شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: محمد السيد الجليند وموقفه من قضايا الفلسفة الإسلامية (1)

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور محمد السيد الجليند- أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، واحدا من كبار مفكرينا المصريين المستغلين بالفلسفة الإسلامية ، فهو له باع طويل في مناقشات قضايا الاستشراف والهوية الإسلامية، وهو أعلام الفلسفة الإسلامية المشهود لهم بنصاعة الفكر، ومقارعة الحجة بالحجة، فهو عالم يحسب له ألف حساب على ساحة الفلسفة الإسلامية، وتتلمذ على يديه العديد من طلاب العلم من مختلف دول العالم، وأنا إذ أكتب عنه هنا علي صفحات المثقف الزاهرة ، فذلك لإبراز وجه التنويري والتثقيفي ، وتقريب مؤلفاته ، وهذا غيض من فيض نحو حق هذا المفكر المصري الجليل علينا.

قال عنه الأستاذ الدكتور عبدالعظيم المطعني:" الدكتور محمد السيد الجليند، أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، رجل له تاريخ ناصع في تتبُّع الأفكار ومناقشتها في ميزان النقد الهادئ دون ضجيج أو صوت عال؛ تجلس إليه فيحدثك في وقار العلماء الأوائل، فهو عالم - علمًا وعملًا (1).

والدكتور الجليند من مواليد قرية منشأة الأمراء بمركز المحلة الكبرى في مصر سنة 1940،  حفظ القرآن الكريم في كُتّاب القرية, وأتمه في العاشرة, والتحق بالمعهد الأزهري في مدينة سمنود, حيث حصل على الشهادة الابتدائية, ثم تأسس معهد المحلة الكبرى, وكان من أوائل الدفعات التي تخرجت فيه؛ حيث حصل على الثانوية الأزهرية ( نظام الخمس سنوات (حتى حصل منه على شهادة الثانوية عام 1963، ثم التحق بدار العلوم حتى حصل على شهادتها عام 1967، وواصل دراسته العليا في قسم الفلسفة، وحصل على الماجستير في الفلسفة بتقدير امتياز في رسالة بعنوان: "الإمام ابن تيمية وقضية التأويل" سنة 1971،  وكانت لجنة المناقشة مكونة من الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور رئيس مجمع اللغة العربية الأسبق ( رحمه الله)، والأستاذ الدكتور يحيى هويدي أطال الله في عمره, بإشراف عميد دار العلوم آنذاك الأستاذ الدكتور محمود قاسم، ثم سجل الدكتوراه في رسالة بعنوان ": قضية الخير والشر في الفكر الإسلامي ـ المعتزلة والأشاعرة نموذجًا " بإشراف الأستاذ الدكتور محمود قاسم. وشاءت إرادة الله تعالى أن يختار إلى جواره في هذه المرحلة الدكتور محمود قاسم ليتولى الإشراف بعده المرحوم الدكتور محمد كمال جعفر، وحصل عليها عام 1975، وتدرَّج في المناصب حتى تولى رئاسة قسم الفلسفة، وعمل بالعديد من الجامعات العربية، علاوة علي مشاركته كعضو في لجنة الفكر في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعضو مجلس إدارة الجمعية الفلسفية المصرية، وأمين عام اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في الجامعات المصرية (لجنة الفلسفة)، وعضو محكّم في جائزة آل ثاني العالمية، وعضو في أمانة الجائزة الدولية لوزارة الأوقاف بقطر، وعضو لجنة المؤتمرات في رابطة العالم الإسلامي.

وقد أثرى أستاذنا الدكتور الجليند المكتبة العربية بالعديد من المؤلَّفات التي تنوَّعت بين التأليف والتحقيق؛ منها: " "سلسلة تصحيح المفاهيم" التي صدر منها إلى الآن عشرة أعداد، ، ومن أهمها "مفهوم السياسة الشرعية بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، بالإضافة لتحقيق " كتاب الانتصار" في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لابن عبد الهادي، وهو أوفى ترجمة لشيخ الإسلام ابن تيمية. ومن أبرز مؤلفات الدكتور الجليند  في نظرية المنطق بين فلاسفة الإسلام واليونان، ومن قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة، ودقائق التفسير، والجامع لتفسير شيخ الإسلام ابن تيمية، والإشارة إلى مذهب أهل الحق للشيرازي (تحقيق) ستة أجزاء، ومن قضايا الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب واستلاب الهوية ،وغيرها، كما كتب العديد من الأبحاث والمقالات في المجلَّات المتخصصة والثقافية.

وفي هذه المؤلفات يبرز لنا الدكتور الجليند نواة فكره والتي علي الفرضيات التالية:

أ- العلم هو وسيلة بناء الحضارات وازدهارها، وهو نفسه قد يكون سببًا في انهيارها وإبادتها.

ب- غياب الإيمان والاعتقاد الصحيح يترتب عليه سيادة قيم ومبادئ اجتماعية وأخلاقية تجسد الجوانب الدنيا في الطبيعة البشرية.

ج- الإسلام ما لم يكن مؤثرًا في حياة المسلم فهو إسلام ميت لا تفارق آثارُه جدران المساجد.

د - الخطاب الديني المتشدد لا نجد له تأثيرًا إلا عند بعض المنتمين مذهبيًّا لفكر الفرق الإسلامية، كالخوارج والشيعة.

هـ- العلم الكوني هو مفتاح نهضة الأمم، شئنا أم أبينا. وقد أمرنا القرآن الكريم بذلك، ونبَّه إليه الشرع الحنيف.

والدكتور الجليند من كبار أساتذتنا الذين يؤمنون بأن التراث الفلسفي زاخر بالمعارف، ويجب أن يتم تحقيقه تحقيقات علمية بأن يتم جمع مخطوطات الكتاب ومقابلة نصوصها، والتوصُّل إلى نشر نصٍّ جيد، وفي اعتقاده أننا بحاجة إلي عين تنظر إلى التراث لاستحضار ما فيه مِن قِيَم شعارها الواقع التاريخي في وقتها، ولم يعد لها مناسبات الآن... نأخذ هذه القيم، ونعيشها سلوكًا واحتضانًا لها، ونرد عليها أحيانًا، ونأخذ من الحاضر ما يفيد هذا العصر، من خلال الجمع بين قيم التراث وأصالته، وبين ما في الحاضر من أصول تتفق مع القضايا الكبرى الإسلامية ، ويضرب لنا مثالا لذلك بالفقه حيث يقول :" عندنا في الفقه الإسلامي أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا... بعض القضايا موجودة الآن، ولكن علتها غير موجودة، فلا نقتصر لها على الحكم، وهذه النقطة سبب من أسباب التطرف والحكم على المخالف، وأكثر ما تكون هذه الأمور في مادة علم الكلام...نريد أن نعيش بقيم الماضي في الدفاع عن العقيدة الإسلامية، وبسلاح الحاضر بالمنهج وبمشكلات الحاضر الموجودة الآن، ولم تكن موجودة في الماضي؛ يعني: لا ينفع أن أدرس للطلاب مشكلة خلق القرآن، وأترك مشكلة تاريخيَّة الأديان التي تدرس في علم الاجتماع، وهذه الأمور تحتاج لمن لديه رؤية واسعة شمولية تشمل مشكلات الحاضر، وتستحضر قيم الماضي، ونتسلح بالاثنين في مواجهة هذه المشكلات (2).

علاوة على أن الدكتور الجليند من الأستاذة المشهود لهم في تحقيق  تحقيق التراث والترجمة ، ففي اعتقاد كما يقول :" هناك فروع في التراث تحتاج إلى إعادة اكتشاف، وهو التراث العلمي، وعندنا خطيئة ارتكبها المؤرخون في التأريخ للعلم الكوني في ثقافتنا، والعلم الكوني أقصد به علم الكيمياء والطبيعة والطب والجيولوجيا...إلخ، وهي علوم قرآنية وهي مفتاح نهضة الأمة... علماؤنا عندما صنفوا العلوم صنفوها إلى علوم شرعية وعلوم غير شرعية، وحضارتنا كانت تقوم على قدمين ثابتتين حتى القرن الخامس الهجري: القدم الأولى: العلوم الكونية، والقدم الأخرى: علم الفقه والتفسير...إلخ، وبعد القرن الخامس الهجري خاصمنا العلوم الكونية، فالتقطها الغرب، ونما بها، وبنى عليها نهضته، وحاربنا بها، وأصبحنا الآن نستجدي العلوم منه، مع أنها علوم قرآنية أمرنا بها القرآن تمامًا كما أمرنا بالصلاة والصوم...نحن في حاجة إلى إحياء هذا اللون من التراث، ونعيد له قيمته، لا أقول الحضارية فقط، وإنما الإسلامية، نعيد له وجهه الإسلامي... وما لم نُحِي هذا اللون من التراث، فسنظل نستجدي من الآخر لقمة الخبز والسلاح والمصنع، وكل شيء؛ لأنه لم يتفوق علينا الغرب إلا بعد أن احتضن هذه العلوم ونمَّاها وعاش بها (3).

وحول طريقة تدريس الفلسفة في دار العلوم والأزهر والجامعة المصرية، قال الدكتور الجليند :" هناك فرق؛ فمدرسة دار العلوم تأخذ من الأزهر الجانب التراثي، وندرسه ونعيش به ولا نعيش فيه، وتأخذ من الجامعة المصرية (كلية الآداب) المنهج المعاصر في الفلسفة الحديثة؛ فنجمع بين الاثنين في مناهجنا الدراسية للطلاب، وفي الرسائل العلمية؛ أي: نجمع بين ما يسمَّى بالأصالة والمعاصرة؛ لذا فنحن غير مرضيٍّ عنا من الأزهر، ولا من كلية الآداب؛ لأن لنا مآخذَ على منهج الأزهر، ولنا مآخذ على منهج كلية الآداب، وآخر كتاب لي "عقيدة بلا مذاهب" قد أغضب إخواننا في الأزهر؛ لأنهم أشعرية العقيدة، أما سؤال الهوية فقد أغضب كلية الآداب... هذا منهجي فيه من محاسن الأزهر، ومن محاسن كلية الآداب، وفيه الإضافات الدرعمية... وفي قسم العقيدة والفلسفة بأصول الدين بالأزهر أضاف الأعلام ؛ أمثال: محمد البهي، ومحمد غلاب، وعبدالحليم محمود، ومحمد بيصار، ومحمود زقزوق، إضافات كثيرة من حيث المنهج؛ حيث إن القضايا القديمة يقدمونها في منهج حديث وعصري، والحقيقة أن بعضهم يفعل هذا، وما زال البعض متمسكًا بالقديم (4)... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................................

الهوامش

1-  أبو الحسن الجمال (محاورا): صفحات من ذكريات رائد الفلسفة الإسلامية الدكتور محمد السيد الجليند، شبكة الآلوكة،  30/8/2017 ميلادي - 7/12/1438 هجري.

2- المرجع نفسه.

3- المرجع نفسه.

4-قناة العربية: مفكر مصري: ابن تيمية وطني.. ونصوصه لا تكفر المسلمين، مقال منشور بتاريخ السبت 3 صفر 1443 هـ - 11 سبتمبر 2021.

 

 

في المثقف اليوم