شهادات ومذكرات

شهادة المفكر حسن حنفي في حق فؤاد زكريا

محمود محمد عليفي الأسبوع الماضي نشر أستاذنا الدكتور حسن حنفي علي صفحته علي الفيسبوك، مقالاً مطولاً بعنوان "صديق نصف العمر "فؤاد زكريا"- ونظراً لأن شهادة الدكتور حسن حنفي، ليست بشهادة عادية ؛ فقد رأيت أنه من الواجب نشر هذه الشهادة للقارئ العربي في الشرق والغرب .

يقول الدكتور حسن حنفي:"  كان فؤاد زكريا أقرب الناس إلىّ فى النصف الأول من العمر، عقلانيا تقدميا ناقدا للأوضاع القائمة. أرادنى زميلاً له كما أرادنى عبد الرحمن بدوى فى جامعة عين شمس، وأرادنى على سامى النشار بالإسكندرية، ولكن ذكرياتى فى جامعة القاهرة جعلتنى أنتظر عاما، حتى يتم تدبير الدرجة المالية التى أعين عليها. وبعد أن حدث ذلك زاملته منتدبا على مدى خمس سنوات قبل أن يغادر إلى الكويت. وكنت أراه هناك فى المؤتمرات الفلسفية أو فى أجازات الصيف بالقاهرة. ونتراسل بالبريد 1971-1975 وأنا بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم وأنا بالمغرب فى 1982-1984، وتقابلنا فى ندوات الجمعية الفلسفية العربية بعمان. ثم انقطعت علاقاتنا إلا فى فترات متقطعة، مساندته ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة التى هددته، تأبين أحد الزملاء الراحلين أو محاولة بعض الأصدقاء الجمع بيننا. فهو صديق نصف العمر علنا، والنصف الآخر صمتا".

ثم يعلن الدكتور حسن حنفي ليست فيقول " أثر فؤاد زكريا فى الحياة الثقافية المصرية فى أربعة اتجاهات: الأول الترجمة. وقد ساعده على ذلك عمله مترجما بالأمم المتحدة بنيويورك عدة سنوات. ترجم الكتب العلمية مثل "مبادئ الفلسفية العلمية" لريشنباخ، ومراجعته لترجمتى "رسالة فى اللاهوت والسياسة" لسبينوزا. هو صاحب أسلوب فى الترجمة وكأنها تأليف، بعيدا عن الترجمة الحرفية. كان يضع إحدى عينيه على العبارة الإنجليزية ويخرجها بالعين الأخرى عبارة عربية بعد المرور على الذهن فتتحول إلى معنى. منه تعلمت الترجمة بعد أن وقعت فى مطلع الشباب فى الترجمة الحرفية. عرفت فى هذه الفترة كيف تتحول الزمالة إلى صداقة، والوظيفة إلى رسالة. كان يدافع عنى عندما يسمع نقد الزملاء لى بلباسى المتعثر، وربطة العنق التى عليها بقع الطعام، والحذاء غير اللامع بأن وراء ذلك كله "مخ" نظيف. أول من عرّفته بخطيبتى عام 1969، ودعوته إلى عرسى عام 1970. كان نموذجا للأخ والصديق والشريك فى "هموم الفكر والوطن. والثانى العقلانية والدفاع عنها، مثال ذلك "فلسفة اسبينوزا". وكان أول مصدر أطلع فيه المثقفون العرب على فلسفة اسبينوزا قبل ترجمتى "رسالة فى اللاهوت والسياسة". كتاب واضح بفصوله المرتبة عن حياته وأعماله وكتابه "الأخلاق" الذى يعرض فيه نظريته فى التوحيد بين الله، الطبيعة الطابعة، والعالم، الطبيعة المطبوعة. ومن خلاله عرف العرب كيفية التجرؤ على نقد المعجزات وأنها تنشأ من الجهل بقوانين الطبيعة والعجز عن التأثير فيها، فى ثقافة المعجزة فيها دليل على النبوة وعلى فعل خوارق العادات. وأبرز أهمية الفصل الأخير للرسالة "مواطن حر فى جمهورية حرة" دفاعا عن حرية الفرد وديموقراطية الحكم. يكفى عنوانها الفرعى "فى أن حرية الفكر ليست خطرا على التقوى ولا على سلامة الدولة بل إن القضاء على حرية الفكر فيه تهديد للتقوى ولسلامة الدولة"... والثالث نيتشه والفلسفة الوجودية الملتحمة بفلسفة القوة. فالحياة دراما مثل العمل الفنى. وهو أثر من آثار أستاذه عبد الرحمن بدوى عضو مصر الفتاة والذى كان أول من عرّف المصريين والعرب بنيتشه واشبنجلر وكبار الفلاسفة الألمان وهو مازال فى العشرينيات. وكان سلامة موسى قد عرض فى أوائل القرن الماضى "السوبرمان". وكتب صفحات قليلة عنه فى "هؤلاء علمونى" مع سبعة وعشرين من الفلاسفة الأوروبيين الآخرين ليس منهم فيلسوفا عربيا واحدا أو غير أوروبى إلا غاندى. وتتضمن العقلانية الاتجاه النقدي. فالوظيفة الرئيسية للعقل ليس التبرير لما هو قائم بل نقده من أجل تطويره إلى ما هو أفضل. فالاتجاه النقدي نتيجة طبيعية للعقلانية. وتتجلى العقلانية فى نقد الخطاب الدينى ومقولاته اللاعقلانية مثل المعجزات. وقد التصق هذا الاتجاه بالغرب الحديث. فى حين أنه تيار أصيل فى تراثنا القديم، الكلامى الاعتزالى، والفقهى الحنفى، والأصولى الاستدلالى. ولما انزوت هذه العلوم طغت العلوم النقلية الخالصة التى تعتمد على سلطة النص، الأشعرية التى ورثتها السلفية التى تعتمد الآن على حجة القول، "قال الله"، "قال الرسول"، ومن ثم "قال السلطان"...والرابع علم الجمال وفلسفة الفن خاصة الموسيقى الكلاسيكية التى كان كثير الاستماع إليها وتحليلها. وبين الفلسفة والموسيقى أواشج قربى منذ أفلاطون والفارابى وهيجل وفاجنر. وخرج أولاده فى تيارين: تيار العلم، الطب، وتيار الفن، الموسيقى. فالموسيقى هى وسيلة الاتصال بالعالم، نغم الطبيعة المتفق مع نغم النفس. وهو تيار إخوان الصفا فى "رسالة الموسيقى". فالتناسب أو التناغم أو التآلف أساس الكون. هناك النغم الرياضى فى الأعداد فى الحساب، والطول والعرض والعمق، والتوازى والتقاطع والزوايا فى الهندسة. وضم الحساب والهندسى فى حساب المخروطات. والفلك يخضع لقانون نغم الكواكب والنجوم. والجسم يخضع لقانون نغم العضو وتآلفه. وما المرض إلا اختلال هذا التناسب. والتفاعل الكيميائى يقوم على التناسب بين العناصر. فما يحدث فى الطبيعة يحدث فى النفس. هو تيار فيثاغورس وأفلاطون وإخوان الصفا والفارابى من القدماء.

ثم يقول الدكتور حسن حنفي ليست:" وأثره الأوسع هو توصيل الفلسفة للآخرين على حساب إبداعه الفلسفى الخاص. ويتمثل ذلك فى رئاسة تحرير "الفكر المعاصر" بعد رحيل زكى نجيب محمود. وكان بافتتاحيته يحدد معالمها، العقلانية والتقدم والفكر العلمى والعلمانية. وظل فى رئاستها حتى توقفت وغادر إلى الكويت حيث استأنف نشاطه الفلسفى من خلال تأسيسه للكتاب الشهرى "عالم المعرفة". وظل مستشار السلسلة حتى بعد أن غادر الكويت وحتى مرضه الأخير. وقد أصبحت دائرة معارف متنقلة مترجمة ومؤلفة على مستوى رفيع من التحليل والإخراج والتقديم بحيث تحولت الكويت إلى منارة للثقافة كما كانت مصر فى الستينيات مع "العربى" الشهرية و"عالم الفكر" الفصلية. وهو ما استأنفه المشروع القومى للترجمة فى مصر، مقتصرا على الترجمة دون التأليف. وكانت العلاقات الشخصية بالصداقة أو العداوة تتدخل أحيانا فى قرارات ما ينشر وما لا ينشر مما دفع البعض إلى التقرب إليه لنيل الحظوة. كان يقبل الحوار، الرأى والرأى الآخر إذا وجد ما يستحق. فعندما كتبت "موقفنا من التراث الغربى" فى يناير 1971 أحدد فيه معالم علم الاستغراب رد عليه فى نفس العدد بمقال "دفاع عن الثقافة العالمية". فى حين أنه فى ندوة المجلس الأعلى للثقافة عن الكتاب "مقدمة فى علم الاستغراب" أتى مهاجما إياه مبينا استحالته، لم يكن من المناقشين ولكنه حضر خصيصا وتكلم من القاعة مع الحضور."

كما رأس فؤاد زكريا كما يقول الدكتور حسن حنفي ليست بعد عودته من الكويت "لجنة الفلسفة" بالمجلس الأعلى للثقافة. أسر البعض وأغضب البعض نظرا لأن فى مصر أحيانا تطغى العلاقات الشخصية على الأحكام الموضوعية خاصة فى الترشيح للجوائز. وغضب عندما خلفه محمود أمين العالم مقررا للجنة. وقاطعها. فالرئاسة مدى الحياة ليست فقط رغبة سياسية عند الرؤساء بل أيضا عند رؤساء المؤسسات. فالرئاسة فى حد ذاتها قيمة. وفى تحقيقها سلطة.

كان فؤاد زكريا لا يريد أن يربط نفسه كما يقول الدكتور حسن حنفي ليست بتيار سياسى معين حتى لا يُحسب على أحد. فلما مات عبد الناصر فى سبتمبر 1970 طلب منى أن أكتب افتتاحية عدد نوفمبر لأن أكتوبر قد طُبع لكى أقول ما يقال عادة فى مثل هذه المناسبات، تعظيما وتفخيما ومدحا. وأن مصر والأمة العربية قد خسرتا قائدها وزعيمها. فرفضت وآثرت كتابة "الشعب ومؤسساته" وهما ما يملآن الفراغ. فرفض نشره. وطلب من د. عبد الغفار مكاوى أن يكتب الافتتاحية بدلا عنه ففعل بطيبته ودماثته. وخرج العدد متلحفا بالسواد. فلم يشأ أن يحسب على الناصريين بعد أن كان من بناة الناصرية الثقافية. ورد على هيكل فى "خريف الغضب" بكتاب "كم عمر الغضب؟.

ولما قوى ساعد الجماعات الإسلامية كما يقول الدكتور حسن حنفي ليست بعد أن أفرج عن أعضائها فى أوائل السبعينيات لاستعمالهم من أجل تصفية البلاد من الناصرية نظرا للعداء بين الثورة والإخوان منذ 1954، وتخلصت من رئيس الجمهورية الثانية فى 1981، وعادت العداوة بينهما من جديد، بدأ الفيلسوف الراحل فى الهجوم على الجماعات والثورة الإسلامية فى إيران واتهامها بما هو شانع، التخلف والعنف والدولة والدينية ونقد شعاراتها: الحاكمية لله، الإسلام هو الحل، الإسلام هو البديل، تطبيق الشريعة الإسلامية. فبدأت الجماعات تستهدفه كما فعلت مع المرحوم فرج فودة ومحمد سعيد العشماوى وباقى العلمانيين الجهوريين. وكتب "الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية" الذى ذاع صيته واعتبرنى بأننى منها، وأننى ممثل الإمام الخمينى فى مصر نظرا لتفكيرى المستمر فى الثورة الإسلامية وهو ما سميته من قبل "اليسار الإسلامى". وكان النظام السياسى يعاديها إلى أقصى حد. ويتهم كل من يتحدث عن الثورة الإسلامية بأنه من أنصارها. كان يبحث عن دور سياسى. وكان يظن أن مكانه الطبيعى بين الليبراليين، الوفد، لو أنهم قدروا زعامته التى تنقصهم. وكانت مقالاته فى "الأهرام" بين الحين والآخر تحاول أن تفسح مجالا لهذا الدور المفتقد.

وفى النصف الثانى من العمر 1984-2009 يقول الدكتور حسن حنفي ليست افترقنا لعدة أسباب:

الأول، مغادرته قسم الفلسفة بآداب عين شمس بعد أن كان عبد الرحمن بدوى قد غادر إلى إيران ومن إيران إلى باريس. فأصبح القسم بلا رائد. والأستاذية هى الريادة. ثم سحب كل أساتذة القسم الباقين بعده. بنى هناك وهدم هنا. ولما كان إغراء المال قويا لم يعد منهم أحد. ولم يفكر أحد فى قسم الفلسفة فى جامعة عين شمس فوقع فى أيدى المعيدين أو المدرسين المساعدين أو الأساتذة الموظفين الإداريين الذين لا يمثلون أى اتجاه. وإلى الآن انهدم القسم ولم تقم له قائمة بعد ذلك، يرأسه العميد لأنه لا وجود لأستاذ يوثق به. لم تعد للقسم قيم علمية فانحدر إلى بيع الكتب المقررة عن طريق أكشاك الجامعة أو يبيعها الأستاذ بنفسه عند فراش القسم أو داخل المدرج مع الاطمئنان أن كل الطلاب قد اشتروا الكتاب. وهو ما حدث فى قسم الفلسفة فى جامعة الإسكندرية أيضا عندما ذهب عبد اللطيف خليف إلى قطر ولم يعد. وكان كبير الأساتذة. ووقع الجيل التالى أيضا فى بيع المذكرات والكتب المقررة. وعُرف أحد الناشرين بذلك حتى أنه كان يدخل إلى العميد بلا استئذان أو موعد سابق. فسلطة المال تسبق سلطة العلم. غابت الريادة. وكان القسم قد بدأ بإرساء بعض المدارس الفكرية فى فلسفة العلم والفلسفة الإسلامية خاصة علم الكلام والتصوف.

أصبح أمل فؤاد زكريا الإعارة إلى الخارج وليس التأسيس فى الداخل، وفضل مصلحته الشخصية على المصلحة العامة. ومع ذلك، شارك فى تأسيس اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية فى عمان فى 1982 وكان أحد مفكريها المرموقين فى نداوتها.. والثانى ترك الوطن فى لحظة عصيبة، وهو ينهار من النهضة فى الخمسينيات والستينيات إلى السقوط فى السبعينيات والثمانينيات وذلك حسب قول الدكتور حسن حنفي.

كان فؤاد زكريا كما يقول الدكتور حسن حنفي :" من بناة النهضة بدعوته إلى العقلانية والعلم، ورئاسته تحرير "الفكر المعاصر". كان فؤاد زكريا من دعاة الناصرية، ومبادئها الثلاثة" الحرية والاشتراكية والوحدة. كان أحد ممثلى الجبهة التقدمية والتيار اليسارى ضد اليمين الرجعى. كان نجما بازغا فى السبعينيات قبل وفاة عبد الناصر فى سبتمبر 1970. صحيح أن فؤاد زكريا لم يأخذ حظه فى المناصب الجامعية أو الحزبية ولكن قلمه كان يكفى فى تجاوز كل المناصب. لم تنقصه الشجاعة فى أى موقف. فكان أول المتحدثين فى أى اجتماع أو منتدى. لم يكن من المداهنين المتملقين بل كان من النقاد الواعين. تحولت الفلسفة لديه إلى نقد اجتماعي مثل ماركوز الذى ترجم له "العقل والثورة". وكانت تطوف حوله مجموعة من الشبان الجدد، مفكرين ورواة وقصاصين وشعراء وفنانين. يفتح لهم بيته فى منتدى ثقافى غير رسمي. كان يشير إلى أحد طرق الخروج من الهزيمة، العقل والعلم. فالهزيمة لم تكن عسكرية فقط بل كانت اجتماعية وثقافية. والنصر لن يكون عسكريا فقط بل إذا تغيرت طرق التفكير وكيفية النظر إلى الواقع والبداية بإعادة بناء الإنسان.. والثالث ترك علمه. وانتبه إلى العمل الثقافى العام. وهذا لا يجُب ذاك. فالعلم هو المشروع الأساسي الذى عليه تتأسس النظرة للحياة وللكون. ترجمة "ريشنباخ" لا تكفى. ونقد الثقافة مجرد مقدمة. والإشكال هو كيف يمكن أن يُوظف نقد الثقافة لتأسيس العلم. على مدى خمس وعشرين عاما لم يكتب إلا كتابا واحدا فى تأسيس العلم بناء على نقد الثقافة هو "التفكير العلمي" والذى نشر فى سلسلة "عالم المعرفة" التى يديرها والذى بقى مستشارا لها حتى بعد مغادرته الكويت، فى نهاية المطاف، عائدا إلى مصر وهو فى حالة صحية سيئة لا تساعده على استئناف أى عمل، داخل الجامعة أو خارجها. بل إن مقالاته النقدية فى الثقافة العامة التى بدأ نشرها فى الأهرام لم تستمر. لم يعد قادرا على السير، ولا على النظر. وربما غيابه عن مصر على مدى أكثر من ربع قرن جعله يفقد الدافع الجديد الذى نشأ فيها. لم يشأ الكتابة من جديد حتى لا يكرر نفسه. فقد جمهوره وواقعه. ولم يعد قادرا على إعداد جمهور جديد أو واقع جديد. فانزوى على جسده. وانعكف على همومه الخاصة واهتماماته الشخصية، سماع الموسيقى.. والرابع، تفريطه فى الأصدقاء. فقد كان مثل المفكرين المغاربة، لا يطيقون إلا مفكرا واحدا فى سماء الفكر مع أنه فى الليل البهيم تستطيع السماء المظلمة أن تتسع لأكثر من نجم. فلا يوجد صديق حميم وإلا واختلف معه باستثناء المنافقين أصحاب المصالح والذين لم ينالوا منه شيئا. فقد كان على علم بهم. ووصل بأحد الأصدقاء إلى أنه أهداه كتابا له مصدّرا إياه بعبارة "الهوية فى الاختلاف". إذا وجد نجما بازغا كتب تقارير علمية ضده مثل ما كتب ضد "الطاغية" لإمام عبد الفتاح إمام، و"مقدمة فى علم الاستغراب" لى. ويوزع تقاريره على كل العارفين حتى لا يخلفه أحد كفيلسوف. ويهاجم ما يسمون أنفسهم أصحاب المشاريع. وهى كلها فى رأيه لا تتعدى مجلدات ضخمة، كم لا كيف. فلا أحد من أصحاب المشاريع العربية المعاصر يعد فيلسوفا حتى لا يبقى فى الساحة إلا هو. كان هو الوحيد صاحب الفرقة الناجية، والآخرون الفرق الضالة الهالكة. وكتب ضد صديق عمره "الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية (حسن حنفى)" زاعما أنه أصولى متخف، وأنه خمينى مصر فى وقت كان رئيس النظام فى مصر يحمل على الثورة الإسلامية فى إيران التى كان يدعمها عبد الناصر ضد الشاه، ويشوه الشعار الفارسى "الله أكبر الخمينى هردر" أى قائد أو زعيم إلى "الخمينى أكبر" أى أكبر من الله. ونصب نفسه مدافعا عن العلمانية الغربية التقليدية ضد الأصولية السلفية، لا فرق بين يمينها ويسارها. وهاجم الحركة الناصرية فى "عبد الناصر، ماله وما عليه" كى يفسح المجال لنفسه كزعيم أو قائد ضد الخطرين العظيمين، الناصريين والإسلاميين. أما الوفد، الليبرالية المصرية التقليدية، فهو فى حاجة إلى زعيم. وهو مستعد، ولكن أحدا لم يلتفت إليه. فهو فارس بلا ميدان، ومقاتل بلا مقاتلين، وزعيم بلا جمهور، فقد الدور فى الداخل بعد أن قضى ربع قرن أو يزيد فى الخارج. ولا يستطيع إنسان أن يجمع بين الثروة من الخارج، والوطنية من الداخل.

وكانت صورة العزاء كما يقول الدكتور حسن حنفي: " مثل صورة الحياة، جمهور قليل من المشتغلين بالفلسفة أو بشئون الثقافة فى الحياة العامة. وفى ذكراه خصصت "الجمعية الفلسفية المصرية" إحدى جلساتها الشهرية له. وتعد بعض المجلات الثقافية في الخليج ملفا حوله، بالإضافة إلى هذا الملف فى "أفكار". يظل فى الذهن وإن لم يستقر في القلب. لحقه آخرون فى العقل وفى القلب. والتاريخ، فى النهاية، هو الفيصل والحكم".

 

د. محمود محمد علي

قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم