شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: أحمد عبد المعطي حجازي .. رائد حركة التجديد في الشعر العربي (2)

محمود محمد عليفي "مدينة بلا قلب"، لا نقرأ سيرة مدينة بذاتها، ولا فرد بعينه، بل نقرأ سيرة ضياع الإنسان المعاصر في زحام المدن الكبيرة المعولمة التي يحدق فيها كل واحد بالآخر ولا يراه، والناس يمضون سراعاً، ويحدقون في اللاشيء وكأنهم أشباح أنفسهم. ولذا فقد لا يحفل أي منهم بفتى ضل الطريق إلى بيته في الزحام، أو بمقتل صبي بائس تحت عجلات عربة عجلى. وإذ تحمل المجموعة من بعض زواياها أبعاداً فلسفية ورؤيوية عميقة، تذكّرنا ببعض أعمال شلي وووردسوورث وغوته وريلكه وكافكا، حيث يقف الأدب على المفترق الصعب بين بساطة الماضي الرومانسي وتعقيدات الحاضر وتحولاته الشائكة (5).

ثمة في شعر عبد المعطي حجازي من جهة أخرى ما يخترق سقف الأيديولوجيا التي يعتنقها، ليقيم في مناطق المكاشفات الداخلية والرؤيوية الأشد غموضاً والتباساً من سطوح السياسة المتقلبة العابرة. فالشاعر الذي أعجب بعبد الناصر، وبكى غيابه عبر غير قصيدة ومرثية، والذي تفتحت موهبته في ظل الحقبة الناصرية، والذي خاض مع وريثه مواجهات قاسية أدت إلى هجرته الطويلة إلى فرنسا، لم يخفِ فيما بعد نقده القاسي للواقع العربي المتردي بفعل تغييب العقل وغياب الحرية، وتعطيل القوى المهيمنة لأي فرصة جدية للتغيير. وقد بدا ذلك واضحاً في قصيدة حجازي المتميزة «مرثية للعمر الجميل»، التي يدمج فيها الشاعر بنجاح بين صوت الشاعر وصوت الجماعة، كما بين مأساته كإنسان ومأساة أمته التي لم تزل تجد في البطل الفرد طريق خلاصها الأنجع (6).

إن التطور الذي لحق لغة الشعر العربي المعاصر وصوره وإيقاعاته، تزامن مع تطور بناء القصيدة الفني، فالقصيدة أو التجربة كل لا ينفصل، وكل ما فيها من عناصر رؤيوية مؤثرة في العناصر الأخرى وأنماط البناء الفني في القصيدة المعاصرة تتعدد وتتسع وتتفق في الانبثاق من النزعة الدرامية، ولقد وعى أحمد عبد المعطي حجازي هذه الحقيقة التي تربط عناصر التجربة بعضها ببعض فوجد في الحوار وأنواعه أحد أشكال الدراما الشعرية المعاصرة، واجتهد في استثمارها في متنه الشعري على نحو شكل علامة بارزة وظاهرة في قصائده، من منطلق أن الحوار في النص الشعري ليس مجرد تعاطي الكلام أو حالة مقابلة بين شخصيتين أو أكثر (7) .

وتعرض الشاعر عبد المعطي حجازي إلى هجوم وانتقادات شديدة من قبل الشعراء المصريون، منددين بأهمية تنحي حجازي عن رئاسة لجنة الشعر "بمؤتمر الشعر العربي" لأنه يرفض الاعتراف بقصيدة النثر واعتبارها شكلاً من أشكال التجريب الذي لا زال يبحث عن نفسه وعن نقاده وجمهوره. (8).

وعن مفهوم السعادة بالنسبة إليه قال: "الأيام السعيدة في حياة الإنسان كثيرة، والسعادة تقاس بمقاييس مختلفة منها الرضا عن النفس والاطمئنان للحاضر، والمستقبل"، متابعًا: "وأسعد الأوقات التي مرت عليّ حين أجد من حولي، ليس فقط من أهلي وأصدقائي ولكن من مواطني، حين أجدهم سعداء، وحين أجدهم حققوا ما أرادوا أن يحققوه، وأسعد الأوقات بالنسبة لى شخصيًا هي الأوقات التي نظمت فيها ما أحببت أن أنظمه من قصائد، فالقصائد التي وفقت في كتابتها تمثل لي سعادة كافية (9).

وعن الأحداث التي لا ينساها حجازي، قال: "في حياتي الأدبية لا أنسى اليوم الذي رأيت فيه قصيدتي الأولى منشورة وكان هذا في عام 1955، واليوم الذي ظهر فيه ديواني الأول، وكذلك اليوم الذى اختارتني فيه جامعة باريس لأدرّس فيه الشعر لطلاب الدراسات العربية، ومن أيامي السعيدة كذلك اليوم الذي التقيت فيه بزوجتي، واليوم الذي رأيت فيه ابنتى، وكذلك اليوم رأيت فيه حفيدي (10).

وعن حلم مؤجل للشاعر الكبير قال "حجازي": "إذا كان لى عمر أتمنى أن أكتب عملًا مسرحيًا شعريًا، وأن أكتب سيرتي الذاتية، وكان من المفترض أن أبدأ كتابة هذه السيرة قبل ذلك، وقد حدث، وقد كتب فصولًا من سيرتي الذاتية لكنى لم أجمعها حتى الآن في كتاب، ولم أضعها في سياقها (11).

وفي كتاب صدر عنه بعنوان "شجرة حياة" قال حجازي:" إنني أشتغل كثيرا جدا على عملي الشعري، ولا أكتب القصيدة لمجرد القدرة الحرفية أو الخبرة أو المعرفة أو العلم أو مجرد سيطرة على الأدوات بل أكتب القصيدة بكل كياني، بعقلي وجسدي وبقلبي وبيدي، أكتب أنا اقرأ، أكتب الصوت كما اكتب المعني أكتب الصورة كما أكتب الإيقاع، أشعر كما لو أنني الغريق والقصيدة هي الجزيرة التي أقف عليها في هذا البحر الطامي، كما لو أن الحياة انتهت والقصيدة هي آخر ما بقي من هذه الحياة، إحساسي قوي بأنني بالرغم من اهتمامي الكبير في المرحلة الأخيرة بأدوات الكتابة موغل في الجمال بما هو قيمة إنسانية"(12).

وعن نزعته المستقبلية للشاعر الكبير قال "حجازي :" لا طريق إلى الماضى إلا فى الأوهام. والمستقبل هو الطريق الوحيد المفتوح أمامنا وأمام البشر، ليس فى هذا العصر وحده، وإنما فى كل عصر. ويوم ظهر الإسلام قبل أربعة عشر قرنا لم يكن أمام المسلمين إلا المستقبل الذى اقتحموه قبل أن يعرفوه فامتلأت الأرض والسماء براياتهم الخفاقة من شواطئ الأطلنطى إلى داخل حدود الصين. وهذا هو الدرس الذى يجب أن يتعلموه من الماضي. أن يقتحموا المستقبل من جديد ليكون لهم ماض جديد يفخرون به (13).

وفي مقاله له بعنوان " قضيتي هي الثقافة " أكد حجازي علي أن :" هناك حقيقة أخرى يتجاهلها الذين يعتبرون الثقافة ترفا زائدا عن حاجة رجل الشارع، وهى أن رجل الشارع إن كان يفتقر لثقافة حية يعرف بها العصر ويعيش فيه ويتفاعل معه وينال ما يحتاج إليه بدنه وروحه وعقله فهو فريسة لثقافة أخرى تغيب وعيه وتهمشه وتحوله إلى كائن عاجز لا يبالى بشئ ولا يمتثل لمبدأ أو قانون. إن الأسوأ من غياب الثقافة الرفيعة هو حضور الثقافة المنحطة. والقضية التى نتحدث عنها ليست إذن سهلة، والمشكلة مركبة نحتاج لأن نواجهها فى صورتها السلبية المتمثلة فيما هو شائع وسائد من الخرافات والأوهام والتقاليد البالية والعادات السيئة نكشفها ونحاصرها ونتخلص منها بقدر ما نستطيع، ونواجهها فى صورتها الإيجابية، فنشجع الإنتاج الثقافي الرفيع، ونضمن له حرية التعبير عن نفسه، ونفسح المجال أمامه ونفتح طريقه إلى الجمهور، ونفتح طريق الجمهور إليه. وبهذا الحوار الحى تزدهر الثقافة وينهض المجتمع ويتحرر ويترقي. وبدونه يكون العكس. لأن الثقافة الرفيعة لن تزدهر والمجتمع لن ينهض ولن يترقى ولن يتحرر فى وجود الثقافة المنحطة التى تملك الكثير لتضمن لنفسها البقاء والغلبة مستعينة بالكثير الذى تملكه وتستخدمه. تستخدم الجمهور الواسع الذى توارثها جيلا بعد جيل. وتستخدم الدين، وتستخدم النظم الحاكمة المستبدة التى تستخدم بدورها هذه الثقافة التى تكبل الناس بالقيود وتجعلهم رعية مستسلمة للحاكم تسمع له وتطيع. وعلى أساس فهمنا هذا للثقافة وللدور الفاعل الخطير الذى تؤديه في حياة البشر أفرادا وجماعات نتناول أوضاعنا الثقافية الراهنة. ونحن على يقين من أنها منبئة عن أوضاعنا في مختلف المجالات. وهذا ليس مجرد منطق وإنما هو واقع نعرفه بحواسنا الخمس. فإذا كان حقا ما أقول فقضية الثقافة ليست قضية فئوية أو مكتبية أو نقابية تخص المشتغلين بالنشاط الثقافي، وإنما هى قضية قومية تهم كل المصريين الذين يحتاجون أشد الحاجة لنهضة قومية جديدة لن تتحقق إلا بنهضة ثقافية جديدة يدعونا لها فى كل يوم داع جديد ومناسبة جديدة (14).

وحول دور المرأة في النهضة العربية قال حجازي :" ونحن نرى أن الحديث عن المرأة يستدعى الحديث في الدين والسياسة والتاريخ والمجتمع والثقافة والتربية والأخلاق والاقتصاد. هذا الارتباط العضوي بين حرية المرأة والحرية فى كل أشكالها وارتباطاتها بغيرها هو الذى يجعل قضية المرأة قضية محورية تهمنا جميعا، ليس فقط باعتبارها حركة نؤرخ لها، ولكن باعتبارها تحديا دائما وسؤالا مطروحا علينا بعد أن قمنا بثورتنا وأفقنا من غفلتنا أن نلم بأطرافها ونتذكر أيامها ونستعيد وعينا بها لنعرف أننا قفزنا فيها قفزة واسعة من عصور الظلام إلى عصور النور، ولنعرف من جهة أخرى حين نقارن بين ما حققناه فى أيام النهضة وما صرنا إليه الآن أننا لم نواصل السير فى الطريق ولم نحافظ حتى على المكاسب التى حققناها فيه وانتقلنا بها من حال إلى حال، بل فقدنا الكثير ورجعنا القهقرى إلى ما كنا عليه فى أيام الترك والمماليك. وعلينا إذن بعد أن نعى هذا الوضع المؤسف أن نستأنف النهوض وننخرط فى السباق من جديد (15).

وفي مقال له بعنوان قال حجازي :" ليس عيبا أن يقع الإنسان فى الخطأ. لكن العيب ألا يصححه بعد أن يقع فيه.. ونحن نقع فى الخطأ لأننا لا نبنى أحكامنا على ما نراه بحواسنا وحدها، وإنما نبنيها على ما نراه نحن وما يراه غيرنا ممن نتصل بهم ونستمع إليهم، ومما نستنتجه مما نراه ومما رأيناه من قبل. وأخيراً فنحن نبنى هذه الأحكام على ما نحبه ونتمناه. وفى هذا كله نحتاج لمعلومات لا تتوافر لنا دائما، ثم لا نضمن صحة ما نملكه منها، لأن حواسنا ليست معصومة، ولأننا قد نخدع أنفسنا فنرى الشيء كما نحب أن نراه وليس كما هو فى الحقيقة، ولأن الآخرين يقعون فيما نقع فيه، وقد يخدعون أنفسهم ويخدعوننا قاصدين أو غير قاصدين.. والحياة الإنسانية سلسلة متواصلة من الأعمال التى نصيب فيها ونخطئ، ونخطو إلى الأمام بقدر ما نتعلم من أعمالنا وتجاربنا فنعترف بالخطأ الذى نقع فيه، ونبحث عن أسبابه، ونتجنبها ولا نكررها فى خطوة قادمة. وبتوالي التجارب التي نخوضها تتوالى الدروس وتتراكم الخبرات، وتنضج وتتحول إلى وعى أو عقل ننتقل به من وضع إلى وضع، ومن طور إلى طور جديد. الوقوع في الخطأ إذن ضمن هذه الحدود ليس عيبا، وإنما العيب هو أن نقع في الخطأ ونستسلم له ونكرر الوقوع فيه كأنه قدر لا نستطيع رده أو فطرة فطرنا الله عليها (16).

وفي مقال له " أين كنا وكيف أصبحنا قال حجازي :" العلم فى الدولة الوطنية هو الاحتكام للعقل، ووضع القوانين، واكتشاف العالم والتواصل مع الآخرين، والسيطرة على الطبيعة واستثمار عناصرها وتسخير قوانينها لتلبية مطالب الناس، وسوى ذلك من الأهداف التى قامت الدولة الوطنية لتحقيقها. والعلم بناء على هذا ركن من أركان الدولة الوطنية لا يقل أهمية عن الأمن. وكما تسهر الدولة الوطنية على الأمن وتحفظه وتضمنه للمواطنين جميعا تسهر الدولة الوطنية على العلم وتضمنه لكل مواطن. لأن الدولة الوطنية لا تقوم إلا به. وهل تكون الدولة وطنية إلا بدستور يحكم به المواطنون أنفسهم بأنفسهم؟ وهل يؤدى المواطنون واجباتهم الوطنية إلا بأفكار يقتنعون بها وبرامج يضعونها ونشاط سياسي ينخرطون فيه، وخدمات وتضحيات يؤدونها ولا يستطيعون أن يؤدوها كما يجب إلا بالمعارف والمهارات التى يتلقونها فى المدرسة الوطنية؟ (17).

 

د. محمود محمد علي

................

5- بيمن خليل: معارك عبد المعطي حجازي.. من العقاد إلى شعراء القصيدة النثرية.. المرجع نفسه.

6- المرجع نفسه.

7-بومالي حنان : الحوار الشعري عند أحمد عبد المعطي حجازي، مجلة الآداب والعلوم الإجتماعية، المجلد 15 ، العدد 3، ص 164-173.

8- بيمن خليل : المرجع نفسه.

9- إلهام زيدان:  أحمد عبدالمعطي حجازي: أتمنى كتابة سيرتي الذاتية، مقال منشور بجريدة الوطن.

10- المرجع نفسه.

11- المرجع نفسه.

12- أنظر حوار عبد القادر الشاوي : شجرة حياة تجربة الذاكرة والوجه الآخر ، وكالة الصحافة العربية ، ص 167.

13-أحمد عبد المعطى حجازى: تجديد الفكر والخطاب الدينى ،الاربعاء 2018/06/20

14- أحمد عبد المعطى حجازى: قضيتى هى الثقافة، الاربعاء 2018/02/28

15- أحمد عبد المعطى حجازى: رسالة منصور فهمى، الاربعاء 2017/09/13

16- أحمد عبد المعطى حجازى: الخطأ ليس عيبا.. العيب تكراره!، الاربعاء 2017/08/02

17- أحمد عبد المعطى حجازى: أين كنا.. وكيف أصبحنا؟! .. الاربعاء 2017/03/29

 

في المثقف اليوم