شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: محمد أحمد السيد وكابوس جوزيف ستالين

محمود محمد علييعد محمد أحمد السيد أحد الأسماء الهامة واللامعة في سماء تخصص المنطق وفلسفة العلوم في مصر والعالم العربي؛ حيث أسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، وتعد لبناته الفكرية والأدبية التي وضعها بالجهد والعرق بمثابة الأساس الذي بني عليه الكثيرون من تلامذته مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفي.

والدكتور محمد أحمد السيد هو أستاذ المنطق وفلسفة العلوم وعميد كلية الآداب جامعة المنيا بجمهورية مصر العربية، وهو أستاذ بقسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنيا والذي عمل معارا من قبل بجامعة الامارات العربية وجامعة الكويت، وقد حصل علي درجة الماجستير في الآداب عام 1982، ثم علي درجة الدكتوراه في الآداب (فلسفة) جامعة بوسطن، وله مؤلفات كثيرة نذكر منها: بول فيرابند: ثلاث محاورات في المعرفة وهو ترجمة وتعليق، والعلم والنسبوية تأليف لاري لودان ترجمة محمد السيد ونجيب الحصادي، ودراسة بعنوان العلم ليس غرضه اليقين وصد صدر في الكويت 2014، ودراسة بعنوان ما هي النسبوية – الكويت 2015، ودراسة عن الربيع العربي والتحول إلي الديمقراطية – الكويت -2015، وكتاب طرح السؤال المناسب: مرشد للتفكير الناقد بالمشاركة مع د. نجيب الحصادي، ودراسة بعنوان ما تبقي من الفكر المزدهر إلي أين انتهي الفلاسفة الفرنسيون العظام، الكويت 2016، وكتاب التميز بين العلم واللاعلم، وكتاب المشكلة الحقيقية ( الوعي، وكتاب نقد الصورة المبكرة للنموذج الإرشادي، ودراسة بعنوان هل نحن بمفردنا في هذا الكون، ودراسة بعنوان وقود المستقبل، ودراسة بعنوان عندما يصل العلم إلي أقصي مدي، ودراسة بعنوان وبحث منشور عن أزمة الفكر الفلسفي المعاصر، وبحث منشور عن علم النفس بين التشرذم والوحدة، وبحث بعنوان نسبية المعرفة عند بول فييرابند سنة 1997 وهي مشورة ضمن كتابه الذي ترجمه عن فييرابند بعنوان ثلاث محاورات في المعرفة، وبحث منشور الأسس المنطقية والعرفية للتكنولوجيا، وبحث هل العلوم الاجتماعية أدني مرتبة ؟، وبحث عن أخلاقيات الاستنساخ البشري، وبحث عن اللاقياسية واللاعقلانية في فلسفة العلم عند توماس كون، وبح عن دفاع عن العلم : نظرية لاكاتوش بين فلسفة العلم وفلسفة الرياضيات، وبحث النصوص الفلسفية المترجمة بين الأمانة والخيانة " لودفيج فتجنشتين وتوماس كون نموذجا"، وبحث بعنوان لودفيج فتجنشتين : رسالة منطقية فلسفية، قراءة في ترجمة دورية لوجوس، وبحث عن فرنسيس بيكون مجرب العلم والحياة، وبحث بعنوان من فلسفة العلم إلي تاريخ العلم، وبحث بعنوان التفكير الناقد والمغالطات المنطقية : دراسة في المنطق المعاصر، والأسس المنطقية للتفكير الناقد، وبحث بعنوان أنا أتمرد إذن أنا موجود.

وفي الأيام الماضية قام الدكتور محمد السيد بترجمة مقال لبرتراند رسل Bertrand Russell  وهو بعنوان كابوس جوزيف ستالين Josef Stalin's Nightmare، وبناء علي طلبي استأذنته في نشر المقال لقراء المثقف الزاهرة، ويقول المترجم ترجمت كابوس آخر من الكوابيس التي كتبها برتراند رسل. هذه المرة عن جوزيف ستالين الذي سيطر بقبضته الحديدية على الإتحاد السوفييتي السابق لعدة عقود. (كتب رسل المقال قبل وفاة ستالين عام 1953.

وفي هذا المقال يقول برتراندرسل : بعد أن تناول العديد من أقداح مشروب الڤودكا الممزوجة بالفلفل الأحمر، داعب النوم جفون جوزيف ستالين فغص في النوم بينما هو جالس على أريكته. بإشارة من الأصابع فوق الشفاه، حذر مولوتوف ومالينكوف وبيريا، خدم المنزل من المتطفلين الذين قد يقلقون راحة الرجل العظيم. وبينما هو غارق في نومه، والحرس يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم، جال بخاطره الحلم التالي:

لقد خاض غمار الحرب العالمية الثالثة وخسرها، وهاهو قد وقع أسيرًا في أيدي الحلفاء الغربيين، لكنهم، بعد أن لاحظوا أن محاكمات نورمبرج أسفرت عن كثير من التعاطف مع النازيين، قرروا هذه المرة تبني خطة مُغايرة: لقد سلموا ستالين إلى لجنة رفيعة القدر من جماعة الكويكرز الدينية، الذين ظنوا أن قوة الحب يمكنها أن تُفضي حتى بستالين إلى التوبة النصوح وإلى العودة إلى حياة المواطن المهذب الوقور.

قرر الأعضاء ضرورة غلق نوافذ غرفته حتى ينتهوا من مهمتهم الروحية خشية أن يرتكب عملًا متهورًا، كما قرروا عدم السماح له بالوصول إلى أي آلة حادة مخافة أن يستخدمها، أثناء نوبة من نوبات الغضب، في إلحاق الأذى بأولئك المنخرطين في تقييم إعوجاجه. أسكنوه في منزل ريفي قديم مكون من غرفتين مريحتين، لكنهم أوصدوا في وجهه الأبواب، ما خلا ساعة واحدة من كل يوم كان يصطحبه خلالها أربعة من أعضاء الكويكرز الأشداء مفتولي العضلات في نزهة سريعة يحثونه خلالها على الاستمتاع بجمال الطبيعة وبزقزقة العصافير. سمحوا له خلال بقية اليوم بالقراءة والكتابة، لكنهم منعوا عنه أي مؤلفات وقر في أذهانهم أنها تحريضية. هكذا زودوه بنسخة من الكتاب المقدس، والقصة الرمزية المعروفة ’رحلة الحاج‘، ورواية ’كوخ العم توم‘. وكنوع من أنواع الترويح والعلاج سمحوا له بروايات شارلوت إم يونج، غير أنهم منعوا عنه التدخين واحتساء الخمر وتناول الفلفل الأحمر.

كان بوسعه أن يتناول مشروب الكاكاو في أي ساعة من النهار أوالليل، ويرجع السبب في ذلك إلى أن قادة الحرس كانوا من متعهدي جلب هذا المشروب الذي لا يسبب ضررًا، كما سمحوا له بتناول الشاي والقهوة ولكن باعتدال، وبالقدر الذي لا يحرمه من نوم هادىء مريح.

كان الرجال الأشداء المتجهمين المشرفين على رعايته يقضون معه ساعة كل صباح وأخرى كل مساء، يفسرون له خلالها مبادئ السعادة والمحبة المسيحية التي من شأنها أن تغمره لو فقط أقر بحكمتهم. أما مهمة الحوار العقلاني معه فقد عُهد بها إلى ثلاثة ممن وثقوا أنهم الأكثر حكمة من بين أولئك الذين كانوا يحدوهم الأمل في هدايته والأخذ بيده إلى جادة الصواب، وهم السادة طوبياس توجود وصموئيل سويت وويلابراهام ويلدون.

كان ستالين قد سبق وأن تعرف على هؤلاء الرجال أيام مجده الآفل قبل وقت قصير من اندلاع الحرب العالمية الثالثة حين سافروا إلى موسكو سعيًا لإقناعه بخطأ مخططاته وبالتوسل إليه ليعدل عنها. أخذوا يحدثونه عن البِر والإحسان والمحبة المسيحية، وطفقوا يتحدثون إليه بعبارات تأخذ بمجامع القلوب عن النشوه والبهجة التي يجلبها التسامح، كما حاولوا إقناعه بأن السعادة الحقيقية إنما تكمن في أن تكون محبوبًا لا أن تكون مُنفِرًا مكروه الجانب. مأخوذًا بالدهشة التي انتابته، أنصت إليهم بصبر لفترة وجيزة، لكنه سرعان ما انفجر في وجوههم وهو يصيح "ماذا تعرفون أيها السادة عن مباهج الحياة؟" ثم أضاف في غضب "يا لضآلة فهمكم لقيمة النشوة الناجمة عن السيطرة على أمة بأكملها عن طريق نشر الخوف والهلع، خاصة حين تتيقن بأن الجميع تقريبًا يرغبون في موتك لكن لا أحد يجرؤ على الجهر بذلك، مع علمك بأن أعدائك في أرجاء الأرض قاطبة منخرطون في محاولات عقيمة لسبر أغوار أفكارك الخفية، ومعرفتك بأن سلطانك سيدوم حتى بعد القضاء على أعدائك وحلفائك أيضًا. كلا، أيها السادة، إن طريقتكم في الإقناع لا تجدي معي فتيلا. عودوا إلى سعيكم الوضيع الذي تخفونه وراء قناع من الورع والزهد، لجلب المنافع، لكن دعوني وشأني لنهج حياتي الأكثر بطولة وشجاعة".

عند هذا الحد ألجمت المفاجأة أعضاء الكويكرز، وقفلوا عائدين بعد أن باء مسعاهم بالفشل انتظارًا لفرصة مواتية. بعد أن أضحى ستالين تحت قبضتهم، كان يحدوهم الأمل في أن يخضع وينصاع لمطالبهم. والأمر الذي يدعو للدهشة والعجب أنه بقي على عناده وصَلفه. لقد تراكمت لديهم الخبرة والحنكة من تكرار التعامل مع الأحداث الجانحين، حيث نجحوا في الكشف عن عقدهم النفسية وقادوهم عن طريق الإقناع والكياسة إلى الإيمان بأن الصدق هو الملاذ وخير الأساليب.

قال طوبياس توجود: "سيد ستالين، نأمل أن تكون قد أدركت الآن عدم جدوى طريقتك التي كنت تنتهجها في الحياة، ناهيك بما جلبته تلك الطريقه على العالم من خراب، أخبرني، هل هذا ما يجعلك رابط الجأش. عليك فقط أن تنظر إلى ما جلبته على نفسك، لقد هويت من قمة المجد إلى هاوية الذل والهوان، وعليك ألا تنسى أن ما تنعم به من سكينة وبحبوحة هنا مرده أن سجانيك لا يؤمنون بترهاتك. لقد ولت أيام البهجة الشبقية المجنونة التي كنت تتحدث بها معنا عندما زرناك أيام مجدك الغابر. ومع كل هذا فإذا تمكنت من كسر حاجز الكبرياء، وقبلت بالتوبة والندم على ما بدر منك، وإذا تسنى لك أن تعرف أن السعادة إنما تكمن في سعادة الآخرين، هنا فقط قد يصبح لك هدف وبعض السلوى والعزاء فيما تبقى لك من أيام على سطح هذه البسيطة".

عند هذا الحد هب ستالين صارخًا: "إذهب إلى الجحيم أيها الأحمق المنافق. لا أفقه شيئًا مما تقول سوى أنكم على القمة وأنا تحت رحمتكم في القاع، وأنكم ابتدعتم طريقة لازدراء حظي العاثر أكثر إذلالًا وإيذاءًا من أي مصائب اخترعتها خلال عمليات التطهير".

قال السيد سويتي: "مهلًا، كيف تبدو يا سيد ستالين بهذا التحامل والقسوة إلى هذا الحد؟ ألا ترى أننا لا نكن لك إلا كل خير؟ ألا تدرك أننا فقط نرغب في خلاص نفسك من خطاياها، وأن ما يحز في نفوسنا هو كم العنف والبغضاء التي غرستها في نفوس أعدائك وأصدقائك على السواء؟ نحن لا نرغب في إذلالك، ولو تسنى لك فقط أن تقدر القيمة الحقيقية للعظمة والسمو الكائن على الأرض، ستدرك حينها أن ما ندعوك له إن هو إلا الخلاص من الذل والمهانة"

صاح ستالين: "هذا أكثر من قدرتي على الاحتمال. عندما كنت صبيًا يافعًا، كنت أستطيع تحمل مثل هذه الأقاويل في مدرسة القديس جورج، أما الآن فلا يطيق أي رجل عاقل الانصات إليها. ليتني آمنت بوجود الجحيم، حيث كنت عندها سأتطلع إلى رقتكم الزائفة تتلظى بلهيب جهنم".

قال السيد ويلدون "خسئت، وبئس ما تقول يا عزيزي ستالين! أتضرع إلى الله ألا يستثيرك الغضب، إذ بالسكينة فحسب ستدرك حكمة ما نحاول أن نبينه لك".

قبل أن يتمكن ستالين من الرد، تدخل السيد توجود مرة أخرى بالقول: "أنا على يقين يا سيد ستالين بأن من يتمتع بذكائك الخارق لا يمكن أن يظل أعمى عن الحقيقة إلى الأبد، بيد أنك الآن بادي الاجهاد، وأرى أن تحتسي قدحًا من الكاكاو المُهدئ عوضًا عن الشاي المنبه الذي كنت تشربه".

لم يعد ستالين عند هذا الحد قادرًا على السيطرة على مشاعره. تناول إبريق الشاي وأطاح به تجاه رأس السيد توجود. انسكب السائل الملتهب على وجهه، ومع ذلك أضاف "رويدًا، على رسلك يا سيد ستالين، هذه ليست طريقة للحِجاج."

استيقظ ستالين وسط نوبة عاتية من الغضب، وهنا صب جام غضبه على مولوتوف ومالينكوف وبيريا، الذين ارتعدت فرائصهم وامتقعت وجوههم. غير أنه بعد أن أفاق من بقايا السُبات العميق، تبدد غضبه، وانغمس في ملذة تناول رشفة كبيرة من الفودكا الممزوجة بالفلفل الأحمر.

وفي النهاية نشكر سعادة الدكتور محمد احمد السيد علي ترجمته لهذا المقال، ودام لنا قلمه الرصين...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم