نصوص أدبية

احمد دسوقي مرسي: الموت والميعاد

احمد دسوقي مرسيأمسكت بمعصمه لحظات.. يا الهى.. لا فائدة.. ثم تركت يده تسقط وحدها بجواره كما تشاء. تأملته برهة وهو يرقد رقدته الاخيرة فى هدوء مخيف أسمر نحيل قامته القصيرة تستلقى على المنضدة كعود قصب ملقى من غير اعتناء شفتاه الرقيقتان كشفتى فتاة، تنفرجان قليلا، كما لو كان يبتسم لشىء غامض لا يبين. رأسه المائلة الطويلة يعلوها جرح غائر مديد يتوسط الجبهة، أشبه شىء بثعبان صغير راقد، والدم المتجلط يختلط بالتراب فى لون رمادى داكن ويرتفع مهيبا على جانبى الاخدود الرهيب كضفتين صغيرتين مرعبتين " مات الشاب اذن " فلا حول ولا قوة الا بالله " واسرعت ملهوفا الى الدكتور (ع) ابلغه باكتشافى الحزين.

كان الدكتور (ع) يجلس فى حجرته الفخمة ومرفقاه الضخمان يستندان على مكتبه الخشبى العتيق بينما حبست انامله اليسرى سيجارة راح دخانها يتصاعد حول وجهه الشحيم كساحر فى الاساطير

- وانا كرمتك جداً والله يا حاج

طرقت سمعى كلماته أحسست فى التو بالامتهاض يسرى فى دمائى حدقت فى الرجل الذى يجلس معه ملياً رأيته طويلاً نحيلاً وجلبابه البلدى البنى الذى يرتديه، يبدو واسعا على جسده كانه قد فصل على واحد غيره اما راسه الطويلة فقد تربعت فوقها طاقية صوفية تزحزحت قليلا عن جبهته العريضة فكشفت عن شعر اشهب قصير تلالا فوق راسه فى جلال رزين. كان وجهه الهضيم وملامحه الحادة تنبىء عن رجل حازم جاد يجلس امام الطبيب حزرت فى نفسى انه والد الفتى القتيل فالتماثل بين وجهيهما وطولهما شديد وعجيب

زفر الرجل فى حرارة وقال فى صوت هادىء وقور:

- موافق سيادتك يا دكتور.. موافق..

ثم سكت قليلاً وقد غلبه التأثر وعاد يقول فى أسى:

- من أجله تهون..

و لم يستكمل هز راسه فى حزن بالغ وكأن الكلمات ضاعت من فمه وابتلع ريقه فى صعوبة بالغة كما لو كان يبلع معه شوكا سعلت فى تكلف:

- اذا سمحت يا دكتور.. كلمة من فضلك..

قلت ذلك وانا لا ازال واقفا بالقرب من الباب قابضا على مقبضه النحاسى

اشار الدكتور نحوى بيده الممسكة بالسيجارة

- وهذا هو الاستاذ الذى عمل له صورة الاشعة على الجمجمة فأطمئن.

و نهض متثاقلا واتجه نحوى فى خطوات وئيدة

- نعم يا محمد (فيه) حاجة

- الاشعة سليمة يا دكتور والنبى

و كان هو الرجل ابوه سالنى وهو يقف متلهفا من مقعده ونظرات عينيه تسكب علينا خوفا وترقبا.. شعرت بالاحراج يملؤنى ويخنقنى

- اطمئن يا حاج لم تكشف الاشعة اى شىء،الجمجمة سليمة والحمد لله

كذبة بيضاء اطلقتها كحمامة سلام لترفرف على الرجل المسكين امنا واطمئنانا الى حين

- عن اذنك (خمسة) يا حاج

و امسك الدكتور بذراعى وخرج بى الى حجرة الكشف وكفه الضخمة العريضة تشد الباب وتغلقه من ورائه

- خير يا محمد. عملت صورة الاشعة على الجمجمة

- لا

و هززت راسى نافيا ونظرت الى عينيه فى تحد

- لقد مات يا دكتور (ع)

- مات.. مستحيل..

ظلت عيناى تحدقان فيه بشماته والغيظ والاسى يملان صدرى أطرق برأسه هنيهة وامسك بذقنه وراح يحكها بابهامه وسبابته الغليظتين القى بسيجارته تحت حذائه وسحقها كان وجهه الملتمع وذقنه العريضة وشفتاه الضخمتان تبدو كلها وكانها تفكر معه فى امر خطير

وضعت يدى فى جيبى قلت فى نفسى " انه يفكر ويدبر، يا ثعلب الطب، يا وحشاً فى ثياب طبيب ارنى كيف تتخلص من ورطتك " اخيرا اتانى صوته هادئا خفيضاً

- لى رجاء واحد يا محمد

- تفضل يا دكتور

- ابوه هو الذى يجلس فى الحجرة معى

- هذا واضح تماما

- نعم. واعتقد انك لن تقول له الحقيقة

- لقد سمعتنى يا دكتور وانا اقول له ان صورة الاشعة سليمة

- متشكر جداً يا محمد.. أنا عارفك لبق وذكى جداً فى مثل هذه الاشياء

صمت قليلا وضع كفه على كتفى – ابتسم.

- عارف، لو انك اخبرته لصدمته صدمة الله وحده يعلم كيف سيستفيق منها

ابتسمت ساخراً يحسبنى اننى زرعت الاطمئنان فى قلب الرجل من اجله

- انت تفهمنى يا محمد

ثم فتح باب الحجرة فى هدوء ودخل على الرجل فى وثوق

- صورة الاشعة سليمة تماماً.. ألف مبروك يا حاج أما العملية فستجرى له حالا فاطمئن وانسحبت اخرج فى صمت وخطواتى تحملنى – لست ادرى لماذا – الى حجرة الاشعة من جديد

كان الشاب ممددا فوق المضدة جثة صامتة متخشبة لا حول لها ولا قوة وجهاز الاشعة يطل عليه من فوق راسه المحموم وكانه يتعجب له من طول رقدته تحته

اشحت بوجهى عنه.. " اه يا رب. ستظل رؤية الموت معنا شىء مخيف مهما تعودنا على رؤياه ".

صك سمعى صوت الدكتور (ع) وهو يجلجل فى الصالة:

يا سلام حضر حجرة العمليات بسرعة

- 2 –

لو ان الفتى قتل فى طريقه لما عرف بوليس المركز قصة موته او قتله ولدفن كما تدفن كل الاموات ممن اماتهم الله بمشيئته.. ثم الويل كل الويل لقاتله وكل رجل فى اسرته فأنه مقتول.. مقتول لا محالة حتى ولو اختفى فى بروج مشيدة لكن الضربة الرهيبة لم تقتله سريعا.. اتته كالصاعقة من خلفه فى المساء على الطريق الزراعى فسقط بعدها مغشيا عليه حتى اذا راه البعض منطرحا على ظهره فوق التراب كان يتنفس ويرد على سائليه ببطء شديد وراسه ترقد مائلة كصخرة ثقيلة على تربة الطريق بين دم متخثر معجون بالطين

حملته الاسعاف الى مستشفى المركز بالامس بعد اذان العشاء وحوله جمهرة كبيرة من ذويه وعارفيه وكانت وجوههم الصامتة تكبت غضبا عنيفا يكاد يفجر صدورهم بالغل والحقد وكل شىء فيهم يتوعد فى صمت مهيب بثأر لهم هو ات عن قريب

سألوا عن طبيب المستشفى (النوباتشى) فأجابهم اسماعيل (التمورجى) وكان هو الذى قابل جمعهم الذى يغلى

- فى البيت

صرخ أحدهم فى وجهه:

- كيف يكون فى البيت ويترك المستشفى فى هذه الساعة؟

رد اسماعيل ساخراً:

- حكمة ربنا.. أسالوه هو ولا تسألونى

جمجم بعضهم بالفاظ تشتعل بالسباب طار وفد منهم الى الطبيب بأسرع ما تحملهم ارجلهم وكان الجرح الغائر فى جبهة الشاب قد انتقل الى راس كل منهم

قال لهم الدكتور (ع) حين قابلهم:

- لا يمكننى الخروج الان.. الصباح رباح

تأثر واحد منهم قال بضراعة أشبه بالنحيب:

- أعمل معروف يا دكتور.. الولد نزف دمه اعمل معروف الله يعمر بيتك

- لا استطيع قلت لكم

برز ابوه نحيلا.. مضعوفاً..

- ابنى الوحيد يا دكتور.. مستعد افديه بكل ما تريد

تحت ضغط الالحاح الشديد جاء استاجروا له عربة حملته الى المستشفى حملاً وكان الوقت قد اوغل بقاربه بعيدا فى بحر المساء الحزين نظر فى وجه الشاب هز راسه وقلب شفتيه وفى هدوء ابرد من ماء الثلج، امر (التمورجى) باعطائه حقنة مخدرة حتى الصباح

- 3 –

دخلت حجرة مكتبى وقفت امام النافذة كانت الحقول تبدو خلف المستشفى باعواد قصبها النحيلة وكانها تستجمع نفسها لترحل فى جمع حاشد حتى الافق البعيد بينما سجى الصمت ثقيلا فى كل الانحاء مخدرا كل الاشياء والشمس هناك فى مرقدها البعيد من السماء تنفث على الارض شواظا تتلظى بالجحيم

" اف لى. اعصابى تكاد تنفلت.. لماذا انا صامت؟ جبان أنا؟ نعم.. حتى الكلمات التى هى اضعف الايمان لا استطيع النطق بها ": هززت راسى الذى يكاد ينفجر يقولون عن حالتى وصمتى (لقمة العيش) خطوت بضع خطوات فى الحجرة لم اتحمل صبرا دخلت حجرة الاشعة، فاذا بجثة الشاب قد حملت منذ دقائق.. ابتسمت.. رغما عنى ابتسمت لماذا ابتسمت؟ لا ادرى " مبروك وسلام " هذان الشيطانان ذراعا الدكتور (ع) الاخطبوطية تكفلتا بنقلها الى حجرة العمليات بالتروللى

- 4 –

خرج الدكتور (ع) بعد نصف ساعة من غرفة العمليات خرج بمعطفه الابيض ومن خلفه الشريران (مبروك وسلام) تماماً كما حزرت فى نفسى منذ دقائق هرع الى الدكتور جمع من الرجال ذوى الجلاليب البلدية يتحلقون حوله سبقهم فى الحديث وابتسم:

- الحمد لله.. الف مبروك.. العملية نجحت مئة فى المئة

- الحمد لله البركة فى (ايدك) يا دكتور

قالتها القلوب قبل الشفاه وهى تزفر زفرة الارتياح والسعادة مسح الدكتور على وجهه بالمنديل

- كله بامر الله. العبد لا يشفى.. الله هو الشافى

تمتمت الشفاه المتوترة:

- ونعم بالله

حينئذ جلجل فى الردهة صوت عجلات التروللى يدفعه امامهما " مبروك وسلام "

جرى البعض نحو التروللى هتف الدكتور (ع) بصوت صارخ مبحوح:

- لا.. لا من فضلكم حالته لا تسمح بان يقترب منه اى واحد. دعوه الان يستريح حتى يفيق من البنج تماما

- ولكن يا دكتور..

- ولا لكن.. و لا حاجة.. الساعة الخامسة ممكن تطمئنوا عليه ارجوكم دعوه الان

انفض الجمع المسكين من حوله وقد عشش على ملامحهم طائر الاقناع الجميل

- الحمد لله

و جلس منهم من جلس وكانهم يستريحون بعد عناء طويل

- الف مبروك يا حاج.. الف مبروك..

و تكاثر الجمع حول الرجل الاسمر (ابوه) يشدون على يديه ويتمسحون به ويقبلونه فى وجنتيه والرجل الطيب يبتسم وافراح الدنيا كلها تتراقص بين شفتيه.. ودموع الحمد تخضل عينيه

- 5 –

- اسمع يا محمد

و التفت الى مصدر الصوت الذى باغتنى من خلفى فاذا..

- تعال معى اذا سمحت

و دخل بى حجرته وهو يتقدمنى بخطوات مهرولة ثقيلة

- اقفل الباب

اغلقت الباب فى تكاسل فلنسمع ولنرى التدبير الاخر لقد بانت الان اصول اللعبة

- اجلس

- لا شكرا

- اجلس يا استاذ محمد اجلس

و تبسم لى ابتسامة ثعلبية:

- تفضل سيجارة

- شكراً يا دكتور.. ألف شكر

- امسك السيجارة عليك عفريت اسمه شكراً

تناولت السيجارة

- الحمد لله

و انحط كالبرميل جالسا على كرسيه حدقت فى عينيه سعل فى تكلف

- غمة وانزاحت يا ستار

و دس يده فى جيبه متنهدا متأففاً

- تعرف يا استاذ محمد انك انقذت الموقف انقاذا لا مثيل له ولا يسعنى – والله – الا ان اهنئك عليه

لم اتكلم.. ظللت فى منزل الصمت متحصنا خلف جدرانه

- يا سلام يا محمد يا سلام.. انت رجل ذكى جدا.. اتفضل

- ماذا يا دكتور؟

- عشرة جنيهات

- حد الله يا دكتور.. حد الله

نهض واقفا " امسك بكتفى "

- انت احسن منى مثلاً.. خذها خذها ولا تكن عبيطا

- ربنا سترها يا دكتور بالحلال.. الحمد لله

و قبلت يدى ظهراً لبطن

- يا محمد يا حبيبى لا تكن حنبليا هكذا

و امسك بيمناى فى قوة لكنى خلصتها منه بشدة وتراجعت عنه خطوتين:

- مستحيل

- مستحيل !

و ارتسمت على محياه خيبة امل غير متوقعة لكنه تماسك وامسك بكتفى

- انت يا محمد شاب. ومحتاج الى تكوين نفسك

- اكون نفسى بالشرف يا دكتور

- تقصد يعنى اننى غير شريف

و تعقدت اساريره وساد بيننا صمت واجم كان قلبى يتخبط بين اضلاعى ملتاثا وصوت مخبول يهيب بى ان اصرخ من اعماقى لاكشف الحقيقة.. كل الحقيقة باعلى صوتى

- انا اتكلم عن نفسى يا دكتور

- انزل يده واجهنى بظهره العريض يكتم غيظه المتأجج نحوى جاءنى صوته مع ذلك هادئا بعد قليل يا لك من بطل يا دكتور تسيطر على نفسى فى كل المواقف.. " برافو"

- محمد.. هذا العناد لا يفيد.. لا ترفض رزقا ساقه الله اليك

لم اتمالك نفسى ضحكت الغيظ اضحكنى شر البلية ما يضحك

تسميه رزقا.. واعجبا.. !!

و هززت راسى هازئا

- لا تحاول معى يا دكتور.. ارجوك

استدار نحوى انفكت اساريره وابتسامة واسعة جدا تلتصق بشفتيه

- طيب يا محمد.. اذا كنت ترغب فى ذلك فانا احترم رغبتك.. و لكن.. واقترب منى اكثر

- لى رجاء واحد وانا أعتمد على الله ثم عليك.. الا تذكر شيئا مما رأيت أو عرفت.. انت عارف طبعا كلام الناس.. انك اذا فعلت فسوف تجاملنى بعمل لن انساه لك طول الحياة

- اطمئن يا سعادة البيه اطمئن ولكن هناك سؤال واحد ارجو الا تبخل باجابته على ماذا سيفعل ابوه حين يكتشف الحقيقة؟

- لن يفعل شيئا صدقنى سوف يدخل الحجرة فى الساعة الخامسة فيرى الجرح قد خيط وهكذا يكتشف الحقيقة بنفسه صحيح انها حقيقة مرة ومؤلمة ولكن هل هناك احد يمنع الموت؟

ثم ابتسم واشعل سيجارته التى تناولها من على مكتبه

- فالموت على رقاب العباد.. و كل شىء الى ميعاد.

- تمت –

***

احمد دسوقي مرسي

 

في نصوص اليوم