نصوص أدبية

لمى ابوالنجا: براشيم (2)

مع الوقت بدأ سرحان يستمتع بمراقبتنا وبطريقة ما غير مباشرة يحاول التواصل بزرع الفتنة وتأليف قصص من رأسه لنتقلب على بعض كنت دائما ألمح إبتسامة خفيفة ترتسم على وجهه بعد كل مرة يتحدث معنا أو يوبخنا وقد أصبح مصدر إزعاج للجميع.

حدث أن مرضت وتغيبت عن المدرسة لعدة أيام لم أكن أتمتع بصحة جيدة منذ طفولتي وعانيت كثيراً من عدة نكسات صحية متفرقة كرهتها وكرهت جسدي المريض لكن الشيء الذي لم يتغير حتى الآن هو أني لم أستسلم أبداً لتلك النكسات ولم أعطيها أكبر من حجمها وأغضب ممن يجعل منها سبب يوقفني عن أي شيء أريده.

فور صعودي الباص قال لي: "الباص كان هاديء بغيابك ليتك تغيبين دايما يالبقعة" وكلمة بقعه معناها "مصيبة" باللهجة السعودية الجنوبية وتستخدم غالباً للشتيمة ،أثار غضبي بشدة فصحت بوجهه:"موشغلك " ومن جديد لمحته يبتسم،أثناء تحرك الباص كنت واقفة لأعانده وهو يأمرني أن ألزم مقعدي ثم وقعت حقيبة من الرف العلوي علي وتسببت بسقوطي وإرتطام رأسي بإحدى المقاعد فقال: "تستاهلين"

فقررت لحظتها أن أبعده عن وجهي وللأبد.

تم الإتفاق بيني وبين شلّتي على التخلص من سرحان الذي كان يتدخل بشؤوننا ويقلبنا على بعضنا إستطاع بسياسة الفساد أن يحدث بعض المشاكل وتوعدناه بالإنتقام وقد كان يستحق.

خضنا معه حروباً طاحنة لم نستطع خلالها أن نسدد له الضربة القاضية .

بعد تفكير مطول وخطط كثيرة باءت معظمها بالفشل وفي لحظة تأمل شيطانية قفزت إحدى صديقاتي قائلة: بنات !! أخيراً عرفت كيف نتخلص منه إسمعوا هذه الخطة: سرحان السارح في روان وفي جمال روان دعونا نستخدم هذه السقطة ضده، وبالفعل توجهنا لمكتب المديرة وشكونا عن نظراته لزميلتنا التي أخبرتها بدورها أنها لا تشعر بالأمان بوجودة وفوراً استجابت المديرة لتلك التصريحات الملغمة وطلبت تغييره بمراقب آخر.

وجاءنا جندي جديد، يبدو أنه كان يطمح بشدة أن يتولى منصب ضابط خفر وقد بدأ يتدرب على ذلك بالفعل علينا وجد فينا المتنفس الذي يفرغ فيه الذل والهوان الذي كان يتجرعه في العسكرية طوال اليوم، كان عصبي المزاج قوي البنية يغلي في ثورات غضب عنيفة وعلى أتفه الأسباب في أول مهمة له معنا وقف في منتصف الباص وضرب المقعد بالسوط ليصدر صوتاً مهيباً وقال: "إسمي سعيد وأي جنية منكم لاتحسن السلوك سوف تسمع هذه الضربة على جلدها " وفوراً أذعنا تحت سيطرته وإستسلمنا له بشكل كامل كان شديد البأس ومن الرجال القلائل الحصينين ضد الكيد النسائي من الغواية وفنون الإغراء.

حاولنا بعدة طرق واستخدمنا جميع الحيل للإيقاع به وإيجاد ثغرة واحدة بلا فائدة حتى أن "خديجة" الجميلة القصيرة المزعجة سرقت بعض مساحيق التجميل من أختها الكبرى ولطختها على وجهها وفور دخولها الباص أسقطت ربطة شعرها متعمدة تحت مقعد سعيد وهمست بإذنه بشيء لم نستطع سماعه فنهض من مكانه وكأن جنّي تلبس جسده وضرب المقعد بالصوت وراح يطلق تهديداته المعهودة فارتعبت الفتاة وبقيت ملتصقة في المقعد الأخير حتى وصلنا لحارتهم ،تقدم نحوها وسحبها من يدها وهو يصرخ فيها ويأمرها أن تنزل معه ليخبر والدتها شخصياً عن تصرفاتها والبنت تكاد تفقد الوعي من شدة البكاء وهي تردد "الله يخليك سامحني آخر مرة" حتى تركها وشأنها وما أن بدأ الباص بالتحرك شتمته بصوت مرتفع ودخلت مسرعة للبيت.

لكن شدة بأسه لم تمنعنا من تحريف إسمه إلى "تعيس" مع تخفيف نطق حرف العين ويبدو أنه كان يعلم بذلك ولم يبالي.

و في سبيل إستغلال الفرص المثالية استخدمت سعيد وشخصيته العنيفة وإضطرابه النفسي لتحقيق العدالة والإنتقام من المشرفة التي كانت سبباً في معاناتي والعذاب الذي عانت منه صديقتي روان بسبب البرشام المشؤوم ،في آخر أسبوع من الإمتحانات أخبرتني المشرفة أنها سوف تتأخر في المدرسة لإجراءات التصحيح وسوف ترسل إبنتها معنا بالباص وأمرتني أمر أن أنتبه لها بطريقة مستفزة كانت كفيلة أن تقتل عندي أي نية في حمايتها قالت: "بما إنك جارتنا أكلفك تنتبهي لإبنتي رغم إنك لست أهلاً للثقة لكني مضطرة لهذا الإجراء ولو حصل شيء لها تأكدي إني لن أرحمك إن أصابها مكروه" الغريب أنها تبغضني بشدة لأسباب كثيرة معظمها لا علاقة له بشقاوتي بالمدرسة بل أنها كثيراً ما وجدت في تلك الشقاوة حججاً لتنزل علي حقدها وغيضها الشديد مني ومن تفوقي وتقدمي الدائم على إبنتها لهذا كانت لاتسيء لي فقط وإنما تحاول الإساءة إلى كل من يتقرب مني ولا أعلم كيف وثقت فيني في ذلك اليوم لتلقي بإبنتها في التهلكة لعلها إعتقدت أن تهديدها سيوقفني عن أي حماقة أنوي إرتكابها ، على كل حال كانت تلك التجربة الأولى وعلى مايبدو الأخيرة لإبنتها لركوب باص المدرسة.

عشت صراعاً بين ضميري وبين التفكير في أن فرصة كهذه لن تتكرر لتأدبيها هي ووالدتها معاً .

لم يأخذ منا الموضوع أي مجهود سوى أن نجبرها على الرقص وفوراً بدأت الفرقة الغنائية بالتطبيل وربطنا خصرها ورقصت تحت الإكراه وقف سعيد بالسوط يصرخ ويزمجر وأخذ ورقة وكتب أسمائنا وأعطاها للمديرة، في اليوم التالي تم إستدعائي وشلتي في الإدارة بإستثناء بنت المشرفة لننتفض في ثورة عنيفة ونرفض العقاب وحدنا وطلبنا إستدعاء بقية الطالبات للشهادة أنه لم يرقص غيرها حاولت والدتها تكذيبنا وتضليلنا أن تلك التصرفات الشوارعية لاتصدر من ابنتها لكنا أصررنا على موقفنا وهنا صرّحت "خلود" عن الأجندة الخفية وقالت: "نحن أجبرناها ترقص متعمدين حتى نعرف هل نتعاقب وحدنا؟ أو تتعاقب معنا"

بعد عدة ساعات قضيناها بالإدارة متفرقة بين التوبيخ والضرب والإهانات انتهى الأمر بإستدعائها وضربها "ضرباً غير مبرح" وتوقيعها على تعهد مثل بقيتنا.

و كانت تلك الشرارة لعداء شرس بيني وبين تلك المشرفه وابنتها استمر من الصف الخامس الإبتدائي وحتى تخرجنا من المرحلة الثانوية..

***

لمى ابوالنجا – قاصة وكابتة سعودية

في نصوص اليوم