نصوص أدبية

باسم الماضي الحسناوي: أبو يزيد البسطامي

باسم الحسناويجبَّة البسطاميِّ ليست بسعة الله هذه الليلة

فلو حدَّثتموه عن نفسه الآن

لقال: إني أعود إلى رشدي اللحظة

وأستغفر الله مما كنت أقوله آنفاً

**

نظر البسطاميُّ حوله

فرأى نمراً يتوثَّب في العراء

فقال: إني مأكولٌ لا محالة

فإذا كان جوف النمر قبراً لي

فسأعيش تجربة يونس في جوف الحوت

مع فارقٍ واحدٍ

وهو أنَّ جوف النمر أرقى قليلاً

من جوف الحوت

من جهة أنَّ الماء

قد يخفِّف من عناء الغربة

أما في جوف النَّمر

فالأمر بخلاف هذا

لأنَّ الغربة ستكونُ

أضعاف ما عليه حال النعناع في الصحراء

وعلى هذا الأساس

سيكون الله في قلب البسطاميِّ متلألئاً أكثر

حتى أنَّ قلب الماء نفسه

لن يكون أكثر نقاءً

من قلب البسطاميِّ في تلك الحال

**

كان الله ولم يكن معه شيءٌ

وكانت الأشياء

وكان الله سابقاً لها في كلِّ الأحوال

أمّا أبو يزيد البسطاميُّ

فلم يكن مع الأشياء

ولا كان قبلها

ولم يأتِ بعدها بالطبع

كما انَّ الرجل أعلن توبته

من أن يقول إنه كان مقارناً للمشيئة

فلم يبقَ للبسطاميِّ من حلٍّ لمعضلة الوجود

سوى أن يقول إنه كان في لحظة خلق العالم

سديماً داخل مجرَّة النوم

آية أنَّ النوم هو البرزخ الأكيد

بين الموت والحياة

**

قل لي يا أبا يزيد البسطاميّ

كيف رأيت نفسك داخل الكأس

هل رأيتها كما لو أنها امرأةٌ

تغازل رجلاً محرَّماً عليها في جوف الليل

أم هل رأيتها كما لو أنها غابةٌ

تخذت لها هيأة النار

ومع ذلك فإنها تصرُّ على الوقوف

جنباً إلى جنبٍ مع أصحاب الأعراف

على ذلك الخطِّ الفاصل

بين النجاة والسقوط في هاوية الأسماء

لا تخجل من أن تقول الحقيقة

أيُّها البسطاميّ

لا تفزع من وجهي

إذ يبدو لك غريباً بعض الشيء

ولا تتجهَّم كثيراً

فأنت مرادفٌ في نظري للماء

والماء يضحك بالطبع على الدوام

إلا أن يكون في بعض المواقف ثاكلاً

فإذا كان الثكل من صفات الماء

فمن المعقول أن تعزِّيَهُ بشيءٍ

من ملح البكاء

لكن على أن يكون طعم البكاء

في تلك الآونة جمراً

مضافاً إلى شيءٍ آخر

وهو أن تكون منبعثةً

من الجمر أنفاسُ البخور

**

كم يكذب الرجل إذ يقول

إني راحلٌ غداً عن هذا الفضاء

فأنا أعرف حقيقةً واحدةً لا غير

وهي أنَّ الرجل يرحل بالتأكيد

لكنَّه يصطحب الفضاء معه

وكلَّما كان قريباً إلى نفسه أكثر

كان الفضاء لصيقاً به أكثر أيضاً

حتى يفقد الرجل الإحساس بوجود نفسه تماماً

فلا يكون موجوداً في نظره إلا ذلك الفضاء

لكنَّ  الرجل مضطرٌّ إلى الكذب أحياناً

فيسدِّد الضربة القاضية

إلى فمه كلَّما نطق بالصدق

خاصَّةً عندما يكون واقفاً

على شفير الهاوية بمحاذاة النور

مع هذا لا يكون الصدق

كريهاً إلى الرجل في الكثير من الأحيان

لأنه لا يكون واقفاً على شفير الهاوية

بمحاذاة النور على الدَّوام

ولأنه يتعاطى المكان والزمان

كما لو أنهما عصير رمّانٍ حامضٍ

فتراه يزمُّ شفتيه

وتدمع عيناه قليلاً

ريثما تذهب حموضة الزمان والمكان معاً

فيعود إلى رشد الأشياء

كما لو أنه قابل جبرئيل للتوّ

وتراه على أهبة الإستعداد تماماً

لأن ينقضَّ على رقبة العالم

كي يقول له شيئاً واحداً قبل الذبح:

أيُّها العالم لا تغضب مني

إذ أقوم بحزِّ رقبتك الآن

لأنك لم تكن يوماً ما

على وفاقٍ مع العارف

ولم يكن العارف ينظر إليك

إلا بوصفك شاةً

دمك أيُّها العالم إثمٌ

لا على العرفاء والشعراء طبعاً

بل هو إثمٌ فقط

على من قال إني أقوم بتشريح العالم

مفصلاً مفصلاً

وعلى من قال إني أستطيع

أن أعيد نشأته الأولى

كما لو أنَّ كيانه الدقيق هذا لم يتفتَّت قطّ

**

لم يعتد الناس على أنهم يموتون

بالرغم من أنهم ينظرون إلى أرتال الموتى

من أمامهم يمرُّون

وبالرغم من أنَّ أجهزتهم الهضمية

والعظمية والتناسلية

وكلَّ ما له علاقةٌ بالأعصاب

رهينٌ برفسة عزرائيل في كلِّ حينٍ

ذاك أنهم يلجون الدائرة

وهم بعدُ في القماط

لا يعرفون معنى المكان

وذاك أنهم يلجون الوقت

وهم بعدُ لا يعرفون معنى الزمان

وهكذا تمرُّ حياة المرء

من دون أن يفهم شيئاً عن مغزى الحياة

لكنَّ أبا يزيد البسطاميَّ

خالف هذه السيرة منذ صباه الأوَّل

أي منذ كان في صلب أبيه ماءً

ومنذ كان في ترائب أمه رعشة شهوةٍ ليس إلا

فقد كان يبكي وهما يضحكان سروراً باللقاء

ولقد كان يندب حظَّ ابن آدم

وهما يتوهَّمان أنهما مقبلان

على إنجاز عملٍ عظيمٍ سارٍّ

ولقد كان أبو يزيد البسطاميُّ

هائجاً في تلك الساعة

يشاء أن يقلب بهما مركبة العالم

لكنهما كانا الأقوى جسداً

وكان هو الأنحف من هذه الجهة

فاكتفى بأن يعضَّ

على خمسة أصابعه ندماً ويلعن الوجود

وإذ مازج أبو يزيد البسطاميُّ غبار العالم

وصار طيناً منه

لم يطق أن يظلَّ على كآبته مقيماً

فلقد شاء أن يبتكر فرحاً

وقد استطاع ذلك بالفعل

لكن بعد أن ابتكر طريقةً أخرى لحزِّ الرأس

لم يعهدها أحدٌ من قبل

فأقبل على جسده هذا

فأفرغه من روحه

ولم تبقَ لروحه علاقةٌ بهذا العالم

إلا من جهة الجُبَّة

ولقد كانت الجبَّة رمز العالم

وكانت تشعُّ منها رائحة الروح بقوَّةٍ

فتشدُّه إلى المكان

ولهذا لم يجد من الوفاء لها

أن ينكر لها هذا الشوق

فنطقت الروح آنذاك

وهي سكرى طبعاً:-

ليس في الجُبَّة إلا الله

***

باسم الماضي الحسناوي

في نصوص اليوم