى لقسم منها، لأن غالبها يفضل القراءات السهلة لما يمكن تشبيهه بالأكثر مبيعاً.. والحال أن اللغة العربية تسمح بخلق أدب لا يقلّ قوة عن الآداب بأية لغة، ولكنه محكوم بالقطيعة بين الفكر والثقافة وبين الغالبية العظمى من الناس بسبب التعليم بلغة لا يتكلمها الناس في حياتهم اليومية، بخلاف اللغات العالمية الأخرى".

ومن كتبه المهمة والتي أعجبتني كتابه " نحو عالم عربى مختلف"؛ حيث قدم صفوان الشاعر العربى الكببير أدونيس للكتاب فقال: عندما نُحلِّل اليوم الحالة التى تمر فيها شعوب "الإسلام العربى"، فمن المُمكِن أن نقول إنّ هذه الشعوب موجودةٌ، سياسيًا، بغيرها لا بذاتها... ووجودُ هذه الشعوب بغيرها لا بذاتِها، إنّما هو نوعٌ من الغياب. وهى عمليًّا، ليست حاضرة على خريطة العالَم بإبداعاتها العلميّة والفكريّة، أو بمنجزاتها التقنيّة. وليست شريكةً فى التخطيط، على أى مستوى، لمستقبل البشريّة. إنّ حضورَها وظيفى تقوده الهيمنة الخارجيّة. فهى تابعةٌ لهذه الهيمنة، تبعيّةً ألغت حرّيّاتها، وشّوَّهت كينونتَها... إنّها تعيش خارج الحداثة الكونيّة، على الرّغم من أنّها مُسْتَهلكةٌ أولى لجميع منجزاتها وبخاصّةٍ التقنيّة. ومنذ السنة 2003 تعيش هذه الشعوب فى حالةٍ قد لا يكون لها مثيلٌ فى تاريخ الإنسان: اقتتال يلتهم فيه بعضها بعضًا، انهيارًا وتفكيكاً وتمزُّقاً، وبطرق وحشية، فرديّة وجماعيّة، تُجبِر الباحث على إعادة النظر فى معنى الإنسان ومعنى الثقافة، ومعنى الحياة فى هذه المنطقة من العالَم.

وفي كتابه " أربعة دروس فى التحليل النفسى"، وجدناه يناقش التناقضات النظرية والتطبيقية للنظرية الكلاسيكية فى التحليل النفسى التى وضعها فرويد، ثم تفنيد لاكان لهذه التناقضات وحل المشكلات التى أثرت على حركة تطور التحليل النفسى بشكله الكلاسيكى. ويقف مفسرًا بزوغ الأب الرمزى وتأثيره على مفهوم علم الاجتماع معربًا عن موضوعات فلسفية جد عميقة، تتعلق بأصل الرغبة والوعى الإنسانى.

وأما في كتابه " لماذا العرب ليسوا أحرارا"، كشف صفوان عن بُنى الاستبداد حيث حلّل آلياته التى وطّدت أركانه، ليس سياسياً فقط، وإنما اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ومن أبرز مقوّمات بنى الاستبداد التى يعالجها صفوان في هذا الكتاب، العلاقة ما بين اللغة والكتابة، وسلطات الاستبداد، وكذلك ما يمكن أن نطلق عليه تسمية اللاوعى الثقافي، على غرار اللاوعى الفردي، والذى يرسّخ علاقة الاستبداد ما بين الحاكم والشعب.

وعقب انتفاضات الربيع العربي أبدى صفوان انحيازاً إلى تحركات الجماهير العربية، غير أنه تحفظ في وصفها بالثورات، لافتاً إلى أنها مجرد "انتفاضات". وفي كتابه "لماذا العرب ليسوا أحراراً"، الذي صدرت ترجمته العربية عن دار الساقي، أظهر متابعة لافتة لهذا الحراك، ولفت إلى أن العالم العربي استورد مفاهيم الديمقراطية والتمثيل والحرية، وما زال يرفع شعاراتها من دون بذل الجهد الكافي لتحديد دلالاتها وحدودها. وقال: "التغيير بحاجة إلى ما هو أبعد من التغيير السياسي، أو الغرق في عبارات مثل: "الشعب يريد".

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول رحم الله الدكتور مصطفي صفوان، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

فتحية مني طيبة للدكتور مصطفي صفوان، الذي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للفيلسوف المرتدياً عباءة عالم التحليل النفسي..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

...........................

1- أحمد إبراهيم الشريف: مصطفى صفوان عالم نفس مصرى .. تعرف على كتبه (مقال)..

2- أميرة دكروري: وفاة الدكتور مصطفى صفوان.. (مقال).

3- سيد محمود: رحيل المفكر المصري الفرنسي مصطفى صفوان أحد رواد علم النفس في العالم.. (مقال).

 

 

في المثقف اليوم