شهادات ومذكرات

صادق السامرائي: شخصية هارون الرشيد!!

صادق السامرائيأبو جعفر هارون بن محمد المهدي بن جعفر المنصور (149 - 193) هجرية، عاش (44) سنة، وتولى الحكم في عمر (22)، (170 - 193) هجرية.

وهو إبن الخيزران بنت عطاء. وقد علمه الكسائي، والمفضل الضبي.

تزوج زبيدة بنت جعفر (إبنة عمه) سنة (165) هجرية، وعمره (16) سنة، وبعدها تزوج عدة نساء، ولديه جواري ومحظيات، وله عشرة أبناء وإثني عشر بنت.

ما مدوّن عنه أنه كان يحج عاما ويغزو عاما، ويصلي مئة ركعة يوميا، ويتصدّق بألف دينار، ويحب العلماء، ويعظّم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوِه وذنوبه، ويبكي إذا وعظوه، وله فتوحات مشهودة.

ولإزدهار عصره وتألقه وبلوغه ذروة القدرات الإبداعية والعمرانية، إمتلأت كتب التأريخ بالقصص عنه، وأكثرها ربما لا تمت إلى واقعه بصلة، فتصفه بأنه خليفة اللهو والبذخ والإسراف بالملذات والمتع الفائقة.

ومن الأعمال المنسوبة إليه،   إصدار إعفاء على الزنادقة، إتخاذ مدينة الرقة عاصمة رديفة، أوجد بيت الحكمة، بدأ عهد الترجمة، أنشأ أول مصنع للورق في بغداد، شيّد القصور والجوامع، إهتم بالزراعة والجسور والقناطر، وبتأمين التجارة، وبنى مستسفى الرشيد في بغداد، جعل بغداد قبلة العلم فاجتذبت جهابذة العلوم والمعارف.

ويُقال أنه عند توليه الخلافة،  فوّض أمر الدولة للبرامكة وبعد (17) سنة نكبَ بهم، فهل أنهم كانوا يديرون الدولة وهو الخليفة الرمزي لها؟!

تزوج كثيرا، وأنجب عديدا، شيَّد معالما ووضع البنى التحتية لمشاريع حضارية أصيلة، وجاهد في سبيل الله كما يرى ويعتقد، وحرص على وحدة الأمة وعزتها وكرامتها وتألقها الحضاري.

وإرتكب خطيئته الكبرى عندما عهد لأولاده بولاية العهد الأمين والمأمون والمؤتمن، وما تعلم مما مضى وما حصل مع أخيه الهادي، فكانت المأساة التي أودت بحياة الأمين والمؤتمن، وفاز بها متألما ومكلوما ومأثوما المأمون.

ويبدو أن لكتابته وثيقة ولاية العهد وتعليقها في الكعبة دورها في نهايته، وتكالب أبنائه على التخلص منه، فقد مات مبكرا.

وكان مترعا بالخوف وعدم الثقة بالحياة، ولا يدري إن كان سيُصبح أم سيُقتَل أو سيموت، فالقلق من العلامات البارزة التي تسيّدت على سلوكه، وألجأته إلى أن يمعن في بكائه ورهبته من نهايته.

وكان محفوفا ببني هاشم وتحت إمرتهم، ولزوجته زبيدة أمّ الأمين دورها في إتخاذ القرارات المتصلة بالحكم، ومنها أن يكون الأمين وليا للعهد ومن ثم المأمون، مع أن المأمون أكبر منه بأقل من سنة، لكنه إبن جارية فارسية ماتت بحمى النفاس بعد ولادته، والعجيب في الأمر أن زبيدة لم تقتله وهو طفل يتيم، كما يجري عادة لأبناء الجواري من الخلفاء.

وربما للحفاظ على الدولة لإتساعها، رأى أن يقسّمها إلى ثلاثة أجزاء على كل منها أحد أولاده، لكنها فكرة غير مدروسة، ولم تكن ذات مفهوم عملي، فمَن سيكون الخليفة بينهم، ولماذا ثلاثة أجزاء، وكل من أولاده أشبه بالمستقل ذاتيا، وهناك خليفة وأولياء عهد من بعده.

 إنها فكرة خديجة كان عليه أن يدرسها بعناية ويضع لها أسسا عملية ذات قيمة، وهذا قد يشير إلى أنه ما كان يحكم فعلا، وتجربته في الحكم ربما برزت بعد نكبة البرامكة، فهم الذين كانوا يتولون أمور الدولة حتى نكبتهم، أي قبل وفاته بخمسة أو ستة سنوات فقط.

ويبدو أنه عاش في محنة الصراع بين الطرف العربي والفارسي، بين حزب الأمين وحزب المأمون، وهذه المحنة ربما دفعته للقضاء على البرامكة، لكن الصراع إمتد بين أبنائه من بعده.

فلماذا أنجب من عربية وفارسية وتركية وجواري أخريات من جنسيات مختلفات؟

هل هي النزوات التي طغت عليه ؟

أم لصغر عمره أثر في نزوعه نحو الشهوات؟

فتولية الخلفاء وهم في سن الشباب وأحيانا المراهقة، تتسبب بتداعيات مأساوية ناجمة عن تهورهم السلوكي، وإنطلاق شهواتهم وهم وسط الجواري الفاتنات، وكأنهم يتم تنويمهم بالملذات، ومَن حولهم يحكمون ويديرون أمور الدولة ومصير العباد على هواهم.

والقراءة العلمية المتأنية لما مدوّن عن الرشيد، يكشف الكثير من التخيلات، والإبتعاد عن الواقع والحقيقة، فربما كان خليفة شكليا، والبرامكة هم سادة الحكم وبيدهم الأمر والنهي، فتصريف شؤون الدولة كان من مسؤوليتهم، فهم الوزراء والأمراء والقادة والأوصياء على ولاة العرش.

ويبدو أنهم إجتهدوا في إرضاء نزعاته السلطانية المتوهجة بالأبهة والتهويلات الخارقة، للتعبير عن إرادة وهيبة وهيمنة الدولة، وبسط سلطانها الشديد، وجعلوه يعيش في برج عاجي من الأحلام.

ويمكن القول أنه شخصية تتميز بالرغبة في أن يكون مركز إنتباه الآخرين، ويتمتع بالتفاعل مع مَن حوله، ويستشعر بوجوده بينهم وقد تميز عليهم وتسلط، ولديه إهتمام كبير بالجنس الآخر، وذلك بسبب عمره، وما توفر حوله من ترف وبذخ، وفي ذات الوقت كان يعيش قلقا شديدا، وإحساسه بغيره ليس على ما يرام.

والخلاصة أنه من الصعب أن يكون كما وردنا عنه، وكأن ما نقرأه في كتب التأريخ هو عن هارون الرشيد الرمز المُتخيل، وليس الإنسان الحقيقي، الذي إرتكب الأخطاء تلو الأخطاء حتى إنتهت بموته المبكر، وبتصارع أولاده على الخلاقة من بعده، التي حاول أن يحسمها بآلية غير مسبوقة، فانتهت وبالا على الجميع.

فهل أنهم كتبوا عن هارون الرشيد المُتخيَّل أم الحقيقي؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم