نصوص أدبية

ناجي ظاهر: الإرث

في آخر الليل أطل أخي الاكبر المتوفى منذ أكثر من عقد من الزمان يرافقه حوالي العشرة من اصدقائه الموتى، أرسل ابتسامة صفراء نحوي. قال:

- سأذهب معهم لتقسيم الأرض..

أردت أن أصرخ به. أن أقول له ما ورّثه أبوك لك ولأخوك، سآتي معك سنقسّم الارض بالتساوي بيننا نحن الاخوة الثلاثة، إلا أنه بادرني متابعًا:

- بإمكانك ألا ترافقنا.. أنا أسدّ عنك.

فكّرت في أن أتصل بأخي الاصغر، أن أسأله عن رأيه، لا سيما وأنه شريكنا الثالث في الارث، فبدا أن أخي الاكبر أدرك ما أفكر فيه.. ففاجأني قائلًا:

- بإمكاني أن أسدّ عن أخينا الاصغر أيضًا.

شعور بهزّة وجودية انتابتني.. صاعقة.. زلزلت الارض.. فتطايرت شظاياها في كلّ اتجاه، ماذا يريد أخي؟.. أيريد أن يضمّ إلى المغبونين في الارض مِن إخوة وأشقاء رقمًا آخرَ جديدًا.. أيريد أن يستفرد بالإرث وحده.. لا لن أسمح له.. سأدافع بأسناني عمّا ورّثه لنا والدانا.. ولن أسمح لأي كان أن يهضم حقي وحق أخي الاصغر.. لا لن أترك أخي الاكبر يأكل حقنا.. وإنما سأرافقه إلى هناك.. إلى تلك البلدة البعيدة.. سأمشي إلى جانبه وجانب رفاقه سأتوقّف أينما يتوقفون وسوف أتابع حيثما يتابعون، وعندما سيدخلون مكتب المحامي لتقسيم الارث سأدخل معهم.. لن أوقّع على أي ورقة أو مستند قبل أن أقرأ ما ورد فيها أو فيه.. لي حق في أرض والدى مثلما لأخي الاكبر وأخي الاصغر أيضًا.. وماذا ستفعل أيها الانسان الفِتح الحذر المنكّح؟ هتفت بأعلى صوتي:

- سأرافقهم.

عندها جاءني صوت أخي الاكبر.. ساخرًا:

- سترافق مَن يا شاطر؟ ألا تؤمّن لي؟ ألا تثق بي؟

تناسيت ما قاله أخي وأجريت تعديلًا بسيطًا فيما سبق وقلته. قلت:

- سأرافقكم.

صمت أخي. أثارني صمته أكثر.. صمّمت أن أرافقه مُرغِمًا إياه أو بأية طريقة أخرى.. فالأرض هي آخر ما تبقّى لنا.. ونحن لا يمكن أن نتنازل عنها مهما بلغ الامر.. ومهما كلّف احتفاظنا بها من ثمن.. "عيون الطامعين في أرضنا كثيرة.. علينا أن نحافظ على حقّنا فيها مِن كلّ الطامعين فيها.. حتى لو كان أخي الاكبر". قلت بيني وبين نفسي، وجريت وراء السيارة التي طارت تطوي الارض طيًا بأخي ورفاقه.. شعورٌ بالخفّة انتابني.. أحاط بي من كلّ جانب.. طرت فوق السيارة الطائرة.. توقّفت بمحاذاتها.. أرسلت نظرة إلى داخلها.. كان أخي الاكبر يبدو مرتاحًا.. بأنه خلّفني وراءه.. وبأنه بات بإمكانه أن يستفرد بالأرض.. المورّثة لنا من والدينا.. كان هو وصحبه يرسلون الابتسامات.. وكانت هذه ما تلبث أن تتحوّل إلى ضحكات وقهقهات.. وكنت مِن ناحيتي كلّما شعرت بأن هناك مَن يسحب أرضنا.. إرثنا.. من تحت رجلنا.. أزداد تشبثًا بها.. وأرسل باتجاه العالم المُعتم حولي نظرة مفادها أنني لن أسمح. لقد رحل والداي مخلّفين لنا هذا الارث الثمين.. وعليّ أن أحافظ على حقّي وحق أخي فيه.. كي نخلّفه لذريتنا الصالحة.. "المعركة أمامك يا أبا الشباب.. وعليك أن تتحوّل إلى مقاتل عنيد كي تحافظ على حقّك فيها.. الضعف لا يليق بك في مثل هكذا موقف". قلت لنفسي وتابعت الطيران إلى جانب سيارة الموتى الطائرة.

أخيرًا.. بعد دُهور مِن المطاردة.. تمكّنت مِن أن أحطّ إلى جانب تلك السيّارة الضيّقة العابقة برائحة الموت.. وكنت أرسل نظراتي إليها مُتابعًا كلّ حركة ونأمة.. ها هي تفتح أبوابها.. ها هو أخي الاكبر يترجّل منها وها هم رفاقه يترجّلون ويتوجّهون إلى مبنى كبير انتصب في الناحية المحاذية.. إنهم يمضون نحو هدفهم بخطى ثابتة.. وها أنذا أنضمّ إليهم.. أتابع خطاهم.. هل شعر أخي بخطاي وراء رتله؟ ما إن طرحت هذا السؤال حتى بادرني اخي قائلًا:

- قلت لك بإمكانك إلا تأتي.. على كلّ ما دمت قد أتيت.. وتودّ أن تطّلع على كلّ شيء.. عليّ أن أخبرك أننا وصلنا قبل موعدنا مع المحامي بقليل.. سندخل الآن إلى غرفة في هذا المبنى.. هذه الغرفة لا تتسع إلا لنا.. وأشار إلى مجموعته، وقبل أن أقول له وأنا أين أتوجّه في هذا الظلام.. قال لي:

- لقد حسبت حسابًا لكلّ شيء.. هناك غرفة إلى جانب غرفتنا.. لا يفصلها عنّا سوى جدار من الزجاج.. بإمكانك أن تقضي لحظات الانتظار فيها.

تركت قلبي في الخارج ودخلت غرفة الانتظار المُقترحة.. راود النعاس عينيّ.. اعتقدت أن أخي وضع لي منوّمًا فيها كي أنام.. وكي يخلو له الجوّ ليشرّق ويغرّب في شأن الارض وليفعل بها بالتالي ما يحب ويشاء.. فتمرّدت وانسللت مِن الغرفة.. لاقف بمحاذاة غرفة أخي ومرافقيه.. ومضى الوقت ثقيلًا بطيئًا.. ".. يبدو أن أخي لن يجيبها البرّ" قلت لنفسي وتابعت:" أذا كنت أنت قد خطّطت.. أن أملّ.. وأن أنام.. فأنا صاحٍ لك". بعد لحظات خطر لي أن أتصل بأخي الاصغر.. أن أستعين به على تحصيل مُمتلكنا المهدّد بالسرقة في غيهب الليل.. فاتصلت به.. وأخبرته بما أنا فيه.. لم تمض سوى لحظات في دهر الانتظار.. وإذا بأخي الاصغر يحطّ إلى جانبي.. وتوقّفنا معًا أمام الباب المُغلق.. على أسرار لا عِلم لنا بها.. لنفاجأ بأخي الاكبر يخرج من غرفته ويركض.. ووراءه يركض رفاقه الموتى.. كانوا يتوجّهون صوب غرفة مغلقة.. شعرت أنها غرفة توقيع الاتفاقية الظالمة.. عندها أشرت لأخي الاصغر أن نشرع في الجري وراءهم.. فجرينا وكانوا هم يجرون ونحن نجري.. المثير في الامر أننا.. أخي الاصغر وأنا.. لم نكن نشعر بالتعب.. مثلما كان يفعل أولئك الراكضون وراء أخي الاكبر.. وبقينا نركض حتى أطلّت تباشير الفجر.. من بعيد.. بعيد..

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم