شهادات ومذكرات

محمد عبد الستار.. رائد الاتجاه الوظيفي لدراسة العمارة الإسلامية (2)

محمود محمد علي

في دراسة رائعة لأستاذنا الدكتور محمد عبد الستار، وهي بعنوان "البعد الوظيفي في دراسة الفنون التطبيقية الإسلامية – دراسة حالة لمسرجة متعددة الأغراض والقناديل الزجاجية المملوكية؛ أكد الدكتور عبد الستار بأن دراسات الآثار الإسلامية انطلقت في النصف الأول من القرن الماضي انطلاقة مؤسسـة على دراسة هذه الآثار في إطار بعدها الفني الزخرفي، وإبراز القيم الزخرفية الجماليـة لهـذه الآثار، ولم ينل البعد الوظيفي الاهتمام المطلوب، بالرغم من أنه الأساس في وجود الأثر نفسـه، حيث أن إنتاجه كان لتحقيق غرض نفعي في المقام الأول، وظل هذا التوجه البحثي غالباً فـي معظم الدراسات والبحوث التي ركزت على الجانب الزخرفي باعتبار أهميته كمؤشر أيضاً في تحديد تأريخ الأثر وربما توظيفه أيضاً بالرغم من تطور علم الآثار تطوراً كبيراً، أدى إلى اعتماد مؤشرات كثيرة أخرى تساعد على التأريخ وتحديد الإطار الجغرافي الذي أُنتج فيه هذا الأثر أو ذاك وبالرغم من أن المؤشر الزخرفي نسبي في اعتماده كمؤشر علمي في تحديد التأريخ أو الإطار الجغرافي ومن ثم يحتاج هذا المؤشر إلى مراجعة في عملية التأريخ وتحديد موطن التحفة الأثرية.

وانعكس هذا التوجه البحثي كما يقول الدكتور عبد الستار في دراسة اللقي الأثرية (الفنون التطبيقية الإسلامية) انعكاسا واضحا ومباشرا فنال البعد الزخرفي جل الاهتمام أيضا، وهذا يبدو نتيجة مباشرة لما ينتج من معرفة في إطار التوجه البحثي نحو الزخرفة ولم ينل البعد الوظيفي من الاهتمام سوى الإشارة إلى مسمى اللقية الأثرية، ولوحظ أن كثيرا من البحوث والدراسات في الآونـة الأخيرة لـم تستطع أن تحدد المسمى الصحيح الذي يعكس الوظيفة التي أُنتجت من أجلها اللقيـة الأثرية وتذكر مسمى آخر، بما لا يرتبط وظيفيا باللقية بالمرة، وربما يتماس معها، وهو ما أدى إلى التباس واضح في معرفة الغرض الوظيفي الأساسي الذي تؤديه اللقية الأثرية.

من هذه الدراسات على سبيل المثال كما يؤكد الدكتور عبد الستار ما أشار إلى الخيوان أو المنضدة على أنها "كرسي عشاء" ومنها ما أشار إلى "مسرجة هباب" على أنها "شمعدان" . فقد أشارت الدراسات لخيـوان الناصر محمد بن قلاوون المحفوظ بمتحف الفن الإسلامي علي أنه كرسي عشاء الناصر محمد بن قلاوون ، ولا نعرف سبب أو مصدر هذه التسمية "كرسي"، ولا تحديد وظيفة هذا الكرسـي بأنه للعشاء تحديدا (؟!). ومن الملفت للانتباه أن هذه الدراسات تتضمن أيضا الإشارة إلى عدة وظائف أخرى مفادها أن الأثر عبارة عن منضدة لوضع أشياء عليها قـد يكـون من بينهـا "الصينية" التي يوضع عليها الأكل. ولم يرد في هذا السياق دراسة حقيقيـة لشـكل الخيوان وقياساته، والإطار الثقافي العام الذي يساعد على استخدامه في وظيفة من بين هذه الوظـائف ولذلك لم يتم الربط بين مادة صنعه وهيئته الزخرفية والغرض الوظيفي منه.

وثمة نقطة أخري مهمة وجديرة بالدراسة يؤكد عليها أستاذنا الدكتور عبد الستار، ألا وهي أن البحث في البعد الوظيفي يتطلب عرفة تراكمية مهمة تتصل مباشرة باستخدامات اللقـى الأثرية بموادها المختلفة في عصورها المتتابعة، ولما كان الفخار من أهم المواد الأثرية وأكثرها تواجدها في المواقع الأثرية، ومن أكثر المواد المساعدة على تأريخ المواد في المواقع الأثرية وطبقاتها المتتابعة، فإن اختيار هذه المادة لإلقاء الضوء على استخداماتها يعتبر مثالاً جيداً ومؤشراً واضحاً لبيان أهمية المعرفة التراكمية المرتبطة بالبعد الوظيفي لأي مادة من المواد التي تصنع منها اللقى الأثرية. فالفخار له استخدامات في مجال العمارة حيث تصنع منه أنابيب المياه والبخار في المنشآت المائية كالحمامات، وقناطر المياه، والتوصيلات المائية للفساقي، والمطابخ والمرافق التي تستخدم الماء في الدور وغيرها ، واُستخدم الفخار في صناعة البلاطات المزججة " القيشاني" كأحد أنواع المواد الرئيسية المستخدمة في تكسية الجدران والقباب والمآذن وغيرها، وأُستخدم الفخار أيضاً في صناعة القراميد الفخارية التي تغطي بها السطوح في بعض المنشآت بالبلاد المطيرة، كما صنعت منه بعض أنواع الميازيب التي تخلص سطوح المنشآت من مياه المطر وتصرف إلى الطرقات أو الأرض الخالية المجاورة للدور، وأُستخدم الفخار أيضاً في "البرابخ" في منشآت الري وهي أنابيب قطرها كبير نسبياً تنقل الماء من موضع إلى آخر ويسهل سدها وفتحها، وهناك استخدامات أخرى لا يتسع المجال لسردها في مجال العمارة، وربما يكشف عن استخدامات أخرى للفخـار في هذا المجال.

ثم يؤكد لنا الدكتور عبد الستار أنه من المحاور المهمة في دارسة البعد الوظيفي المحور الذي يربط بين نوعية المواد التي يصنع منها الفخار وبين الغرض الوظيفي للمنتج الفخاري الذي يصنع منها. وعلى سبيل المثال هناك من الأواني ما يحتاج استخدامه إلى صناعته من مواد تكون مساميتها كبيرة كقلل الشرب والأزيار؛ حيث تقوم وظيفتها في الأساس على نضوح الماء على جدرانها الخارجية وتبخـره فيبرد بدن الآنية وبالتالي يبرد الماء بداخلها فيكون مستساغًا للشرب في أيام الحـر . وتختلـف هذه النوعية من الأواني الفخارية بالطبع عن نوعية أخرى تكون الحاجة إلى استخدامها قائمـة على منع تسرب المادة السائلة بداخلها من النضوح والتسرب إلى خارجها، مما يتطلب صناعة فخارها من مواد دقيقة المسام؛ لتمنع مثل هذا التسرب، كما يفضل طلاؤها بطلاءات زجاجيـة تمنعه منعا باتًا من تسرب هذه المواد عبر جدران أبدانها، ومن أمثلة هذه الأواني بعض أواني المائدة التي توضع بها السوائل الساخنة، وبراني السمن وأواني تخـزين الزيـوت ، والمحـابر الخزفية وغيرها. وهناك من الأواني الفخارية ما يوضع على النار فترات طويلة كـأواني الطهي، أو بوتقات صهر المعادن النفيسة كالذهب أو الفضة وهذه تتطلب أن تكون صناعتها من مواد مكونة لفخار يتناسب وهذا الاستخدام. وهناك من الأواني ما يستخدم ويكون معرضا أثناء الاستخدام للكسر ولذلك يفضل أن يكون صناعة هذه الأواني من نوعيات من المواد تؤكد صلابة الآنية، ويمتد تأثير الكسر ليس فقط في اختيار نوعية المواد ولكن إلي طريقة التشغيل ذاتها؛ وفي إطار ما سبق يتضح أن لطبيعة المواد التي تصنع منها اللقى الأثرية ارتباطها ارتباطا مباشرا بوظيفتها، وفي إطار هذه العلاقة يمكن دراسة المواد المكونة للفخار بنوعياتها المختلفة سواء كانت مواد أساسية أو مواد حشو.

وحول دراسة مصادر دراسة البعد الوظيفي ؛ يؤكد الدكتور عبد الستار أن :" دراسة وتحديد الوظيفة التي صنعت من أجلها اللقية الفخارية، قد تبدو سهلة وواضحة في بعض اللقى، وبخاصة التي ما زالت تستخدم حتى اليوم، لكنها قد تبدو صعبة وملغزة في بعض اللقى الفخارية، التي لم تعد وظائفها قائمة بفعل التطور الحضاري، الذي أدى إلى انقراضها واختفائها. ويعكس هذا الأمر إمكانية العثور على لقى فخارية كثيرة لا يمكن بسهولة إدراك وظائفها، ومن ثم يحتاج الأمر إلى إدراك السبل التي يمكن بها الوصول إلى كنه وظائفها ".

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور محمد عبد الستار لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لأستاذنا الفاضل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم