نصوص أدبية

علي فضيل العربي: دقيقة صمت

قبل..

المدينة غارقة في دوامة الصخب حتى أذنيها. عقارب الساعة تعلن منتصف النهار وأنت مشدود إلى بيتك تحث الخطو وسط محيط من الأنفاس والعرق. الناس زرافات وفرادى وقد أخذ الإرهاق كل جهدهم..

فجأة جمحت صفارات عن أعنتها. وخزك صهيلها. انتشر في الشارع المزدحم عبر أقاليم جسدك كالبرق في الآفاق.. غمرتك قشعريرة وارتجفت كقصبة طرية طوقتها عاصفة هوجاء..

خلال..

حالت الأجساد وشما على الطرقات والأرصفة. خرست الألسنة واعتقلت أياديها وأكفها عن بكرة أبيها.. جحظت الأعين. لا حركة ولا جلبة. انتصب الناس كأصنام رومانية. غرقت المدينة في طوفان الصمت. لم تطق الصبر مقدار قطمير.. تساءلت مندهشا:

- يا إلهي ماذا حدث؟

ثم رددت بخفوت:

- كلهم كانوا يسيرون ويتكلمون. لماذا توقفوا كعرائس كراكوز؟

انطلقت تعدو بينهم لا تلوي على أحد. تجوس بين الأجساد المنتصبة كجذوع نخيل التهمتها نيران الغدر. وصرخت غائر الحيرة:

- يا إلهي هل وقعت الواقعة؟

لكزك أحدهم هامسا:

- قف يا مجنون وإلا ثكلتك أمك؟

- ولماذا الوقوف والصمت والثكل يا صنم؟

- قف وإلا أكلتك دودة المعتقل بتهمة الخيانة العظمى. قف واصمت دقيقة واحدة تضامنا مع إخواننا في فسطلين، تنديدا بجرائم آل صهيون؟

- بل فلسطين يا صنم؟

تدفق نهر الأسى هادرا إلى قرار الروح وسويداء القلب ,,قلت بحرقة وسأم:

- أعوذ بالله من شر الصمت والوقوف.. دقيقة واحدة ثم ينصرف كل منا إلى كهفه.. أعوذ بالله.. لن أصمت ولن أقف ولو ثانية واحدة. إلى متى الصمت والوقوف؟ إنهما يمتدان من غرناطة إلى القدس إلى بغداد. كفانا، كفانا، كفا نا، كفانا ااااا.

ثم صرخت والألم ينخر كيانك:

- أيها الناس، احرقوا الصمت والوقوف، تحركوا، تطهّروا من الزيف.

لكن أحدا لم يأبه لصرختك المدوية التي زلزلت الأجداث. لم يشعروا بوجودك قط ,,تاهت صرختك في قيعة السراب. أعدت الكرة وزرعتها سيوفا في راحتيك وطفقت تدفعهم بكل قواك وعزائمك الملتهبة ولسان حالك يردد:

- تحركوا شبرا، مترا، لا تقفوا كالتماثيل، لا تصمتوا كالأموات. هذا ليس زمن الصمت يا أشباه البشر، تحركوا ,تحركوا..

لكنهم واصلوا طقوس الصمت في براري ليس لها حدود كما لو كانت شريعة سماوية.

همست مصعوقا:

- مابهم لا يجيبون ولا يتحركون.. يا إلهي هل تبرأت منهم أسماعهم وأبصارهم؟

اتسعت جراحك وتعمقت، وانزرعت في أثلامها واحات الملح، وأشواك الأسى. اضطرم غضبك، واشتدت عواصف غضبك. تمنيت لو أنك تملك مدية يمنية، أو سيفا عمريّا، أو كنانة معبأة بنبال أمازيغية، وددت لو تحصد تلك الرؤوس المشرئبة نحو هوة العدم. ضربت الأرض بقدميك لعلها تميد بهم، ودعوت الله بقلب سليم أن يدك الجبال على رؤوسهم، أو يحيلها حجارة من سجيل فتجعلهم كعصف مأكول؟؟

طوفت بين الأجساد المتصنّمة. أدركت أنهم فقدوا نعمة الإحساس. عقولهم متيمة إلى المجهول وهم منتصبون كأعمدة نخرة. لمحت امرأة عارية كاسية كأنها مومياء فرعونية. ثم ذ كرا ملتصقا على شفا حفرة نتنة يكاد يكب على وجهه ومنخريه. ازدادت سراديب روحك غثيانا. انحنيت وتقيأت وأوشكت أمعاؤك تنزلق من حلقك المبحوح. تعوذت ولعنت الشيطان الرجيم.

أحسست أن الدقيقة تناسلت. بدأت الأجساد تفقد ستائرها رويدا رويدا. بدا منظرها سخيفا طأطأت رأسك خجلا , خشيت أن يصيبك مس من هول المنظر. حوقلت وتعوذت. كانت الأجساد المسمرة تنحف وتتقزم. حدست أن وحشا خرافيا خفيا ينوش لحومها ويرتشف دماءها. رمقت العيون الجاحظة تنكمش وتضيق، والمقل تتخلى عن ألوانها وبريقها. جسست جسدك وأنت ترتجف. وددت لو رأيت سحنتك في مرآة مصقولة..

تأوهت ثم ابتلعت ريقك كمن نجا بأعجوبة من طلقة طائشة. رددت مستغربا لاهثا:

- يا إلهي، ألم يشعروا بما أصابهم؟ لقد صاروا عرايا. متى يتحركون؟ إنهم يصغرون، يذوبون كقطع الثلج أدركتها شمس حارقة. متى، متى؟

استمررت تسعى بينهم. أقزاما كانوا وكنت عملاقا. صرخت للمرة الألف:

ما بكم كأعواد غابة مندثرة.. تحركوا.. كفى صمتا ووقوفا.. لن تفلحوا أبدا ولو وقفتم الدهر كله. هزائمكم تكبر وتتمطى فوق صدوركم في كل ثانية.. ستتراكم على هاماتكم وأنوفكم حتى تصبح طودا باذخا..

لم يحركوا طرفا. أصروا على الوقوف والصمت.ضرب الدهر على أسماعهم. طارت من جوانحهم أفئدتهم فهم كالحجارة أو أشد.. تقززت نفسك وقهقهت كالمجنون.. ازدادت الأجساد نحافة واصفرارا.. بدأت الشعور تنسل وتتطاير في مهب الريح.. كدت تقع أرضا.مررت أناملك بين خصلات شعرك. أطلقت زفرة حتى ضاق صدرك..

ثم راحت الأظافر تهجر أصابعها , وتتناثر حانقة، رافضة البقاء بين أحضان الأيادي المشلولة..

نظرت إلى أظافرك وقلبت كفيك على جميع الجهات.. غلبك الغثيان كرة أخرى.أيقنت أنك وحيد وسط أكوام من أجساد بلا شعور ولا أظافر. هتفت بتبرم وملل:

- أما آن لكم أن تتحركوا وتضجوا، آه لو ترون صوركم. ستفرون منها تحركوا قبل انقراضكم، تحركوا.. تحرّكوا.

لكن هيهات، كل ما فيهم جمد وهرم وصدأ.. تساقط اللحم. تعرت العظام.تراءت الأجساد هياكل بلا لحم ولا شحم ولا دم. ارتعت وتفحصت جسدك..

توشّحت المدينة السواد وملأت العفونة السبل والأرصفة. غزت الديدان فتات الأجساد.. أطلقت ساقيك للريح بعيدا عن جحافل الدود. خشيت أن تحسبك منهم فتلتهمك وأنت حي ترزق. انزويت في ركن غير مصدق بعدما حاصرتك كتائب الدود من كل ناحية.

بعد..

اخترق رنين الصفارات أسوار الصمت. دبت الديدان مسرعة نحو جحورها.لم تعد المدينة كسيرتها الأولى. تغير لونها. كأنها مقبرة من أيام عاد وثمود وإرم ذات العماد.وفجأة تهاوت الهياكل العظمية وتبعثرت، اقتلعتك الدهشة من فزع المكان، ووليت هاربا.

{ تمـــــــت }

***

قصة قصيرة:

بقلم الناقد و الروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في نصوص اليوم