شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: فريدة النقاش وموقفها البطولي في الدفاع عن قضايا المرأة (2)

محمود محمد عليفي المقال السابق تحدثنا بشكل عام عن الحياة الفكرية عند فريدة النقاش، وهنا في هذا المقال نركز حديثنا عن وموقفها البطولي في الدفاع عن قضايا المرأة، ونبدأ حديثنا من خلال ما كتبته عن " إنصاف النساء "، حيث تذهب فريدة النقاش إلي أن:" أوضاع النساء المصريات شهدت بعد موجات الثورة التي شاركن فيها على نطاق واسع شهدت تحولات متناقضة، فكانت هناك ولا تزال قوى تدفع بالنساء إلى الأمام، وأخرى تجرهن إلى الخلف. فقد بدأ إعداد المجتمع لهذه الحالة منذ موجة الهجرة إلى بلدان الخليج التي عرفها المصريون على نطاق واسع بعد حرب أكتوبر 1973، وفورة النفط التي شهدتها إثر الارتفاع المتواصل فى أسعاره، وانقسام الوطن العربي بين دول غنية جداً وأخرى فقيرة (10).

وفي عام 2011 تغير ذلك الواقع إلى الأفضل كما تري فريدة النقاش، وذلك جراء العمل الثوري الذي شاركت فيه النساء بكل قوة .. ورغم أن الدستور المصري الجديد الذي تضمن مادة لإنشاء مفوضية ضد التمييز جعل من المواطنة مبدأ حاكمًا، إلا أن قوانين الأحوال الشخصية وممارسة العنف ضد النساء تهدر هذا المبدأ باسم ثوابت الدين، وتجعل من التغيير الجذري للعادات مهمة صعبة، فما بالنا بالتطلع إلى تغيير مجمل العلاقات الاجتماعية من أجل العدالة والكرامة الإنسانية للجميع.. ورغم الجهود المخلصة التي بذلتها وتبذلها المنظمات الديموقراطية والنسوية لتغيير قوانين الأحوال الشخصية، لتستند هذه القوانين إلى المعايير الحديثة، وتتحرر من مفاهيم سيادة الرجل ودونية المرأة، إلا أنها لا تزال جهودًا مبعثرة وخائفة من إبتزاز المجتمع المحافظ والمؤسسات الدينية معاً. وربما تحتاج هذه الجهود إلى المزيد من الجرأة والشجاعة والعمل المشترك لتستقوى ببعضها البعض، وهي تكافح من أجل قانون جديد موحد يأخذ من الأديان أفضل ما فيها، فلا يستمد مشروعيته من دين واحد ويستند على القيم العليا فى كل الديانات والفلسفات والثقافات الإنسانية، وينهض على أساس مبدأ المواطنة، وسوف يشكل هذا كما تري فريدة النقاش القانون نقلة كبرى على طريق الخلاص من الصراع الطائفي، ويفتح الباب أمام ملايين النساء للتقدم والتحرر، ومناهضة الأسباب المركبة للعنف ضد النساء من أجل إنصافهن، وإنصاف النساء هو انتصار للمجتمع كله ولمبادئ وأهداف الموجات المتعاقبة من الثورة. (11).

وفي كتابها الشهير " دافعت عن قيثارتي" تقول فريدة النقاش: إنها "في نهاية الستينيات كتبت دراسة تنتقد صورة المرأة في أدب إحسان عبد القدوس الذي غضب منها، وقال لكثير من أصدقائه إن أحدًا آخر كتب المقال "انتقامًا منه" ووضع عليه اسمها". (12) ؛ وتضيف «النقاش»، أنها اتهمت بأن رجلا يكتب لها، أو على الأقل يوحي لها وهو ما وضعني طويلا في حالة دفاع عن النفس ساعية لإثبات ذاتي، لأن الاتهام يعني أنني عاجزة عن أن أقدم كتابة أصيلة خاصة بي... كان هذا الاتهام يولد في شعور خفي بالرضا، لأن الاتهام يعني كما تقول فريدة النقاش أن:"ما أكتبه جدير في ذاته بالقراءة"

(13).

وترى فريدة النقاش، أن بعض الكتاب يخافون أن تلتحق المرأة الكاتبة وتصير ندا لهم، "لأن في تحققها إفلاتا من الوصاية والفخاخ المنصوبة للسيطرة الأبوية عليها باسم حمايتها" في مجتمع عربي تقول، إن المرأة فيه تضطهد مرتين.. الأولى لأنها إنسان كما يضطهد الرجل والثانية لأنها امرأة ؛ وتسجل، أنها سعت في دراساتها لأدب المرأة إلى اكتشاف الفروق بينه وبين كتابة الرجال ومعرفة قدرات الكاتبات على التعامل مع "القيد المركب والاضطهاد المزدوج الواقع على جنسهن في المجتمع الطبقي الأبوي والكيفية الفنية لا الخطابية التي كشفن بها الوجوه المتعددة للأعراف الاجتماعية المسكوت عنها". (14)، وترى فريدة النقاش، أن "الكاتبة العربية رغم ما حققته من إنجازات في مجال الإبداع مازالت مشدودة إلى المجال الخاص، وهو عالم البيت والأسرة والأطفال بسبب تاريخ من القهر والأساطير التي نسجها المجتمع حول المرأة وجسدها، حيث لا يولد الإنسان امرأة "وإنما يصير امرأة"، كما قالت الكاتبة والمفكرة الفرنسية سيمون دي بوفوار (15).

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة نود الإشارة إليها هنا في هذا المقال، ألا وهي اعجابها الشديد بشخصية الدكتورة نوال السعداوي، فهي تري أن:" نوال السعداوي أضافت لقضية التنوير بصفة عامة، حيث أن التقدم العربي وتحرر المرأة هي قضية محورية ومرتكز أساسي في الوطن العربي.. وهي نظرها ليست ليست كاتبة نسوية وانما كاتبة وطنية أيضا، لافتة إلى أن أفكارها التنويرية رغم كل الظروف التي تعرضت لها واشكال الحصار الظلامي المعادي استطاعت أن تصل إلى الأجيال الجديدة (16).

وأكدت فريدة النقاش أن نوال السعداوي كفأت من قبل الجمهور على جميع ما قدمته من أعمال أدبية؛ وتسجل، أنها سعت في دراساتها لأدب المرأة إلى اكتشاف الفروق بينه وبين كتابة الرجال ومعرفة قدرات الكاتبات على التعامل مع "القيد المركب والاضطهاد المزدوج الواقع على جنسهن في المجتمع الطبقي الأبوي والكيفية الفنية لا الخطابية التي كشفن بها الوجوه المتعددة للأعراف الاجتماعية المسكوت عنها" (17).

وليس هذا فقط كما تقول فريدة النقاش، بل طرحت “نوال السعداوي” القضايا الكبرى والشائكة مستندة إلى العلم والعقل في مطالبتها بالعدل للنساء, وأثارت في كل ما كتبته جدلا واسعا في الحياة السياسية والثقافية مازلنا بحاجة لاستعادة وهجه, لأن غالبية القضايا التي أثارتها مازالت لم تحسم بعد لصالح العقلانية والتقدم, بل إنها مازالت القضايا الرئيسية في الصراع بين القوتين الرئيسيتين في ساحة الفكر والسياسة وهما قوي التقدم والاستنارة من جهة وقوي التأخر والجمود من جهة اخري.. ولن يكون بوسعنا أن ندفع بمجتمعنا الي الأمام وانتشاله من حالة التأخر إلا إذا تعاملنا بشجاعة مع كل القضايا المسكوت عنها خوفا من القوي المحافظة والمعوقة للتقدم, وهما القوتان اللتان يدور بينهما الصراع في مجتمعنا صاخبا حينا وخافتا في معظم الأحيان.. وندرك جميعا عبر التجربة وقراءة التاريخ ان مثل هذا الصراع لكي يصل الي نتائج مرضية لقوي التحرر والتقدم الإنساني يحتاج الي الحرية في المجتمع من أجل انضاجه بطريقة صحية. وتعلمنا التجارب والتاريخ الانساني أن المعيار الأهم للتحضر في أي مجتمع هو وضع المرأة في هذا المجتمع (18).

ومن الجوانب البطولية التي حملتها فريدة النقاش في الدفاع عن المرأة، هي نقدها الشديد لقضية ختان المرأة، فهي تري تشجب الاعتقاد بأن "النساء يحملن ثقافة أن الختان عفة للفتاة أكثر من الرجال"، وقالت بأننا نحتاج احتشاد الرأى العام كله ويقتنعوا بأن هذه جريمة فى حق النساء، وأنه لا يزال هناك قطاع لا يستهان به من المصريين يعتقدون أن  هذا العمل فى مصلحة المرأة ولصيانة عفافها.. وأشارت أن هذه القضية لها جانبان جانب قانونى اجرائى وجانب يخص وعى المصريين، فهى عملية صراعية طويلة المدى ولن تنتهى بسهولة.. وأكدت أن الثقافة حول عفت المرأة متجذرة منذ آلاف السنين والنساء يحملن هذه الثقافة ربما أكثر من المجتمع كله ولتتغير هذه الثقافة يحتاج مجهود كبير فى الوعى والتعليم وإبراز حقوق المرأة والدفاع عنها. . ونوهت أن تغليظ عقوبة ختان الإناث ومعاقبة من يطالب به سوف يحد إلى حد ما ولكن ليس نهائيًا واللجنة الوطنية للقضاء على ختان الإناث دورها صعب لأن هذه الثقافة متغلغلة فى المجتمع (19).

وكذلك من الجوانب البطولية التي حملتها فريدة النقاش في الدفاع عن المرأة، نقدها الشديد لفكرة أن جسد المرأة عورة، وهي تري أن قوي الإسلام السياسي قد سجنت المرأة في صورة جسدها الذي تراه رمزاً للشرف القومي والشخصي، وتعتبرها لذلك " عورة"، الأمر الذي جعل ملايين النساء يندفعن بوعي أو بدون وعي إلي ارتداء الحجاب الذي يتجاوز في هذه الحالة كونه زيا من أزياء، وليصبح (شاءت النساء أم أبين) رمزاً سياسياً متحركاً لهذه القوي (20).

وفي سبيل تأصيل ازدراء " جسد المرأة العورة"  ترجع فريدة النقاش إلي كتاب " خلف الحجاب" للكاتبة سناء المصري التي رجعت إلي النصوص الأصلية للمفكرين والدعاة المعتمدين لدي الجماعات الإسلامية  ؛ خاصة " حسن البنا"، و" أبو الأعلي المودودي، و" سيد قطب"، ومن التراث القديم تعود لابن تيمية لتأتي بنصوص استشهاداتها من مصادرها الأولية، ثم تقوم فريدة النقاش بنقل عبارة سناء المصري التي تقول فيها:" .. وهم حينما يطالبونها بإخفاء جسدها العورة ويسبوها بأفظع الشتائم وأبشع الصفات .. يغازلون لديها في نفس الوقت المثيرات الحسية ويطالبونها بأن تكون عاهرة للزوج في مواع أخري، والمادة التي تدور حول تصورهم هذا من الغزارة والفجاجة بحيث كان يكفي تجميعها  ووضعها إلي جوار بعضها البعض لتعطي صورة صارخة عن هؤلاء الذين يدعون للدفاع عن المرأة ويتحدثون باسم الحفاظ عليها (21).

وتحت عنوان " استبداد  الأساطير "، راحت فريدة النقاش تؤصل لفكرة "جسد المرأة العورة " المرتبط بأول خطيئة ارتكبتها حواء أول أنثي، وفي ذلك تقول:"  ورغم أن العلم قد أثبت منذ زمن بعيد، أن الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة لا ترتب أي فروق ذهنية أو عقلية، وهي ليست . ولا يجوز أداة لطمس إمكانيات المرأة وقدرتها . فقد بقيت الأساطير القديمة حية لا فحسب حول طبيعة المرأة، وإنما وهو الأهم حول ارتباط جسدها بالخطيئة، فهو جسد نجس، وهو كجنس مسئولة عن إخراج أدم من الجنة لأنها أغوته بأكل التفاحة المحرمة، وفتحت له أبواب الجحيم، وتأسياً علي هذه الحكايات (وأقول الخرافات)  التي شجبتها البشرية في ليلها الطويل قبل أن يبدأ التاريخ تراكمت حكايات شر المرأة وقدرتها علي الإيذاء، بل وعرف الأدب العالمي حكاية الموت عن طريق المرأة وهلاك الذكر بالأنثي (22).

وتخلص فريدة النقاش اليسارية لنجدها في النهاية تنزع إلي أن " الحجاب" هو في جانب أساسي منه رمز الفهر وتغييب العقل والتحكم الذكوري ( باسم الدين )، ولا ينفي هذه الحقيقة كون بعض النساء يمكن أن يلجأن للحجاب والنقاب وكأنهن مختارات، فخلف عملية اللجوء للحجاب والنقاب تجري صنوف من القهر المعنوي والتخويف باسم الدين تنفي كلها هذا الاختيار من أساسه، وتجعل منه إجبارا في شكل الاختيار، بل إن هناك إجبارا واقعيا تمارسه مؤسسات العمل التي تملكها الجماعات الإسلامية وتفرض الحجاب والنقاب علي المرأة حتي تقر المرأة نفسها بأنها " عورة وحرمة وحرام "، وما كان الحجاب لينتشر في مصر بهذه الصورة الجنونية لو لم يرتبط بهجوم الأموال النفطية والاستراتيجية   (23).

وتذهب فريدة النقاش إلي أن الفقهاء اختصروا معظم التشريع القرآني المتعلق بالمرأة، وحصروه في موضع الحجاب ( مثل قولهم أن الحجاب فريضة كالصلاة، وحجابك هو دينك وحجابك هو إسلامك، والحجاب هو الفارق الوحيد بين إسلامك وكفر السافرات ...) وكأن القرآن لم ير في المرأة إلا جسدها، ولم ينزل إلا ليجبرها عن الانزواء في بيتها، ويعزلها عن مجتمعها، ويحولها إلي أمة أو رقيق (24).

وتلاحظ فريدة النقاش أن المرأة السافرة تجد نفسها محاصرة بالفتاوي التي تضيق عليها الخناق، وتحد بصورة معنوية قاهرة من حريتها الشخصية في اختيار الزي الذي ترتديه وتصادر عمليا حقها في الاختيار . وتتكأ علي أن المستشار سعيد العشماوي قد أثبت في أكثر من بحث أن الحجاب كان مفروضا فحسب علي نساء النبي ( صلي الله عليه وسلم ) إلا أن الشيوخ الذين يعدون من المستنيرين لا يتوقفون عن تقديم الفتاوي للنساء حول ما يجوز وما لا يجوز لها أن تظهره من الشعر والوجه والكفين (25).

وتعتقد فريدة النقاش أن " المسألة الأخطر في الحجاب والنقاب والخمار هي استجابة المرأة نفسها لفكرة تغطية جسدها بصورة مبالغ فيها باعتبارها عورة، وتقبلها لنفسها كعورة، حتي أن الدكتور زينب رضوان كما تقول فريدة النقاش حين أجرت في بداية الثمانينات من القرن الماضي بحثا كبيرا حول الحجاب في الجامعة، تلقت ردا استوقفها بسبب تكراره، وهو أن الفتاة حين تضع الحجاب تشعر براحة نفسية عميقة وتتخلص من قلق كان يساورها . أي أن نساء كثيرات يقمن طواعية بقهر أنفسهن واستساغة هذا القهر باعتباره هو الحلال (26).

يتضح مما سبق عرضه أن فريدة النقاش ترفض شرعية الحجاب . من الناحية الدينية والناحية الاجتماعية . كساتر لجسد المرآة التي اعتبرها الفقهاء حرمة وحرام وعورة، مع أنها إنسان كامل الأهلية ( قبل أن تكون أنثي ) شقائق للرجال وأمهاتهم التي أنجبتهم وساهمت في تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم .

تحيةً لفريدة النقاش تلك المرأة العظيمة التي لم تغيرها السلطة، ولم يجذبها النفوذ، ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........

10- فريدة النقاش: إنصاف النساء، الحوار المتمدن-العدد: 5603 - 2017 / 8 / 7 - 22:27.

11- المرجع نفسه.

12- فريدة النقاش: دافعت عن قيثارتي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2013، ص 12.

13- المرجع نفسه، ص 16.

14- المرجع نفسه، 166.

15- المرجع نفسه، ص 221.

16- بسام رمضان: فريدة النقاش: أفكار نوال السعداوي التنويرية وصلت للأجيال الجديدة، مقال منشور بتاريخ يوم الأحد 21-03-2021 22:26

17- المرجع نفسه.

18- فريدة النقاش: نوال السعداوي، الحوار المتمدن-العدد: 6850 - 2021 / 3 / 24 - 23:12

19- أمل مجدى: فريدة النقاش: النساء يحملن ثقافة أن الختان عفة للفتاة أكثر من الرجال، مقال منشر بتاريخ الأثنين 08/فبراير/2021 - 07:03 ص

20- فريدة النقاش: حدائق النساء في نقد الأصولية، ص 64.، وأنظر أيضا بهاء الدين سيد علي: فريدة النقاش في نقد الأصولية، أدب ونقد،  حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، العدد 355، 2016، ص 39.

21- المصدر نفسه، ص 65.

22- المصدر نفسه، ص 206.

23- المصدر نفسه، ص 27.

24- المصدر نفسه، ص 126.

25- المصدر نفسه، ص 46.

26- المصدر نفسه، ص 45.

 

 

في المثقف اليوم