شهادات ومذكرات

مصطفي النشار رائد التأريخ للفلسفة المصرية القديمة

محمود محمد عليأعرف الدكتور مصطفي النشار منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما عاد من إعارته بجامعة الإمارات العربية المتحدة، حيث التقيت به أكثر من مرة عندما كنت أزور الدكتور "محمد مهران رشوان" (أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بكلية الآداب – جامعة القاهرة)، وكان يتمتع بسبيكة رائعة من الصفات الطيبة، فهو هادئ الطبع، دمث الخلق، مجامل إلى أقصى الدرجات، يتميز بالأدب الجم، ولا يثور إلا لكرامته أو مصلحة وطنه، ولقد أصبح أبرز المفكرين في الدفاع عن الفلسفة المصرية، ولقد ربطتني به دائمًا صلات علمية قوية للغاية ؛ فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

والدكتور مصطفي النشار هو واحداً من كبار الرواد في دراسة فلسفة اليونانية بمصر والعالم العربي، وقد استطاع من خلال بحوثه ومؤلفاته أن ينقل البحث في فلسفة اليونانية من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

ولد الدكتور مصطفي النشار في الثلاثين من سبتمبر 1953م بقرية شوبر – مركز طنطا بمحافظة الغربية بجمهورية مصر العربية . تلقى تعليمه الإلزامي من الابتدائي حتى الثانوي بطنطا، ثم التحق وتخرج من كلية الآداب بجامعة القاهرة – قسم الفلسفة عام 1975 بتقدير عام ممتاز . حصل على درجة الماجستير في الفلسفة في موضوع بعنوان " فكرة الألوهية عند أفلاطون " بتقدير ممتاز عام 1980م،كما حصل على الدكتوراه في الفلسفة اليونانية عن نظرية العلم الأرسطية بمرتبة الشرف الأولى من نفس الجامعة عام 1985م

تدرج مصطفي النشار في سلك التدريس بجامعة القاهرة حتى حصل على الأستاذية عام 1997م، وعمل في ثنايا ذلك معاراً بجامعة الإمارات العربية المتحدة لمدة ست سنوات متصلة (1986-1994م)، وقد تولى بعد عودته للقاهرة العديد من المناصب الإدارية، حيث أصبح رائداً للنشاط الثقافي بالكلية ثم رائداً لاتحاد الطلاب ومشرفاً على الأنشطة الطلابية (1994- 2003م)، ورأس قسم الفلسفة لعدة سنوات بين عامي 2002 و 2014م، كما تولى عمادة كلية التربية – جامعة القاهرة ببنى سويف بين عامي 2002و2005م، ثم عمادة كلية العلوم الاجتماعية بجامعة 6 أكتوبر بين عامي 2005 و2007، ثم عمادة كلية رياض الأطفال لمدة أربع سنوات من 2007 حتى 2011م. وقد ترك بصمات مميزة في هذه الكليات التي تولى عمادتها.

وللدكتور مصطفى النشار أكثر من خمسين مؤلفاً علمياً في مجالات الفلسفة المختلفة وخاصة في الفلسفة اليونانية والفكر المصري القديم، وقد شغل في السنوات الأخيرة بقضايا الفكر المعاصر، وخاصة قضية العولمة والهوية الثقافية وقضية حوار الحضارات وقضايا التعليم والمواطنة والمشاركة السياسية والعلاج بالفلسفة . ومن أبرز اسهاماته الفكرية رد الفلسفة اليونانية إلى مصادرها الشرقية وتأكيده على الأصل المصري للفلسفة عموما والفلسفة اليونانية على وجه الخصوص وقد أعلن رؤيته لذلك منذ بحثه المعنون بـ "المعجزة اليونانية بين الحقيقة والخيال" وكتابيه "نحو تأريخ جديد للفلسفة القديمة" (1992) و"نحو تأريخ عربي للفلسفة" (1993) وقد طبق رؤيته الفكرية تلك في تأريخه للفلسفة اليونانية الذى صدر في خمس مجلدات تحت عنوان" تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي".

لقد كان مصطفي النشار مهتماً بدراسة الفلسفة المصرية بصرف النظر عن العصر الذي وجد فيه هؤلاء الفلاسفة، ففي كتابه " نحو رؤية جديدة للتأريخ الفلسفي باللغة العربية " طالب مصطفي النشار بإعادة النظر في موقفنا من تاريخ الفلسفة وبضرورة التخلص من المقولات الثابتة التي نرددها عن المؤرخين الغربيين والتي منها أن الفلسفة معجزة غربية سواء في نشأتها أو تطورها حتي العصر الحالي . ومنذ هذا التاريخ وجدنا مصطفي النشار يحاول بأبحاث شتي تطبيق ذلك علي نفسه وعلي دراساته، ففي مجال التأريخ للفلسفة القديمة أرخ وكتب عن فلاسفة عديدين من فلاسفة مصر والشرق القديم في عدة مؤلفات، وفي التأريخ للفلسفة اليونانية أرخ لها من منظور شرقي خاص وليس من المنظور الغربي التقليدي .

وفي مجال الاهتمام بتراثنا الفلسفي المصري الذي عشقه وتطلع إليه مصطفي النشار إلي اليوم والذي استطاع فيه أن يؤرخ له بكل عصوره وأعلامه، فقد كتب عن الفلسفة المصرية القديمة في كتابه " دراسات في الفلسفة المصرية واليونانية " وله عدة دراسات ؛ منها دراسة عن بتاح حوتب – رائد التفكير الأخلاقي، وأخري عن أخناتون – الملك الفيلسوف، وثالثة عن فلسفة الطبيعة وتفسير نشأة الوجود في مصر القديمة . كما كتب عنها في " المصادر الشرقية للفلسفة اليونانية"، وكتب عن الفكر السياسي والاجتماعي كتاب " الخطاب السياسي في مصر القديمة " . ثم فكر في إصدار سلسلة تعريفية عن أعلام هذا التراث الفلسفي عبر العصور فكتب منها ثلاثة أعلام هم : ذو النون المصري رائد التصوف الإسلامي، وعلي ابن رضوان، وزكي نجيب محمود . كما كتبت عن مدرسة الإسكندرية الفلسفية كتاب نشرته دار المعارف عام 1955م.

وهكذا كانت الكتابة عن أي مفكر مصري في أي عصر مسألة تثير اهتمام "مصطفي النشار" الشديد، حيث كان يترك أي شئ في يده ليهتم فوراً بهذا المفكر المصري (والذي يُكلف إلي الكتابة عنه من خلال تكليف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ) أو يستثير في شهية الكتابة عنه باستقلال عن أي طلب أو بعيد عن أي تكلف !

والسؤال الآن الذي نسأله لمصطفي النشار : هل هناك فلسفة مصرية ؟ وهل هناك فلاسفة مصريون؟

وهنا يجيبنا النشار فيقول : اعتقد اعتقاداً جازماً بأن أي أمة ظهرت علي وجهه الأرض بها فلاسفة، ويؤمن شعبها بفلسفة معينة. وليس صحيحاً بأي حال ذلك الاعتقاد بأن الفلسفة مقصورة علي الشعوب الغربية وحدها، وأن الغربيين وحدهم مبدعو الفلسفة ومبدعو العلم؛ فهذا خطأ شائع يجب التخلص منه لأنه قد طال وقوعنا في أسره، وطالت تبعيتنا لمن يرددونه من المؤرخين المتعصبين لكل ما هو غربي !!

ثم يؤكد مصطفي النشار أن الفكر العقلي كغيره من صنوف الإدراك قد وجد مع الإنسان علي ظهر الأرض، صحيح أن اهتمامات الإنسان الأول ربما تكون قد توقفت عند مواجهة تحديات الطبيعة والبيئة البكر التي وجد فيها وكان عليه أولا أن يتغلب عليها بعمله وكده وعرقه، وتوجيه كل فكره في هذه الناحية للسيطرة علي كل هذه الظروف المعاكسة وتحويلها إلي ظروف تلائم الحياة البشرية، إلا أنه سرعان ما تطورت اهتمامات الإنسان لتتحول من هذه النزعة العملية في التفكير إلي نزعة أكثر تجريداً حينما كان عليه أن يتساءل بعد أن خلد للراحة بعد عناء العمل اليدوي وبعد عناء التفكير في ضروريات الحياة البشرية، وأقول حينما كان عليه أن يتساءل عن جدوي الحياة والوجود إذا كان الإنسان مصيره الموت !! وإذا لم يكن للحياة الإنسانية والفعل الإنساني جدوي، فلماذا وجد الإنسان من الأصل؟! ومن أوجده؟! ولأي الغايات أوجده؟! وما هو مصيره؟!

وكان مصطفي النشار يرد بغلظة علي الذين ينكرون علي أبناء الحضارات الأخرى فعل التفلسف فيقول : أليست هذه أسئلة بديهية كان علي الإنسان أن يسألها؟! أليست إجاباته عليها أيا كان نوعها هي في واقع الأمر إجابة عقلية أتته بعد تأمل؟! وسواء أجابني هؤلاء المتعصبون أم لم يجيبوا فهذا لن يغير من الحقيقة البديهية أي شئ . وهذ الحقيقة هي أن هذه التساؤلات وما قدمه عليها أبناء الحضارات البشرية الأولي في التاريخ هي تساؤلات فلسفية، وكانت إجابتهم عليها هي من صميم عقولهم وتأملاتهم الأولي في الوجود. ومن ثم فعار علينا أن نصف فكرهم بالأسطوري والخرافي، إلي آخر هذه الأوصاف الغريبة. إن الأسطورة طالما كانت من صنع الإنسان فهي فكر وهي ناتج التأمل في طبيعة الحياة والوجود !! كل ما كانت من صنع الإنسان فهي فكر وهي ناتج التأمل في طبيعة الحية والوجود!! كل ما هناك أن ثمة ما يعجز العقل الإنساني عن تفسيره وخاصة في تلك الدايات الأولي لتفكيره في هذه الأمور، فكان عليه أن يبدع ما يجعله يتوافق مع هه الحياة حتي يمكنه مواصلة العمل والتقدم . فكان هذا النمط الذي ندعوه نمطاً أسطورياً من التفكير والحقيقة أنه لم يخلو عصر من عصور البشرية من صناع الأسطورة ومن من يستفيدون ومن من يستفيدون منها في شرح فكرة عقلية هنا أن هناك .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة يؤكد عليها مصطفي النشار وهي: أن التساؤلات عن أصل الوجود والحياة الإنسانية وعن مصير الإنسان؟! كانت هي التساؤلات التي طرحها العقل المصري علي نفسه حينما بدأ صنع أول حضارة إنسانية عرفها التاريخ، ومنها بدأت بذور الفلسفة المصرية القديمة التي تطورت ببطء عبر عشرات القرون وآلاف السنين . وكانت أولي الإجابات هي إجابة فلاسفة أون- هليوبوليس القديمة . أولئك الذين قدموا أول نظرية في نشأة الوجود وتفسير أصل العالم .

وتابع النشار بعد ذلك التفسيرات حيث يقول: قدم مفكرو مدينة الأشمونين نقدهم للتاسوع الذي رأي فيه فلاسفة أون أصل العالم وقدموا هم ما عرف بالثامون، وتطورت هذه التفسيرات بشكل مذهل علي يد فلاسفة منف في مصر القديمة، حيث نجح هؤلاء في ما يسميه المؤرخون " الأسطورة المنفية"، نجحوا في تقديم أول تفسير تصوري عقلي أمنوا فيه بقدرة الإله الخالق " بتاح" في أن يفكر في العالم والأشياء وينطق بلسانه فتوجد دونما حاجة للمواد والعناصر سواء التي قال بها أصحاب التاسوع أو أصحاب الثامون . ولقد نجح هؤلاء في أن يفكر في العالم والأشياء وينطق بلسانه فتوجد حاجة للمواد والعناصر سواء التي قال بها أصحاب التاسوع أو أصحاب الثمون . لقد نجح هؤلاء في أن يقدموا أول تفسير للخلق يقترب من التصورات الدينية الحقيقية، كما يقترب من تصورات أصحاب المذاهب الفلسفية الإيمانية الكبري في التاريخ الفلسفي . إن تصورهم لقدرة اللامحدود جعلهم يؤمنون بأن باستطاعته أن يقول لكل شئ كن فيكون!!

ثم يؤكد النشار قائلاً: ولكن يبدو أن العقل البشري كان لا يزال يعجز عن فهم هذا التصور المجرد المطلق، فعاد المصريون أنفسهم يفسرون النشأة بقدرة الإله وبوجود العناصر معا كما حدث عند فلاسفة " واست" القديمة ( الأقصر الحالية) . لقد أمنوا بالإله آمون وعادوا للإيمان بتعدد الآلهة وبأهمية العناصر الأولي للوجود.

ويستطرد النشار فيقول : لقد نجح فيلسوف – ملك هو أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد أن يخترق بتأملاته الفلسفية – الدينية الحاجز الصلد الذي بناه كهنة آمون وأتباعه في كل أنحاء مصر القديمة، وأن يصل مرة أخري الإيمان بإله واحد أحد مجرد هو "آتون" وأن يقضي بمساندة أتباع دعوته الجديدة في محو أي آثار للإيمان بتعدد الآلهة وبتماثيلها ومجسداتها في أنحاء مصر ليعيش هو وأتباع الديانة الأتونية عصرا من أزهي عصور التفكير العقلي المجرد في تاريخ الفكر الإنساني، إذ أن فكر هذا الملك الفيلسوف لم يقتصر علي مجال التجديد الديني فقط، بل امتد ليشمل تطور كل نواحي الحياة المصرية من آداب وفنون ولغة، إلي النظر إلي الملك علي أنه مجرد إنسان وليس إله كما كان يتصوره المصريون إلي ذلك الحين. وإن نسينا لا ننسي في الفكر الفلسفي المصري القديم الفكر الأخلاقي النابض بالحيوية والنضج فكر بتاح حوتب في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد الذي كان أصلا نهل منه وعاش عليه وطوره مفكرون مصريون آخرون أذكر منهم أمنموبي . وإن نسينا لا ننسي فكر أيبوور ونفرر وهو، تلكما الإصلاحيان الكبيران في حوالي الألفين قبل الميلاد حينما انتقدا صور الفساد التي انتشرت في البلاد في عصرهما وحلما بملك عادل جديد يخلص البلاد والعباد من الفساد ويعود بهما إلي " الماعت" "( العدالة والنظام). أولئك هم الفلاسفة الأوائل في تاريخ في تاريخ البشرية، وأولئك هم أول من فكر في أصل الوجود واصل العالم، أولئك أول من ابتداع التفكير في الأخلاق الإنسانية وما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان الأخلاقية والاجتماعية والسياسية . أولئك أول من ينبغي أن يبدأ بهم التأريخ الحقيقي الموضوعي للفلسفة . وباختصار ... أولئك هم أول جيل من أجيال الفلسفة المصرية التي لم تنقطع يوما في مصر وإن خبا ضوءه قليلاً في عصر ما من العصور فليس معني ذلك أنه مات!!

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الأستاذ الدكتور مصطفي النشار بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر فلسفي وعالم لغوي، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة المصرية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمه من جهود.

وتحيةً للدكتور مصطفي النشار الذي لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم