شهادات ومذكرات

أبو الخير الناصري: أستاذي محمد مفتاح

صادق السامرائي1/ في الموسم الجامعي 2005/ 2006م اجتزت بنجاح مقابلة شفهية بكلية الآداب بتطوان أمام لجنة علمية مكونة من الدكتور عبد الله المرابط الترغي رحمه الله رئيس شعبة اللغة العربية زمنئذ، والدكتور محمد مفتاح رحمه الله، والدكتور محمد كنون الحسني، لأصير بذلك طالبا في وحدة الأدب العربي في المغرب العلوي، راغبا في الاستفادة من علم نخبة من الأساتذة الفضلاء بالكلية وفي الحصول على دبلوم الدراسات المعمقة تمهيدا لمواصلة الدراسة في سلك الدكتوراه.

في تلك المقابلة الشفهية جلست أول مرة بين يدي أستاذي الدكتور محمد مفتاح لأجيب عن أسئلته في تخصص الأدب المغربي. لم أكن تتلمذت على يديه من قبل، وأذكره لحظة الاختبار الشفهي مرحا لطيفا بشوشا وهو يتوجه إلي بأسئلة حاولت الإجابة عنها انطلاقا مما كنت حصلته من قراءة "النبوغ المغربي في الأدب العربي" لعبد الله كنون و"الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى" لمحمد بن تاويت التطواني عليهما رحمة الله.

2/ لم يقدر لي أن أواصل الدراسات العليا عامئذ لأسباب من أهمها:

أ. ظروف عملي بإعدادية الحسن الثاني بزومي حيث كنت أعمل أربعا وعشرين ساعة كل أسبوع (وهو وضع استمر أربعة أعوام من 2005 إلى 2009)، وهذا ما جعلني عاجزا عن السفر إلى تطوان باستمرار للاستفادة من محاضرات الأساتيذ، ولتقديم عروض في المواد المدرسة... 

ب. بعض الصرامة التي انتهجتها الوحدة حينئذ في شأن غياب الطلاب، ومراقبة غيابهم في كل حصة حصة.

ج. عدم توفري، وأنا بعيد عن تطوان، على الضروري من المصادر والمراجع المساعدة على إنجاز العروض في كل مادة.

أمام هذه الصعوبات اضطررت للتخلي عن متابعة الدراسة بوحدة الأدب المغربي،

لكن مع حلول الموسم الجامعي 2011/ 2012 عدت إلى الكلية للدراسة بسلك الماستر بتحفيز من العلامة الدكتور عبد الله المرابط الترغي...فكانت هذه العودة سببا في أن أتشرف بالجلوس بين يدي أستاذي محمد مفتاح الذي درّسنا تحقيق النصوص، وأمد كل طالب منا بصفحات من أحد المخطوطات ليشتغل بقراءته وتخريجه.

أذكره في الفصل كما في المقابلة الشفهية السابقة بشوشا مبتسما لطيفا مع الطلاب جميعا حريصا على إفادتهم ونفعهم.

لم أره غاضبا إلا في حصة واحدة كانَ طلبَ فيها أن يقدّم كلٌّ منا - نحن الطلابَ - نفسَه، فوقف أحدُنا حين وصول دوره، وشمخ بأنفه قليلا، ونظر يمنة ويسرة، كأنما استجلابا لأنظار زملائه وإعجابهم، وقال بيتا شعريا يفخر فيه بنفسه وكان البيت من نظمه لأن له نصيبا من قول الشعر.

أمام هذا الإعجاب بالنفس رأيت أستاذي الفاضل – رحمه الله - يخرج عن هدوئه ولطفه وابتسامه، ويتوجه إلى المفتخر بكلام أعرب فيه بصرامة عن استهجانه ما أقدم عليه الطالب، ثم استطرد متحدثا عن رذيلة الكبر وضرورة تخلية الطلاب نفوسَهم منها، وعن ضرورة التواضع وأهميته في طلب العلم.

كان غضبا للعلم وأخلاق العلم، وانتصارا لفضيلة التواضع، وأكرم به من غضب! وأكرم به من انتصار!

3/ بعد عامي الدراسة بالماستر شاء الله تعالى أن تجمعني بأستاذي الكريم مناسبات ثقافية وعلمية أستحضر ثلاثا منها:

- أولاها: يومي 16 و17 من ديسمبر 2015 برحاب كلية الآداب بتطوان بمناسبة ندوة دولية موضوعها "أصول البيان في فهم الخطاب القرآني وتأويله"، نظمها مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية وفرقة البحث الأدبي والسيميائي بالكلية. سيّر أستاذنا العزيز جلسة من جلسات الندوة، وشارك في جلسات أخرى بالحوار  والمناقشة.

- الثانية: يومي الخامس والسادس من مارس من العام 2016 حيث استفدنا معا من دورة تدريبية على المعالجة المعجمية للجذور اللغوية استعدادا للمشاركة في إعداد معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وكانت الدورة بتأطير الأستاذين الفاضلين الدكتور عبد الرحمن بودرع والدكتور رشيد بلحبيب، واستفاد منها إضافة إلى المذكوريْن السادة الأساتذة: الدكتور محمد الحافظ الروسي، والدكتور عدنان أجانة، والدكتور أبو مدين شعيب تياو، والدكتور مصطفى الزكاف، والدكتور سعيد الزكاف، والدكتور عبد الواحد الصمدي.

- الثالثة: في 26 من أبريل من العام 2016 في لقاء تأبيني لأستاذنا العزيز الدكتور عبد الله المرابط الترغي احتضنته كلية الآداب وشاركت فيه إلى جانب أستاذي د. محمد مفتاح ونخبة من أساتذة الكلية وطلاب الدكتور الترغي رحمه الله.

وقد كان أستاذي د.محمد مفتاح في هذه المناسبات، كما  في غيرها، بهجة المجالس يفيض علما ولطفا وأدبا وابتساما، فلا يُملُّ حديثُه، ولا يُرجى فراغُه منه.

4/ صورة أخرى تحفظها ذاكرتي لأستاذي الراحل، هي صورته عضوا في لجان مناقشة البحوث المقدمة لنيل الدكتوراه. فقد حضرت مناقشة عدد من الأطروحات كان – رحمه الله تعالى – مناقشا لها، وكان مفيدا غاية الفائدة وهو يقدم ما يبدو له من ملاحظات على عمل الطالب، مع تخليل حديثه ببعض النكت والطرائف، فلا ترى العيون إلا معلقة بما تفتر عنه شفتاه، ولا النفوس إلا مشتاقة لما يصدر عنه من توجيهات وإضافات.

أذكر أنه استفاض مرة في مناقشة أحد الطلاب، ثم توجه إليه بالسؤال في لكنته الجبَلية المحببة إلى النفس: "واشْ نْزيدْ أولا باراكا ألسّي عبد الواحد؟"

وحينما رد الطالب بالقول: "زيدْ أَأُستاذْ"، عقب أستاذنا رحمه الله في دعابة: "إنْتِنْ رَجِلْ مْزْيااانْ"، وابتسم الحاضرون، ثم واصل - رحمه الله - مناقشة الطالب في بحثه.

توفي الدكتور محمد مفتاح في 27 من أكتوبر 2019م بعد معاناة مع المرض.

رحمه الله تعالى، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عني وعن طلابه جميعا خير الجزاء.

 

أبو الخير الناصري

 

 

في المثقف اليوم