شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: علي أحمد باكثير.. القامةٌ السامقةٌ في الشعر العربي الحر (2)

محمود محمد عليلم يكن باكثير مبدعاً فحسبُ، بل كان له إسهامٌ في مجالات أخرى غير الإبداع. فقد أصدر، عام 1958، كتاباً نظرياً في المسرح، جمع فيه المحاضرات التي كان يُلقيها على طلبة المعهد العالي التابع للجامعة العربية بالقاهرة، عنْوَنَه بـ”محاضرات في فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية”. وألف سنة 1959 تصنيفاً يذكّرنا بكتب الاختيارات الشعرية التي اشتهر بها في تراثنا النقدي المفضّل الضبي والأصمعي وأبو تمام الطائي وآخرون، عنوانُه “المختار من الشعر الحديث”، ضَمَّنَه أشعاراً لواحد وثلاثين شاعراً، بينهم شاعرة واحدة من مصر، هي جليلة فؤاد رضا، ينحدرون من عدة دول عربية (مصر – اليمن – سوريا…)، ومهّد له بمقدمة مركزة. وباستثناء خمسةٍ من نصوص الكتاب المنظومة وَفق طريقة الشعر التفعيلي، للشاعرين السوري نزار قباني واليمني العزي مصوّعي، فإن باقي قصائده كلاسيكية عمودية (13).

ولم يقتصر دور باكثير، في هذا المؤلَّف، على اختيار النصوص الشعرية وترتيبها، بل إنه عمَد، في كثير من الأحايين، إلى تقويم ما بها من اعوجاج، وتصحيح هفواتها اللغوية والعَروضية. وحقق ديوان الشاعر المصري صالح علي الشرنوبي، وألف كتاباً عن أدب رومانيا التي زارها، ومكث فيها مدة من الزمن، أسْماه “لمحات في الأدب الروماني الحديث” (14).

برزت موهبة الشاعر علي أحمد باكثير الأدبية في مرحلة مبكرة من عمره، وكانت بدايتها من حضرموت، فنظم الشعر الجديد عنده ليس بالسهل، خاصة أنه كان يتجه اتجاهاً إسلاميا محافظاً في تناول الموضوعات الشعرية (15).

وقد كانت أولى محاولات كتابه هذا اللون على يد شاعر القطرين اليمني المصري علي أحمد باكثير، الذي ترجم مسرحية (روميو وجولييت)؛ لشكسبير إلى العربية على شعر التفعيلة، وكان وقتها طالبًا في السنة الثانية بقسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة (1936م)، وقد جاءت هذه الترجمة ردًّا على زعمٍ خاطِئٍ من أستاذه الإنجليزي بأنَّ اللغة الإنجليزيَّة هي اللغة الوحيدة التي تتَّسِع للأشكال الجديدة، وأنَّ وسيلة التعبير بالشعر الحر أو المرسل المنطلق لا توجد في غيرها من اللغات، ومنها اللغة العربية (16).

فردَّ عليه باكثير غاضبًا: إنَّ اللغة العربية تتَّسع لكلِّ أشكال التعبير، وإنَّه من الممكن كتابة الشعر المرسل بها، فسخر منه أستاذه، وركب ناقة الخُيَلاء والشطط، فعكف باكثير على المسرحيَّة فترجمها وأتمَّها، وكانت بحقٍّ أولى التجارب الشعرية الناضجة التي مهَّدت الطريق أمام شعراء مدرسة الشعر الحر بعد ذلك، يقول باكثير: "ولكن ليس هناك ما يحولُ دُون إيجاده - الشعر الحر - في اللغة العربية، فهي لغة طيِّعة تتَّسع لكلِّ شكلٍ من أشكال الأدب والشعر" (17).

ولذلك انخرط باكثير في التجديد واستطاع الخروج عن أسوار الشعر التقليدية المنيعة، متجهاً نحو تخصيب شعره بالتجارب الحديثة، والخروج بتجربة شعرية ريادية، ولاسيّما بعد أن رأى أن الشعر يحتاج إلى أن يكون أكثر اقتراباً إلى الحياة التي يعيشها. وقد ظهرت ريادته الحوار المسرحي، وفتحت الباب لمن تلاه من كتّاب المسرحية وفقًا لنمط الشعر الجديد. الشعرية في مسرحية روميو وجوليت، فقد أزالت محاولته تلك كثيراً من العقبات من أمام وقد ارتضى باكثير الشعر الجديد حين ترجم مسرحية "روميو وجوليت" عام 1936 ولم تنشر إلا عام 1946 ، مستخدماً عدداً من البحور الصافية الوزن وهي المتقارب، والمتدارك، والكامل، والرجز، والرمل، وبخاصة بحر المتدارك لما فيه من طاقات، كما يمكن أن نلاحظ ذلك في ترجمته للمقطع التالي من المشهد الثاني من الفصل الثاني للمسرحية المذكورة:

روميو: قَسَمًا بغرة ذلك الوجه المبارك

إذ يُتوِّج بالسنا الفضِّيِّ هامات الشجر

جوليت: أقسم بغير البدر هذا الكائن الجم التقلّب

إني لأخشى أن يكون هواك مثله

متغيراً في كل شهرٍ ما له يومًا على حال ثبات (18)

ويرى باكثير أن "هذا النظم حر كذلك لعدم التزام عدد معين من التفعيلات في البيت الواحد" ، معتبرًا هذه التجربة نقطة انقلابًا في تاريخ الشعر العربي كله، "فقد قدّر لها أن تكون التجربة الأم فيما شاع اليوم تسميتُه بالشعر الحر أو التفعيلي، وأسميته أنا  قديماً الشعر المرسل المنطلق (19).

والحقيقة أنَّ باكثير كانتْ له تجارب أخرى في ترجمة بعض مسرحيات شكسبير قبل ترجمته روميو وجولييت، فقد كان شديدَ الإعجاب بشكسبير وفنِّه، فترجم فُصولاً من مسرحيَّته (الليلة الثانية عشرة)، ونشر أجزاء منها في "مجلة الرسالة" (رسالة الزيَّات) عام 1932م، ولكن على طريقة الشعر المقفَّى المألوف، لكنَّه عزف عن هذا ورأى أنَّ الشعر المقفَّى لا يناسب فن المسرحية (20).

وأكَّد باكثير أنَّه توصَّل بعد تفكيرٍ عميق وجهد جهيد إلى أنَّ البحور الموحَّدة التفعيلة أو القافية، هي الأنسب للشعر الحر؛ كالكامل، والرجز، والمتقارب، والمتدارك، والرمل، ويتَّضح هذا من قوله: "فاكتشفتُ بعد لَأْيٍ أنَّ البحور التي تصلُح لهذا الضرب الجديد من الشعر هي تلك التي تتكوَّن من تفعيلةٍ واحدة مكرَّرة؛ كالكامل والرجز، والمتقارب والمتدارك والرمل، لا تلك التي تتألَّف من تفعيلتين مختلفتين؛ كالسريع والخفيف والبسيط والطويل، فإنها لا تصلح (21).

كان رائداً من رواد حركة الشعر الجديد، ووضع أساساً لشكل القصيدة العربية الجديدة، واتسمت محاولاته بالتحدي، ثم فجأة إلى النَّظمِ على الأسلوب المقفَّى بعد ذلك، ، فكيف تم هذا التغيير؟

أما باكثير نفسه، فيَذكُر أن تَجارِبه جعلته يرى بأن النثر هو اللغة الطبيعية للمسرح، وأنه لا ينبغي أن يكتب بالشعر إلا المسرحية الغنائية التي يُراد لها أن تُلحَّن وتُغنَّى (الأوبرا)، وقال حين سئل عن سببِ انقطاعه عن كتابة الشعر الحر: “كتبته بادئ ذي بَدء في المجال المسرحي (..) وانقطعت عن هذا الشعر حين صِرتُ أكتب مسرحياتي بالنثر”(22)

ولذلك يرى الدكتور عبدالعزيز المقالح أن انصراف باكثير عن كتابة الشعر الحر يرجع إلى أربعة أسباب مجتمِعة، هي:

أولاً : أن باكثير كان يرى أن هذا الأسلوب الشعري يَصلُح للمسرحية الشعرية، وهو قد انتهى إلى أن النثر هو اللغة الطبيعية للمسرح، وبالتالي فليس في موقف باكثير أي ارتداد[56]، وهذا الرأي يَنقُضه أن باكثير كتَب مسرحية شعرية بعد ذلك بالشعر المقفى، وهي (قصر الهودج – 1944) (23).

السبب الثاني - في رأي الدكتور المقالح هو “طبيعة باكثير وتكوين شخصيَّته الرافض للمغامرة والثورة على المألوف (24).

أما السبب الثالث – في رأي الدكتور المقالح – فهو توقُّف باكثير عن “كتابة الشعر بعد الانبهار الذي أَحدثه الاتصال المفاجئ بالأدب الإنجليزي، والاطِّلاع على مفاهيم وخصائص جديدة للشعر، جعلتْه يتَّجِه للمسرح وإلى الكتابة النثريَّة، وما ظهر له بعد ذلك من شعر، فهو شعر مناسبات، وشعرُ المناسبات لا خصائص له” (25) .

السبب الرابع والأخير في رأي الدكتور المقالح هو تأثير العقاد على باكثير، ومعروف أن العقاد كان يقف موقفًا معاديًا للشعر الحر، ويرى الدكتور المقالح أن الصداقة غير المتكافئة – حسب تعبيره – بين الرجلين جعلت باكثير يخشى من إغضاب العقاد إذا كتب شعرًا حرًّا، ويُدلِّل على ذلك بأن باكثير لم يكتب شعرًا حرًّا إلا بعد وفاة العقاد بثلاثة أعوام تقريبًا (26)، والمقالح يَقصِد بذلك مطوَّلة باكثير “نكون أو لا نكون”، التي كتبها في أعقاب نكسة حزيران (يونيو) 1967م، والزعم أن باكثير عاد لكتابة الشعر الحر بسبب وفاة العقاد، ولم يكتبه في حياته حتى لا يُغضِبه – زَعْمٌ ليس له ما يُثبِته؛ فقد تَرجَم باكثير قصائد عن الإنجليزية بالشعر الحر، ونشرها في حياة العقاد، مثل قصيدتَي “لحظات التجلي”؛ للشاعر الإنجليزي جورج هربرت، “وتحت أشجار الحور”؛ للشاعر الروماني ميهائيل إيمينسكو.

إن تجربة (باكثير) في الشعر الحر رغم الضجة عليها كانت رائدة ومثيرة بكل المقاييس وتحت الشروط، وهي لم تكن مقصورة على قصيدة أو قصيدتين تتمثل في عملين فنيين كبيرين أحدهما مترجم وهو (روميو وجوليت) والآخر عمل إبداعي وهو (أخناتون ونفرتيتي) وهما من حيث الحجم وكم الشعر أكثر من كل ما قدمه السياب ونازك الملائكة من قصائد جديدة فقد بدأت ريادتهما عام 1947 إلى أوائل الخمسينيات (27).

وأخيراً، المازني يكاد يصرخ وهو يقدم لمسرحية (أخناتون ونفرتيتي) بأن هذا هو الأسلوب الذي ظللنا نبحث عنه أدركه هذا الشاب (باكثير) الشاب اليماني القادم من أرض اليمن أرض أقدم أشكال التجديد:

في تاريخ الشعر العربي القديم:

تطاول الليل دمون

دمون إنا معشر يمانون

وإننا لأهلها محبون (28).

أجل: لقد تطاول علينا ليل العصر الحديث، لكننا لا نزال لأهلنا محبين ومشفقين، إلا أننا نحب الحق ونكره التعصب، وحبنا للتجديد ضارب في جذور التراث ومتغلغل في أعماق العصور.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

13- عبد الحميد حنورة: علي أحمد باكثير ظاهرة إبداعية، المرجع نفسه، ص18.

14- المرجع نفسه، ص23.

15- نافع حماد محمد: علي أحمد باكثير وخارطة الشعر العربي الجديد ، 223، التجديد ــ المجلد العشرون . العدد التاسع والثلاثون ، 1437ھ / 2016م،  ص 240.

16- د. سليمان علي عبدالحق: المرجع نفسه.

17- المرجع نفسه.

18- المرجع نفسه، ص241.

19- باكثير : روميو وجوليت، ص 5.

20- د. سليمان علي عبدالحق: المرجع نفسه.

21- المرجع نفسه.

22- د. محمد أبو بكر حميد: أحاديث علي أحمد باكثير، دار المعراج الدولية، الرياض، 1418هـ/ 1997م (ص: 182).

23- د. عبدالعزيز المقالح: ملامح ورمانتيكية في شعر باكثير، مجلة المنتدى، السنة الأولى، العدد التاسع، رجب 1404هـ/ أبريل 1984م (ص: 4).

24- المرجع نفسه، ص 5.

25- المرجع نفسه، ص 6.

26- المرجع نفسه، ص 7.

27- د. رحيم هادي الشمخي: علي أحمد باكثير… رائد التجربة الشعرية وبطل الانقلاب في الشعر المعاصر، الوطن ، نشر بتاريخ الإثنين، 15-02-2021.

28- المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم