شهادات ومذكرات

الدكتور عبد السلام نوير.. المفكر السياسي والسياسي المفكر!

محمود محمد عليعلمتني التجارب من خلال اشتغالي بالفلسفة السياسية والجيوبوليتيكا، أن هناك فرق كبير بين المفكر السياسي والسياسي المفكر؛ فالأول هو أكاديمي لا تأتي معرفته في السياسة إلا من خلال الكتب حصرا، أي من خلال معرفة غيره في السياسة عبر عملية مراكمة كمية لنظريات سياسية، أو عبر الارتقاء من المعرفة الحسية لغيره النابعة من التجربة العملية إلى المعرفة الممنطقة من خلال الجهد العقلي.. أما الثاني، فهو الذي يتمتع بثقافة سياسية واسعة من خلال قراءة الكتب من ناحية، والذي، من ناحية أخرى، يتميز بممارسة بالعمل السياسي، تلك الممارسة التي تغنيه في فهم النظريات السياسية، وتسمح له في تطويرها، كما في ترشيد ممارسته للعمل السياسي، فينتج عن ذلك معرفة مضافة وتعميق لا متناهي لها... فهذا الثاني يحسن إدارة العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة.

والسياسيّون المفكّرون هم قلّة حتى في دول العالم أجمع، ولهذا السبب تقوم الدول المتقدّمة، بتقسيم المجال السياسي إلى قسمين: الأوّل إلى مفكّرين وأكاديميين يضعون أبحاثهم وتحليلاتهم وخلاصاتهم من خلال معاهد مختصّة ومراكز دراسات عملاقة.. أما القسم الثاني وهو القسم العملي فيُجيَّر إلى الذين يتميّزون بدينامية اجتماعية، وبقدرة فعّالة على الحراك السياسي والاجتماعي، حيث يقومون بتطبيق أبحاث المفكّرين على ميدان عملهم اليومي في السياسة بمفهومه الفرنسي (la politique et non le politique) وبهذا يكون التقسيم على هذا المستوى بمثابة "ابتكار"، و"صناعة" للسياسي المفكّر، ولكن على صعيد المؤسسات العليا لا على صعيد الأشخاص، وبرأيي هذا أكثر فاعليّة ومراعاة لمبدأ التقسيم في العمل الذي يطال هنا بالذات العمل السياسي بشكل عام بدل البحث عن هذا السياسي المفكّر الذي يندر وجوده بالإجمال.

ويعد الأستاذ الدكتور "عبد السلام على نوير" أستاذ العلوم السياسية وعميد كلية التجارة – جامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية، واحداً من هؤلاء الذين جمعوا في فكرهم بين المفكر السياسي والسياسي المفكر، فهو يمثل واحداً من الأساتذة الجامعيين العظماء الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفكر السياسي والعلوم السياسية من مجرد التعريف العام بهما، أو الحديث الخطابي عنهما – إلي مستوي دراستهما دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص السياسي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

و"عبد السلام نوير" (مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من أهم وأشهر النجوم الكبيرة المتلألئة في سماء العلوم السياسية خلال أكثر من نصف قرن، حيث يمثل لنا مفكراً أصيلاً وعالماً كبيراً في هذا التخصص الدقيق؛ لقد كان "عبد السلام نوير" يمتلك الكثير من عمق المعرفة السياسية وجدية الأدوات المنهجية، فهو يمثل صاحب مسيرة طويلة وممتدة في تاريخنا السياسي، فله أكثر من خمسين بحثاً علميا في علوم السياسة وباقي فروعها.

علاوة علي أنه يعد قامة، وقيمة علمية، وأخلاقية كبيرة، على المستوى العلمي، والمستوى الشخصي أيضاً، لأنه دائما ً كان يمد يد العون، لمن يعرف، ولمن لا يعرف صغيراً وكبيراً؛ كما يتميز بدماثة الخلق، وحسن المعاملة مع أصدقائه وزملائه فى العمل، وأنه كان يسعى دائماً إلى تحقيق هدف سامى ونبيل، وهو جبر الخواطر.

وقد كان "عبد السلام نوير" قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

ولقد شهد له زملاؤه ومعاصروه له بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثاً ومنقباً، محققاً ومدققاً، مخلفاً وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث العلمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

ولد "عبد السلام نوير" بمحافظة سوهاج- مركز طما في الحادي عشر من شهر سبتمبر لعام 1965م، وتدرج في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، حيث دخل كلية التجارة – قسم "العلوم السياسية" بجامعة القاهرة عام 1987م، "وذلك بتقدير عام جيد جداً مع مرتبة الشرف، ثم عُين باحث مساعد (معيد) بمركز دراسات وأبحاث التعليم العالي (يناير 1990م – نوفمبر 1991م)، ثم عُين باحث مساعد (معيد) بقسم الاتصال الجماهيري، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (يونيو 1994م – ديسمبر 1998م)، ثم اُختير خبيراً بقسم الاتصال الجماهيري، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (ديسمبر 1998م - 17 ديسمبر 2000م)، ثم عُين بعد ذلك مدرساً بقسم العلوم السياسية، كلية التجارة، جامعة أسيوط. (18ديسمبر 2000م - يوليو 2004م (، ثم استمر في الترقية بالعمل الإداري الأكاديمي إلي أن رُقي أستاذاً في ذات التخصص في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام 2009، وعقب ذلك تولي منصب رئيس قسم العلوم السياسية في عام 2011، ثم وكيلاً لشؤون التعليم والطلاب في عام 2015، ثم عميد كلية التجارة جامعة أسيوط (21 يناير 2015 حتى الآن).

لم يكن "عبد السلام نوير" منعزلاً داخل جدران الجامعة، بل كانت له مشاركات في كثير من الهيئات والجمعيات العلمية؛ فكان رئيساً لمجلس إدارة مركز الاستشارات بكلية التجارة بجامعة أسيوط، ثم رئيساً لمجلس إدارة مركز الدراسات والبحوث السياسية والاستراتيجية بكلية التجارة بجامعة أسيوط، ثم أميناً للجنة قطاع الدراسات السياسية والاقتصادية بالمجلس الأعلي للجامعات، وأعمال كثيرة أخري يطول شرحها..

وللدكتور "عبد السلام نوير" إسهامات كبيرة في العلوم السياسية، نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر من كتبه:  مكتبة الأسرة دراسة تحليلية، والمعلمون والسياسة في مصر، ونقابة المعلمين، وأصول العلوم السياسية (بالاشتراك)، ورؤية المواطنين الأفارقة للتكامل الإفريقي(بالاشتراك)، والإعلام والتنمية (محرراً مشاركاً) .

وأما في يتعلق بالأبحاث والدراسات فنذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر أيضاً: -أبعاد الموقف التركي من حرب الخليج، والعرب وقضية إرتيريا، وسياسية الجماعة الأوروبية تجاه المنطقة العربية في ضوء أزمة لوكيربي، والتبعية الإعلامية العربية: مظاهرها وأثارها، والسياسة التعليمية في مصر، والمنظمات غير الحكومية في مصر، والأبعاد السياسية للفقر (بالمشاركة)، والحرية السياسية في الإسلام (بالمشاركة)، والعمل العربي المشترك في مجال التعليم، والتعليم والثقافة، والمشاركة السياسية للمرأة في مصر، والتعليم والحراك الاجتماعي في مصر، والثقافة السياسية لطلاب الجامعات، وسكان العالم الإسلامي في القرن العشرين، والعولمة وسياسة التنمية البشرية في إفريقيا، والدور السياسي للشباب، والمشاركة السياسية للمرأة في مصر، والتطور الديمقراطي في مصر : الملاح والمؤشرات وآفاق المستقبل.. وهلم جرا ..

وفي تلك الكتابات والأبحاث لم يكتف "عبد السلام نوير" بالإلمام بمقتضيات البحث العلمي في مجال العلوم السياسية، أو ترسيخها في قلوب وعقول تلامذته، وكل من يستمعون إليه، بل أيضاً كان يتميز بأنه كان أكثر جرأة فى الرأي، ‏وشدة فى اقتحام القضايا‎ ‎الأكثر حساسية مثل قضية الثقافة السياسة، والتعليم والحراك الاجتماعي، والتطور الديمقراطي.. وأمور كثيرة أخري.

علاوة علي أنه كان له السبق في استبطان عقول من يشرف علي رسائلهم؛ بمعني أنه كان مقتنعاً تماماً بأن لكل باحث شخصيته وميوله، فمنهم من يميل إلي المنهج المسح، ومنهم من يميل إلي التحليل والتعمق، في حفر الأفكار والقضايا السياسية، فلم يحرم هؤلاء أو هؤلاء من ميولهم، ولكنه أضاف إليها، فحافظ علي شخصية تلامذته والقواعد العلمية في آنا واحد، مما يندر أن يتوفر عند أساتذة كثيرين..

وحتي لا يطول بنا الحديث الشيق والجميل عن "عبد السلام نوير"، لا أملك إلا أن أقول: تحيةً لـ"عبد السلام نوير"، ذلك الرجل الذي يمثل بالفعل قيمة سياسية وفكرية، ما جعل زملاءه وتلاميذه من السياسيين والكُتاب والأساتذة الجامعيين يعترفون له بريادته في تنوير العقول ومكافحة الجمود والتعصب.

وهنا أقول مرة أخري تحيةً مني لـ" عبد السلام نوير " الذي آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ، وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في "عبد السلام نوير" قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطننا، بهدف الكشف عن مثالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم