شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: فرانز فانون.. المفكر الأممي الذي ارتدى معطف التاريخ (1)

محمود محمد عليتعد الثورة الجزائرية من أهم الحركات الثورية على الساحة الدولية العربية في القرن العشرين، والتي استطاعت تكسير حاجز الصمت الذي فرضته عليها وسائل الإعلام والدعاية الفرنسية، فقد رفع شعارها كل ثوار العالم لتصبح نموذجا للمستعمرات في نضالها ضد الاستعمار، لأنها "أحيت الضمائر الميتة وحركت العقول الجامدة فكان لها الصدى عند عديد من البلدان والهيئات" (1).

وبعد نجاح الثورة الجزائرية في إطلاق حرب تحريرٍ واسعةٍ ضد استعمارٍ استيطانيٍّ عنيف دام لأكثر من 130 عاماً، بدأت تستقطب دعم الكثير من عربٍ وأوروبيين وغيرهم. تراوح ذلك الدعم بين جمع التبرّعات والتأييد المعنوي والانخراط في صفوف جيش التحرير الوطني من جهة، ومن بعض الجزائريين من ذوي الأصول الأوروبية المختلفة (من أبناء أو أحفاد المستوطنين الذين فاقت أعدادهم المليون أثناء الثورة) من جهةٍ أخرى، مثل بيار شولي وزوجته كلودين، وإيميل شكرون... وبعضهم قدّم روحه فداءً لها، كالشهيد هنري مايو، وفرناند إيفتون (2) .

لكن طبيباً مارتينيكياً شاباً إسمه فرانز فانون انفردت قصة انتمائه للثورة الجزائرية بتميّزٍ جعل منه واحداً من مُثقّفيها، فلم يكتف بالدفاع عنها أو دعمها، بل تبنّاها بالكامل ونظَّر لها، فمَن هو إبراهيم فرانتز فانون؟

وفي الإجابة علي هذا السؤال يمكن القول بأنه يعد شخصية متعددة الأبعاد، فهو إلى كونه أفريقيّاً، وجزائريّاً، وفرنسيّاً..  هو رجل أممي بامتياز. وهذه الشخصية المتعددة الأبعاد.. لعبت أدواراً ذات شأن في مجالات وميادين علمية وإنسانية ومهنية شتى. فهو الطبيب النّفسي والسوسيولوجي والفيلسوف وكذلك هو المناضل في ميدان الحرب والسياسة (3).

علاوة علي أنه يعد واحداً من ن أبرز المفكرين الذين دعموا حركات النضال المسلحة والشعبية من اجل انهاء الاستعمار في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال كتبه وأفكاره من بين الادبيات الأكثر قراءة علي مستوي العالم، والافكار الاكثر تأثيراً في أذهان الشعوب وبخاصة الافريقية منها، فلقد كانت حياته القصيرة مفعمة بالكفاح سواء بسبب مشاركته الصادقة في نضال الاستقلال الذي قام به الشعب الجزائري ضد فرنسا وكذا تحليلاته العميقة والمؤثرة لإثارة الدافع البشري نحو الحرية في السياق الاستعماري (4).

ولهذا كان اسمه من أشهر المفكرين خلال الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، جنبا إلى جنب مع "تشي جيفارا" و"باتريس لومومبا" و"جون بول سارتر" و"إيميه سيزار" و"أميلكار كابلار"…وغيرهم، حيث كانت هذه النخبة من أصحاب الفكر الثوري التحرري تمثّل آنذاك "صيحة الفكر التحرّريّ العالميّ"، التي توازي نضال "حركات التحرّر الثوريّة" في دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، بقيادة "جبهة التحرير الوطنيّ" في الجزائر، و"منظمة التحرير" في فلسطين، و"جومو كينياتا" زعيم ثورة الماوماو في كينيا، و"سامورا ميشال" في موزمبيق، و"روبرت موجابي" في زيمبابوي، و"فيدال كاسترو" في كوبا و"جمال عبدالناصر" في مصر، و"هو شي منه" و"الجنرال جياب" في فيتنام وجواهر لال نهرو في الهند وجوزيب بروز تيتو في يوغوسلافيا، و"نيلسون مانديلا" في جنوب إفريقيا وغيرهم.

تاريخ فرانز فانون يمثّل سجّلا حافلا من المشاركات الفكريّة في التعبئة الثوريّة لطلائع المجتمعات المستضعفة الثائرة ضد الاستعمار، حيث استطاع هذا الرجل الزنجيّ، القادم من جزر المارتينيك أن يجد له مكانا وسط المناضلين ضدّ القمع والبطش والاستغلال، الذي كانت تمارسه قوى الاستعمار ضدّ الشعوب المستعمرة على مدى عقود طويلة، ورغم مشاركته القصيرة في الكفاح المسلّح ضمن صفوف جبهة التحرير الوطنيّ في الجزائر بين سنتي 1957 و1961، غير أنّ الرجل ترك بصمة واضحة في تاريخ الثورة الجزائريّة تحديدا، وتاريخ حركات التحرّر العالميّة عامّة، وهو لا يزال حاضرا بفكره حتّى الآن، وسط مفكّري الحركة التحرّرية العالميّة المعاصرة (5).

ورغم ذلك لم يكن فانون شخصية مركزية أو قائداً في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ومن ثم لم تكن له علاقة بالقرارات القيادية،  كما أنه لم يكن دبلوماسياً مهماً، مع أنه قام فعلاً بتمثيل الحكومة الموقتة الجزائرية في غانا؛ بل انه لم يكن خبيراً استراتيجياً عسكرياً، مع أنه كان منخرطاً بصورة فعلية في العمل العسكري،  حيث عمل على تنظيم رحلة استطلاعية مهمة بهدف فتح جبهة جديدة في الجنوب الغربي (6) ؛ وقال عنه الفيلسوف والمفكر الفرنسي في مجلة المجاهد:" إذا استبعدتم ثرثرة  سوريل الفاشستية فستجدون إن فانون هو منذ إنجلز أول من ألقي ضوءً ساطعاً علي أكبر عامل في  دفع التاريخ إلي الأمام وهو العنف (3)، وقال " جون بيار ميسيي – أستاذ في علم الاجتماع لجمهورية كونغو برازافيل: " لقد حافظ علي ثقافتنا كأفارقة.. شخصيا تأثرت كثيرا بكتابات فانون خاصة كتابه المعنون " مغذبو الأرض" (7)؛  وقالت عنه سيمون دي بوفار: " من أجل الصداقة التي كانت بيننا، لقد  شعرنا نحوه، وكذلك ماذا يستطيع أن يقدم لمستقبل الجزائر أفريقيا .. حقيقة أنه كان رجل قذ" (8)

وفانون بلا شك هو رجل في مظهره هدوء، وفي داخله غليان، أنيق اللباس، لطيف الحركة .. اعتنق الاشتراكية وأمن بها مصيراً أفضل لكل الشعوب، مثل ما آمن بالوحدة كضامن  طريق لشعوب أفريقيا، مرهف الحساسية، لكنه مؤمن بضرورة العنف للقضاء علي الاستعمار .. قدس المبادئ التي اعتنقها لدرجة إن طبقها في حياته، ولم يجعلها مجرد نظريات يخلو معها فوق المكتب، طبقها رغم ما تعرضه له من متاعب كان في غني عنها كطبيب نفسي ناجح وككاتب شاب لا مع أمامه مستقبل ملئ بالأضواء والآمال (9) ؛ وقد عُرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية؛ وقد خدم خلال الحرب العالمية الثانية في جيش فرنسا الحرة،  وحارب ضد النازيين .

ولد فرانز فانون في 20 يوليو 1925 وتوفي في ديسمبر 1961 وهو طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي من مواليد فور دو فرانس Fort-De-France - جزر المارتنيك،  كان أبواه المنحدران من العبيد البائسين الذين استقدموا قبل ثلاثة قرون من أفريقيا، ينتميان إلى برجوازيةٍ جديدة (كان أبوه مفتشاً في الجمارك وزاولت أمّه تجارة صغيرة في المدينة) شكّلتها الإدارة الفرنسية لدعم مشاريع إدماج الأهالي المحليين التي باشرتها في مستعمراتها. هكذا انضمّ فانون الشاب إلى المقاومة الفرنسية ضد النازيين سنة 1943 باعتباره مواطناً فرنسياً وهو الذي تعلَّم أن يردِّد في المدارس الفرنسية، (كما أقرانه من الجزائريين وباقي أبناء المستعمرات الفرنسية)، قصص أمجاد الآباء الغاليين les Gaulois كما كتب في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء (10).

وقد عرف فرانز فانون بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية. خدم خلال الحرب العالمية الثانية في «جيش فرنسا الحرّة وحارب ضد النازيين. التحق بالمدرسة الطبية في مدينة ليون، وتخصّص في الطبّ النفسي ثم عمل طبيباً عسكرياً في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي، عمل رئيساً لقسم الطبّ النفسي في مستشفى البليدة ـ جوانفيل في الجزائر، حيث انخرط مذ ذاك الحين في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية. وعالج ضحايا طرفي الصراع، على الرغم من كونه مواطناً فرنسياً (11).

وفي عام 1951 أنهى أطروحته وحضر لامتحان الداخلية لمستشفيات الطب النفسي، وتزوج سنة 1952، رزق ولدا اسمه ” أوليفييه ”، كما أنهى تخصصه مع الدكتور الاسباني “توسكيل “، وقد ساعده كثيرا في تطوير معارفه في العلاج الاجتماعي (12).

في سنة 1953 نجح في مسابقة الالتحاق (ميديكا،Medicat) لمستشفيات الأمراض العقلية، والتمس منصبا في مدينة البليدة (جوان فيل سابقا)، والذي سبق أن عرض عليه من الوالي العام للجزائر، ويعد هذا المستشفى من أهم مستشفيات المنظومة الطبية الفرنسية،والاهم من نوعه على مستوى إفريقيا، وقد عين مديرا للعلاج العقلي (13).

وفي عام 1955، انضم فرانز فانون كطبيب إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية   (F.L.N).  غادر سرّاً إلى تونس، وعمل طبيباً في مشفى منوبة، ومحرراً في صحيفة «المجاهد» الناطقة باسم الجبهة، كما تولى مهمات تنظيمية مباشرة، وأخرى دبلوماسية وعسكرية ذات حساسية فائقة (14).

وفي مارس 1959 شارك في المؤتمر الثاني للكتاب والفنانين السود في روما، ثم شارك ضمن الوفد الجزائري في المؤتمر الثاني للكتاب والفنانين السود بروما، ثم شارك  ضمن الوفد الجزائري في المؤتمر الثاني لشعوب إفريقيا الذي عقد في تونس شهر جانفي 1960، وهذا بعد فترة نقاهة قضاها اثر حادث سيارة تعرض له أثناء قيامه بمهمة كلفته بها جبهة التحرير الوطني على الحدود المغربية (15)..وللحديث بقية..

 

أ.د محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – بجامعة أسيوط.

................

(1) شعبان ياسين: "فرانز فانون" مناضل الثورة الجزائرية… البشرة السمراء والقلب الأبيض، رأي اليوم.

(2) عبد الله بن عمارة: فرانز فانون.. حفيد "العبيد "الذي صار أيقونة ثورية- الميادين نت 11 شباط 2020 10:48

(3) علي قصير: فرانز فانون: الفيلسوف السياسي والمناضل الأممي، مجلة الاستغراب، 2018، ص 11.

(4) دافيد كوت، عدنان كيالي(مترجم)،” فرانز فانون” (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1971) .

(5) محمد قيراط: فرانز فانون.. الاستلاب.. الاغتراب والثورة، جريدة الشرق.

(6)-عمراني: جان بول سارتر، ص 71.

(7)- بسكري نعيمة: التعذيب أثناء الثورة الجزائرية من خلال منظور فرانس فانون، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ المعاصر، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر، 2013، ص 29.

(8) عمراني: جان بول سارتر، ص 71.

(9) بسكري نعيمة: المرجع نفسه، ص 30.

(10) طهيري عماد الدين: الكولونيالية وخطاب التحرر في فلسفة فرانز فانون (فانون وتثقيف الثورة الجزائرية)،  قرطاس الدراسات الحضارية والفكرية، المجلد الرابع العدد الثامن، الجزائر، 2017، ص 58-60.

(11) حياة ثابتي: الدكتور فرانز فانون والثورة الجزائرية)،  قرطاس الدراسات الحضارية والفكرية، المجلد الرابع العدد الثامن، الجزائر، 2017،  ص 155-173.

(12) شعبان ياسين: "فرانز فانون" مناضل الثورة الجزائرية… البشرة السمراء والقلب الأبيض، رأي اليوم.

(13)  المرجع نفسه.

(14) حياة ثابتي: المرجع نفسه.

(15) المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم