نصوص أدبية

فص حلم وذاب..

اسيا رحاحليةكان أول لقائي به بعد غيبة طويلة .

لم يترك لي فرصة لسؤاله أين كان ولا الذي حدث معه، فقد بادرني قائلا: "تعال معي سأريك أمرا لم يره أحدٌ بعد". في واقع الأمر اعتدت غرابة أطواره منذ كنا معا في المدرسة الثانوية، وأصبح غيابه المفاجئ عن المدينة، ثم ظهوره المفاجئ أمرا مألوفا .

غيبته هذه المرة طالت أكثر . / قيل أنّه دخل منتجع العباقرة!/

سرتُ خلفه دون أن أنبس بحرف .

اجتزنا الشارع المزدحم، وصراخ الباعة المتجوّلون يكاد يصم آذاننا، يتخلّله صوت نهيق وعواء وزئير وفحيح ونقيق . شققنا طريقنا بصعوبة وسط مجموعة من الأطفال يتقاذفون شيئا يشبه الكرة / لعله رأس رضيع لم ينبت علية الزغب / ويتبادلون من مفردات السباب ما لا يخطر على قلب بشر .

ولجنا آخر عمارة في حيّ قريب . أكياس القمامة "تزيّن" المدخل، فوقها أقام الذباب مهرجانا كبيرا . صعدنا السلالم . توقف عند باب شقة في الطابق الثاني فتوقفت . رسم في الفراغ بإبهامه شكلا / بدا لي كأنّه مفتاح أو لعلّه أشبه برمز الأنوثة أو الذكورة أو شيء من هذا القبيل / ففُتح الباب .

ضغط زرّ الضوء فأبان المكان عن رواق ضيّق .اتّجه إلى غرفة على يمين الرواق . سرير قديم وطاولة صغيرة تتوسط الغرفة وقد عجّت بأوراق وكتب وصحف مصفرّة، وفي الركن حاسوب وحزمة من الأسلاك المتشابكة .

أخذ مكانه على الكرسي أمام الحاسوب . طلب مني أن أجلب لي من الغرفة المقابلة كرسيا .

"اجلس" قال وهو يتململ ويعتدل في جلسته كمن يستعد لحوار تلفزيوني "آن الأوان يا صديقي لأن أنقذ العالم من الشرّ والقبح والدمار والأحقاد والحروب . سأريك مشروع مدينتي الفاضلة . "

عرفناه دائما، نحن أصدقاؤه أفلاطوني النزعة، مهووسا بالفلسفات القديمة، غارقا في قراءات اليوتوبيا، محلّقا في فضاءات الغرائبيات والأساطير . جلّ أحاديثه وأفكاره وحواراته وكتاباته كانت تدور حول جدلية الخير والشر، وإمكانية موت الرذيلة إلى الأبد وانتصار الفضيلة .

" يوما ما، سأحوّل الأرض إلى " كرةٍ أرضيةٍ فاضلة "، كان يقول. وكنا نعقّب على كلامه ساخرين " وقتها لن تسمّى أرضية.. ستصبح " بالون سماوي! " لأنها ستصل إلى الكمال ."

لم يكن أبدا يهتم بتعليقاتنا الساخرة، أو يلقي بالا لملاحظاتنا المحبطة .

أخذ من درج في طاولة الحاسوب ثلاثة أسلاك، ثبّتها فوق جبينه، شمالا ويمينا وفي وسط جبهته تماما، ثم وأوصل الأسلاك بجهاز الحاسوب. وكنت كلما أحاول فتح فمي لأقول شيئا يرمقني بنظرة ذات، ويشير لي برأسه أن أحدّق في الشاشة.

و بينما يدّه على الفأرة، راح يحدّث نفسه وكأنّه يهذي :

- أن يمسك بزمام الحكم الفلاسفة أو المجانين ذاك أمر لا يعنيني ... لا يعنيني من أفلاطون سوى فكرته السابعة :" جعل الأخوّة أساس الرابطة بين الأفراد " . لو أنّ أفلاطون استشارني لنصحته؛ بأن يجعل هذه الرؤيا في مقدّمة أفكاره، لأنّه حين يعشّش معنى الأخوّة في قلوب الأفراد... تنتهي بعدها كل الأزمات والمشاحنات والصراعات، ويصبح العالم مسرحا للمحبة والخير والتكافل والجمال . لابد من حلّ لكل هذه الفوضى التي تطوّق العالم ..

ثم نظر نحوي وقد كست وجهه مسحة من الحماس والثقة ..

- سوف ترى ... وفي ظرفٍ وجيز سأجعل العلماني يؤاخي الإسلامي، واليساري يصادق اليميني، والقويّ يدافع عن الضعيف ويؤويه تحت جناحه، والغني يقتسم ثروته بالتساوي مع الفقير، ولن تكون هناك دوافع للصوصية أو الجرائم أو الحروب . وستلغى المحاكم، وتغلق السجون ... ويُحال القضاة والمحامون على التقاعد، لكي ينشغلوا بزراعة الأزهار في حدائق منازلهم .

قررت أن أبدأ بحيّنا فمدينتنا، ثم أعمّم مشروعي ليشمل الوطن بأكمله ثم الدول المجاورة وهكذا إلى أن أتوصّل إلى كون فاضل . استعنت بـ(جوجل أرث) لبناء واقع جديد موازٍ للواقع، يستيقظ الناس يوماً، فيجدون أنفسهم كأنهم في حلم جميل،إلى أن يتأكدوا بأنه واقعهم الجديد .قد يستطيعون زيارة واقعهم القديم وأماكنهم القديمة كمن يزور متاحف للآثار . هي مسألة وقت لا غير صدّقني.

كنت أستمع إليه وأنا أغالب ابتسامة ساخرة رقصت فوق شفتي، غير أنّي لم أجد بدًا من مجاراته

تمتمتُ :

- نعم ... نعم ...كل هذا جميل جدا.

- إنّه مشروع العمر . أعمل عليه عملا دءوبا منذ خمسة وعشرين عاماً. وقريباً سأنتهي من مدينتنا.

ثم أضاف :

- لاحظ معي ... كل المشاهد التي صادفتها في يومي هذا منذ تركت البيت صباحا إلى الآن حمّلتها في دماغي ... الآن سأجعلها تظهر على شاشة الحاسوب، ثم كل صورة أعدّل فيها وأقوم بالتغييرات والتحسينات اللازمة... حسب تصوّري للفضيلة والكمال والجمال، وبمجرد حفظ هذه التغييرات سيكون كل شيء مثاليا ورائعا ... بمجرّد أن أضغط الزر وأغيّر الصورة هنا في الافتراضي؛ ستتغيّر الصورة هناك في الواقع الموازي، وغدا صباحا يا صديقي حين تقوم بجولة في الحيّ سيدهشك ما ستراه من مظاهر المودّة والسكينة والجمال والنقاء والأخلاق العالية ..

و أخذت الصور تتوالى على شاشة الحاسوب .

- أليس هذا مقهى العم رضوان ؟

- من الغد سيصبح " مَكْهى العم رضوان " .

- مكهى ؟ !

- نعم . كل المقاهي ستتحوّل إلى مَكَاهِي ... مكتبة داخل مقهى ... يمكنك أن تشرب قهوتك مجانا، بشرط أن تطالع سطورا من كتاب أو جريدة ... على فكرة ... من الغد لن تجد على صفحات الجرائد، ولا في القواميس، أيّة لفظة لها دلالة سلبية .. الفساد، الرشوة، العنف، الإجرام، الحقد، الكره، التعصّب، الضغينة، الخبث، الهم، الخصام ، الحسد، الخيانة، الشتيمة .. سأمحو كل مبعث للشر والخطيئة والقبح. كل معنى لذلك سيختفي تماما وكأنّه لم يكن أبدا .

- أنت تحلم . لن ينجح هذا، فالأشياء تعرف بأضدادها و" الضد يظهر حسنه الضد " كما تعرف .

- سفسطة فارغة . سوف أجعل الأشياء تُعرف بذواتها . هذا الصراع القائم بين الخير والشر... الرذيلة التي تعلو دائما على الفضيلة . كل ذلك سوف ينتهي على يدي . اعتمد على أيقونة مضغوط أزرعها في الذاكرة تحمل مخزون العالم من السلبيات... وكما تعرف فالحيوانات تتعلم بالتجربة والإنسان يتعلم بالخبرة.

- وكأنّك تجهل بأنّ الشر داخلي وليس خارجي . نحن البشر نحمل الشرور والرذائل في دواخلنا كقدر محتوم.هل ستغيّر الدواخل أيضا.. التفكير والشعور والسلوك والطباع ؟

- نعم . إنّي أشتغل ليل نهار على برنامج رهيب سوف لن يبق في دواخلنا سوى على بذرة الخير .برنامج مضاد للشرور يعمل كجرس إنذار في الدماغ .

- مذهل حقا .مدهش . لو استطعت فعل ذلك سيكون الأمر غير مسبوق في تاريخ البشرية .

لم يلق بالا لكلامي وراح يضيف :

- الحواسيب أيضا، وألعاب الفيديو، والهواتف النقّالة، لن تحوي سوى ألعاب على شاكلة المزرعة السعيدة، المصنع السعيد، الأسرة السعيدة، الحياة السعيدة، السعادة السعيدة ..

- السعادة السعيدة ؟ عجبا وهل هناك سعادة غير سعيدة ؟

- نعم ... تلك التي يشوبها قلقنا غير المبرّر من أن تنتهي.

ثم أضاف :

- لن أًبقي في ذاكرة الحواسيب سوى على برامج تعليم اللغات. كل لغات العالم، سيفهم كل البشر لغات بعضهم البعض، وسيمكنهم السفر من أي مكان إلى أي مكان يرغبون فيه. لن تكون هناك جوازات سفر، ولا شرطة حدود ولا حدود أصلا . ألم يجعل الله الأرض بساطا ؟ ستكون إذا بفضل مشروعي بساطَ أمن وأمان، وحبّ وخير وسلام .

- وماذا عن القوانين ؟

- لن نحتاج لقوانين مطلقا لأنَّ لا أحد سيخطئ في حق أحد . سيكون هناك قانون واحد يحترمه الجميع هو " قانون الإخوة " .

يده دائما على الفأرة . الصور تتوالى على الشاشة، ومع كل نقرة يختفي وجه بائس من وجوه مدينتنا، ويظهر مكانه وجه أخر مشرق، جميل .. أحياء غاية في النظافة والترتيب والنظام، أشجار مخضرّة باسقة انتشرت على حافات الطرقات، واجهات العمارات والدكاكين بألوان زاهية، أصص من الأزهار الجميلة تزيّن شرفات المنازل والشقق. اختفت الطوابير عند المخابز والحوانيت، اختفت الأوساخ وحاويات القمامة، لا أثر للمتسوّلات المتّخذات الأرصفة سكنا ومقاما على مدار السنة، لا أثر لمجانين المدينة، كل الوجوه نظرة مستبشرة كأنها في يوم عيد، و...عجبا ! ماذا أرى ؟ في مقهى / عفوا مكهى / العم رضوان يجلس جنبا لجنب سليمان الحلاق مع عمي أحمد الجزار، يتجاذبان أطراف الحديث، ويبتسمان في حميمية واضحة وهما اللذان ظلاّ مضرب المثل في العداء . عداوة امتدت عبر الزمن من الجدود إلى الأبناء إلى الأحفاد بسبب خصومة حول قطعة أرض .

-   هل أنت مستعد ..؟

قلت نعم وقد أخذ مني الفضول كل مأخذ . حُبست أنفاسي وجحظت عيناي ..

فجأة صرخ كمن لدغته أفعى سامّة :

-   آه... فيروس .. فيروس خبيث ضرب البرنامج ... اللعنة ..اللعنة .. شلّه تماماً .كلها حسبتها إلا الحماية لم أعمل عليها بشكل جيد. ضعت . ضعت . ضاع تعب خمسة وعشرين عاماً .

و ظلّ يدور حول نفسه ويشدّ شعره كالمجنون، ثم هرول خارجا وهو يصيح:

-   ضاع تعب العمر . ضاع تعب العمر .

***

آسيا رحاحلية

من مجموعة تدقّ الساعة تمام الغياب 2014

 

 

 

في نصوص اليوم