شهادات ومذكرات

هدي الخولي.. أيقونة الفلسفة اليونانية

محمود محمد عليفي حياة الأمم والشعوب أفراداً يتميزون عن غيرهم بحيوية الفعل، وبالقدرة علي التضحية، وقد عرفت مصرنا الحبيبة نماذج رائعة من هذا النوع من النساء اللاتي شكلوا طلائع الإحساس العميق بضرورة التغيير، وتمتعوا بقدرة كبيرة علي الاستنارة، وكانت الأستاذة الدكتورة هدي الخولي (أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب – جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية) واحدة من هؤلاء وبداية للطلائع القليلة الواعية التي هاجرت من الوطن إلي اليونان لطلب العلم، وأدركت – منذ وقت مبكر – الفارق الهائل الذي يفصل مصر عن العالم، واكتشفت حالة السبات التاريخي الذي عاشت تحت تأثيرها أجيال متعاقبة من المصريين، معتقدة أن الذي تلاقيه من عناء وتخلف إنما هو الوضع الطبيعي لكل البشر .

وهدي الخولي (مع حفظ الألقاب) من جيلي حيث درسنا معاً بالسنة التمهيدية للماجستير في عام 1989م بكلية الآداب – جامعة القاهرة، وكانت آنذاك معيدة بقسم الفلسفة، ثم بعد ذلك استكملت دراستها العليا في اليونان، حيث حصلت على درجة الدكتوراه في الفلسفة اليونانية من جامعة أثينا، ثم عملت في بعض الجامعات اليونانية مدرسةً للفلسفة؛ وبعد ذلك عادت إلى جامعة القاهرة، وهي الآن أستاذ للفلسفة اليونانية ورئيس قسم الفلسفة بالجامعة الأم وهي جامعة القاهرة ؛ حيث كانت مناطق تخصصها هي الفلسفة اليونانية بفروعها الهيلينية والهلنستية، كما شاركت في عضوية عدد من الجمعيات الفلسفية الدولية نذكر منها: الجمعية الفلسفية البريطانية British Philosophical Association (BPA)  وجمعيه بريطانيا للاهوت والفلسفة Center of Theology and Philosophy University of Nottingham  والجمعية الفلسفية اليونانية، وقد انتخبت هدي الخولي مؤخرًا عضوًا كاملاً بالأكاديمية الدولية للفلسفة بباريس، وكانت أول عضو مصري منذ تأسيس الأكاديمية 1937 Membre titulaires d'Institut International de Philosophie.

ولهدي الخولي دراسات متخصصة منشورة باليونانية والإنجليزية والفرنسية إلى جانب مؤلفاتها باللغة العربية، حيث نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : جدل الثابت والمتغير في الفلسفة اليونانية 2014، والفلسفة كعلم دراسة الموت 2014، وفلسفة التعليم 2015، ومقدمة في الفلسفة الهلنستية والرومانية 2015، وهلم جرا.

وفي تلك الكتابات نجحت هدي الخولي في خلق لغة خاصة بها للتعبير عن دقائق أفكارها ومنعرجات مسائلها ومسافات حلولها بعبارات شفافة رقراقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصطلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي ؛ ولقد استطاعت هدي الخولي أن تكتب بلغة فلسفية متصالحة مع ذاتها ومع واقعها التاريخي ؛ لغة منسجمة رقراقة قوية مبتكرة بعيدة عن الانغلاق، ولكنها لا تفرط عن مقتضيات الصناعة الفلسفية، وقد تخلت كتابتها عن الطابع الدعوي وسلكت مسلك الاستنباط السلس والجدل السيال. ليس هذا فقد برهنت هدي الخولي في تلك الكتابات علي أن تمتلك قدرة كبيرة علي توليد الأفكار وربطها وانتقادها وتحويل أي موضوع في مجري الحياة العادية إلي موضوع فلسفي عميق.

وحول الرؤية الفلسفية لهدي الخولي فنجدها تؤكد أن الإنسان في البداية بدأ يفكر تفكير أسطوري، وهي مجموعة من الروايات التي تعبر عن المعتقدات وطقوس الشعوب المختلفة، ليس فقط أساطير يونانية، حيث أن هناك أساطير شرقية، فالأسطورة تُعد مرحلة اساسية للفكر الانساني وبداياته. وتابعت: "كل ما فعلته الفلسفة هي محاولة الخروج من التفكير المنطق المتعارف عليه الهوية وعدم التناقض إلى فكر أكثر انضباطًا ومنطقية، وتكمن الاسطورة في خلفية افلاطون الذي نسج الأسطورة بمهارة بارعة داخل العصر الكلاسيكي والذهبي للفلسفة، وبذلك هناك تطور طبيعي للأسطورة، فالفلسفة الطور الثاني بعد طور الأسطورة، ثم بعد ذلك الطور العلمي المجرد".

وحول رؤيتها في فلسفة طاليس ؛ فنجدها تقول : بينما كان طاليس وغيره من فلاسفة ميليتوس يبحثون عن أصل الأشياء جميعها في المادة، كان فيثاغورث يبحث عنه في الشكل. شعر فيثاغورث أن الجوانب الأساسية الخالدة لأي شيء هي العلاقات العددية القائمة بين أجزائه، وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما قال بأن الصحة نفسها علاقة رياضية ونسب بين أجزاء الجسم أو عناصره؛ وأن النفس هي الأخرى عدد. واكتشف فيثاغورث ما في الموسيقى من علاقات ونتائج عددية متتالية منتظمة، وافترض وجود هذه العلاقات والنتائج المتتالية في الكواكب نفسها، بعد كل ما تقدم قفز قفزة الفلاسفة نحو الوحدة، وأعلن أن هذه العلاقات والنتائج المتتالية العددية المنتظمة توجد في كل مكان، وأن العامل الجوهري الأساسي في كل شيء هو العدد.

وأما فيما يخص موقف هدي الخولي من فلسفة هيرقليطس؛ فنجدها تؤكد أن هرقليطس اشتهر بالغموض، فلُقِبَ بالفيلسوف المظلم. والسبب في ذلك أنه كان يعبر عن آرائه الفلسفية بلغة مجازية رمزية. ومن هنا لُقب بلقب (صاحب الألغاز) ويقول عنه أفلوطين: (كان يتكلم بالتشبيهات، ولا ينشغل بإيضاح مقصوده، ربما لأنه كان من رأيه، أن علينا أن نبحث داخل نفوسنا كما بحث هو بنجاح) [...] يمكننا القول بأن مبدأ الوحدة والنظام متمثلاً في العدد مع الفلسفة الفيثاغورثية؛ قد استبدل بالصراع عند هرقليطس. ولكن هل هناك سبيل للوصول إلى الوحدة في الفلسفة الهرقليطية؟ والإجابة هي نعم؛ فلسفة هرقليطس ترى في التناقض والصراع الطريق الوحيد إلى الهارمونية، بل إن هرقليطس يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما يرى أن تصورنا لتناقض طرفين ما أو صراعهما هو تصور مغلوط؛ فكل من الطرفين يحمل داخله شيئاً من نقيضه، والصراع الظاهر لنا ما هو إلا وحدة للمتناقضات. ويمكنك فهم تصور الفيلسوف عن وحدة المتناقضات؛ إذا نظرت إلى مفهوم الموت نفسه؛ فالحياة والموت هما مرادفان لنفس المعنى: الإنسان يعيش في كل لحظة موته ويقترب نحوه، فكل دقيقة تمر تموت في الحقيقة. نحن نعيش موتنا إذاً، ومن الخطأ أن نتصور أن الموت والحياة هما شيئان مختلفان؛ في الحقيقة هما وجهان لنفس العملة. اللوغوس وحده هو السبيل لفهم الصراع والوصول إلى الهارمونية ووحدة المتناقضات [...] يمكنك تحديد مفهوم اللوغوس وفقا للمصطلحات العلمية الحديثة بمصطلح (القوانين الطبيعية) فطبيعة كل شيء تحمل داخلها نقيضها (الصراع) الذي يتسبب في الحركة والتغير.

وإذا ما انتقلنا لموقفها من فلسفة "ذيمقريطس" فتقول وفقا لفلسفته فإن الذرات ليست المكون الأساسي للمواد فقط  ولكنها تشكل أيضاً خصائص النفس الإنسانية. إن النظرية اليونانية عن الذرة لها مدلول تاريخي وفلسفي بالغ الأهمية، وبالرغم من عدم دقتها - لأنها لم تقم على أساس القياس أو الاختبار أو التجربة - فإنها معجزة عندما تؤخذ بعين الاعتبار عصرها وإمكانياته! [..] وفقا للنظرية ذاتها الزمان والمكان أبديان، أي فكرة الخلق غائبة هنا تماما؛ وليس هناك أي فعل من أفعال الخلق انتقل بالكون من العدم إلى حيز الوجود. فالكون إذا وفقا لذيمقريطس لا يخدم أي غاية ولكنه مصادفة بحتة. وبالطبع لاقت النظرية الذرية صداما مع النظرية الدينية وجميع النظريات الغائية.

وفيما يتعلق بالمدرسة السوفسطائية فتؤكد هدي الخولي علي أن تلك المدرسة أعطت أهمية كبيرة لدراسة الواقع وأدخلت النزعة التشكيكية إلى الفكر اليوناني؛ فأصبحت المعرفة والحقيقة والقيم مفاهيم نسبية، وتستند التعاليم السفسطائية بالدرجة الأولى على مبادئ الفلسفة الإيلية؛ فكل شيء في الوجود هو مجرد ظواهر خادعة. وفقاً لهذا الاعتقاد وصل أصحاب التيار السفسطائي إلى القول: بأن كل شيء هو مجرد خداع ووهم حتى فكرتنا عن الكون نفسه هي ظاهرية ومخادعة.

وحول تعاليم سقراط بجعلها الإنسان محوراً فتقول هدي الخولي :" ربما تلتقي مع تعاليم السفطائيين؛ ولكنها تختلف في المنهج؛ فسقراط لم يُنشيء مدرسة فلسفية، ولم يتنقل في المدن يُدَرَس الخطابة كما فعل السفسطائيون، ولم يتلق أجراً في مقابل تعاليمه الفلسفية. ولكن حياته كانت في أرجاء أثينا يتنقل فيها باحثاً عن الحقيقة التي كان يؤمن بوجودها داخل الأذهان؛ فكان دوره الوحيد هو إثارة الدهشة وتوليد الحقيقة من عقول الشباب، عن طريق التساؤل الدائم، في مقابل الذاتية والنسبية عند السفطائية أعلى سقراط من شأن القيم الأخلاقية".

ثم تستطرد هدي الخولي قائلة :" لجأ أفلاطون إلى توظيف الأسطورة في نصوصه بمهارة فائقة ليقدم نظاماً ما يصعب على المنطق تقديمه، نظاماً يشبه في بنيته النظام المنطقي، مع الأخذ في الاعتبار جميع الفوارق الأساسية بين النظامين. فأفلاطون يستخدم الميثولوجيا في محاوراته ولكن كوسيلة للاقتراب من الحقيقة، فوظيفة المثيولوجيا في الفلسفة الأفلاطونية أولاً وقبل كل شيء، خدمة البحث الفلسفي عندما تعجز اللغة بواسطة المنطق عن وصف الطريق إلى الحقيقة. دور المثيولوجيا إذاً هو ملء الفراغ المعرفي الناتج عن العجز العلمي. بالطبع لم يطلب أفلاطون من أتباعه أن يؤمنوا بقوله، ولكنه كان يدعوهم إلى تبني أسطورته في كل مرة، لأن في ذلك نجاة للإنسان واقتراباً من الحقيقة.

وعن موقف هدي الخولي من فلسفة أرسطو فتقول عنه بأنه يمثل :" فيلسوف طبيعي من الطراز الأول على حين كان أفلاطون فيلسوف الميتافيزيقا بجدارة؛ في تصوري إنّ أرسطو قد استخدم الميتافيزيقا ليكمل منظومته الطبيعية أما أفلاطون فقد استخدم الطبيعة لينتهي إلى الميتافيزيقا وعلى الرغم من رفض أرسطو للمثل الأفلاطونية فإنّ الفلسفة الأرسطية تبدو لي في مجملها مصلحة ومكملة للأفلاطونية وتبقى أهم إنجازات أفلاطون: فلسفته ككل والتي تمثل الحل الذي قدمه للمشكلة الموروثة من فلاسفة ما قبل سقراط (التغير والثبات أو الوحدة والكثرة) في قسمته للعالم إلى محسوس ومعقول نعيش الأول وأعيننا على الثاني؛ وكأنّه وضع بارمنيدس في السماء وهرقليطس في الأرض! أما أهم ما قدمه أرسطو للبشرية فهو وضعه قواعد للتفكير السليم الذي يجب أن تراعى كي يوصف التفكير بالتفكير المنضبط.. وأقصد علم المنطق أداةً للتفكير "الأورغانون" وما أشد حاجتنا اليوم لقراءة هذا العمل العظيم مرة أخرى!، وكأنّ أفلاطون يمثل الجدل الصاعد وأرسطو يمثل الجدل الهابط إذا أردنا استخدام مصطلحات أفلاطونية!

وإذا ما تساءلنا :إلى أي مدى لعبت المسيحية دورًا في الاختلاف القائم بين مدرسة أثينا مع بروقلس والإسكندرية مع أمونيوس إيرمياس في فهم أرسطو وأفلاطون وشرحهما؟

وتجيبنا هدي الخولي قائلة :" يقدم لنا أمونيوس إيرمياس (آخر فلاسفة مدرسة الإسكندرية وتلميذ بروقلس) أرسطو في كتاب كامل يوضح فيه أنّ أرسطو كان يؤمن بالمثل الأفلاطونية وأنّه وصل إلى نتيجة مفادها أنّ الله علة فاعلة لوجود العالم ويستخدم أمونيوس حجج الفيلسوف بروقلس لبيان ذلك وتأكيده!

ثم تؤكد بأن مدرسة الإسكندرية المتأخرة قدمت تصورًا مختلف – عن تصور أرسطو نفسه- للمحرك الأول فكان عندهم يمثل الخير والعقل معًا في محاولة للتوفيق بين الخير الأفلاطوني والعقل الأرسطي. والحقيقة أنّ الشروح المتأخرة لأرسطو في مدرسة الإسكندرية كانت تبتعد كل البعد عن الفلسفة الأرسطية الأصلية كما أرادها المعلم الأول؛ في محاولة منها لتقريب المسافة بين أرسطو وبين المسيحية؛ أما مدرسة أثينا فربما كانت أكثر اتساقًا مع الميراث اليوناني القديم! فأرسطو كما نعرف وضع مفهوم المحرك الأول ليكمل منظومته الطبيعية... المحرك الأول عند أرسطو في الحقيقة يظهر بمثابة قانون طبيعي ليفسر به الحركة ولم يكن مفهومًا ثيولوجيًّا بأي حال من الأحوال. لك أن تتصور إذا الصورة التي وصلت بها الفلسفة الأرسطية إلى العرب!

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور هدي الخولي بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكرة مبدعة في التاريخ، ونموذج متفرد لأستاذه جامعية نذرت حياتها بطولها وعرضها لخدمة الوطن الغالي مصر، وأثرت حياتنا الفكرية بكل ما قدمته من جهود.

تحيةً مني لهدي الخولي التي لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في هدي الخولي قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين" (كما قال أستاذي عاطف العراقي)، وأمد الله لنا في عمرها قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاها الله لنا إنسانة نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منها عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم