قضايا وآراء
ابن الجنوب في الدراما
المدرسة الثقافية التي تتعامل مع المشاعر الانسانية بالتجسيد الاني في الصورة والصوت وتجعل المتلقي يعيش الحالة ويتفاعل معها بل ويكون جزء منها في تواصل عاطفي وحسي وهو النوع الاب من انواع الدراما التي لها القدرة على بث الافكار وتغيير السلوك والتحريض والدفع الى اي اتجاه سلوكي وحسب توجهات صانعيها وما يريدون من اشاعة او حجب للقيم الاخلاقية والثقافية .
وبعد ان تطور المسرح وتعددت مدارسه وتنوعت مناهجه واختلفت اشكاله بحسب الزمان والمكان والمتغيرات السياسية والاجتماعية وكذلك الاقتصادية حصلت تبدلات ايضا في الرؤى والنظرة في الممارسات اليومية وتعامل المجتمعات مع المستجدات والتقدم التقني واستثمار هذه المستجدات في خدمة الاهداف ذاتها لتتحول الدراما المسرحية التي لابد من الذهاب الى مكان عرضها الى ان تاتي للبيوت من خلال جهاز الراديو ومن ثم تطورت الى ان تقدم بالصورة والصوت من خلال السينما حتى جاء الجهاز الخطير الذي يقدم هذه الاشياء انية في البيوت وهو التلفزيون . وكما قدم المسرح ومن بعده الاذاعة والسينما ابن الجنوب راح التلفزيون يقدمه على نفس النمطية بنموذج لا ندري من اي كوكب يوتى به والتي تعاملت معه على انه شخصية لا يمكن ان ينسجم ومفردات الحياة خصوصا اذا دخلت المدينة .
اجتهد الكتاب وصانعي الدراما التلفزيونية في تقديم هذه الشخصية بشكل لابد وان يثير السخرية ويكون محور للاضحاك للمطبات التي يوقعونه بها ولانه اصلا غير قادر على فهم الاشياء ولا يعرف التعامل مع هذا الكون مثل اي كائن سوي واستمر هذا التعامل بتقديم ابن الجنوب بصورة تثير فينا الشفقة تارة والحنق تارة اخرى في اشكال لاتمت للحقيقة بشيء الا من اجل الابقاء على تهميشه وجعله خارج اسوار الحياة متناسين انه ينتمي الى مجتمع القيم النبيلة والاصول العريقة وما يتحلى به من كرم وغيرة وشجاعة ومن حكمة ودهاء عالي ببساطة متناهية ومتناسين انه انجب اليوم اشهر الشعراء والفنانين والعلماء وهم يقعون في التباس كبير حتى في التناول وعدم الدقة في البناء الدرامي .
واذا اردنا التحدث عن الخطوط العامة لتناول الريف وابناءه في الدراما العراقية فلابد لنا من ان ندخل في تفاصيل هذا التناول ليتبين لنا ماهي العقلية التي تتعامل مع هذا التناول من خلال :
1 -البيئة : وهي المكان الذي تدور فيه الاحداث وتتحرك داخله الشخصيات وهذا المكان لابد وان يتطابق والازياء والمكياج والاكسسوارات المستعملة ومن ثم اللهجة ( الحوار ) . وعلى القائمين على صناعة العمل الدرامي ان يكون اختيارهم لهذه المفردات صائبا واكثرموائمة ليكون اكثر اقناعا وبالتالي نجاحا . ولا يختلط عليهم الامر في تقديم عمل ريفي تدور احداثه في بيئة زراعية او بدوية وبالعكس فان الكثير من الاعمال الدرامية العراقية التي تناولت هذه البيئة قد وقعت في هذا الاشكال فاخطا المخرج في اختيار المكان وراح يصور احداثا المفروض بها انها تحدث في منطقة ريفية وليست بساتين او كتبت على انها احداث لمزارعي البساتين صورت في منطقة ريفية او منطقة اهوار ونحن نعرف ان لكل واحدة من هذه الاماكن طبيعتها التي تختلف فيها الواحدة عن الاخرى في الكثير من التفاصيل وان التقت في العموميات .
2 - الازياء : وهي من الدلالات على بيئة الاحداث حتى ان اي شخصية تدخل المكان بازياء تختلف عن الشخصيات الاخرىفانهاستدل على بيئة تلك الشخصية . ولو ان ازياء الشخصيات في الريف تلتقي مع الشخصيات الاخرى من خلال الازياء لكنها ايضا تعطي دلالات الاختلاف من نوع او كيفية ارتداء اغطية الراس ( اليشماغ ) مثلا او نوع وكيفية الانطقة او غير ذلك والتي تدلنا على المكان . فالعقال او لفة اليشماغ او لونه كلها ادلة على هذه البيئة التي ينتمي اليها ولهذا فلابد لصانعي الدراما من ان ينتبهوا الى ذلك ويدققوا فيه لكي لا تؤخذ عليهم وهي ان كانت تمر على من لا يعرف ذلك فهي مكشوفة عند اهل الريف . فسكان البساتين غير سكان الاهوار والفلاحين يختلفون عن الاثنين مثلما هم سكان البدو في ما ذكرنا من نوع ولون وكيفية ارتداء الازياء .
3 - الاكسسوار: اما ما يدل على تلك البيئة فهي الاكسسوارات التي تتواجد في المكان او التي تستعملها الشخصيات . فمجرد ان تكون هنالك عجلة اسعاف متوقفة او شخص يحمل سماعة طبيب الا ان تقول ان هذا المكان هو مستشفى او ان هنا مريض على سبيل المثال اما في الريف فعليك ان تعرف البيئة من تركتر متوقفة او حمالات اشخاص لصعود النخيل او الة الفالة لصيد الاسماك او اي مدلول من هذا النوع لنعرف ان البيئة هي فلاحية او لمزارعين او صياين وغير ذلك لان الفلاح يستخدم المنجل الذي لا يستخدمه المزارع في البستان بل يستخدم السكين الكبيرة والفلاح بامكانه ان يمشي حافيا اثناء السقي او الحصاد والعمل بينما المزارع لا يستطيع الا ان يحتذي ليعمل في البستان وهكذا ينطبق على الكثير من المفردات التي يتعامل بها كل واحد وحسب البيئة والتي من خلالها نستدل عليها دون ان نحتاج الى من يشرح لنا ذلك او يفصل بها . وعليه فهي من الاهمية التي لابد من الانتباه اليها وعدم التغاضي عنها او اعتبار ذلك غير مهم او من الثانويات وهذا هو الخطا الجسيم لانه سيقطع الاتصال حتما بين العمل والمتلقي وهذا يشكل عامل اخفاق المفروض ان لا يقع وهو من مهمات العاملين في صناعة الدراما وواجباتهم .
4 - المكياج : الشكل العام والتفاصيل ايضا تدل على انتماء الشخصية للبيئة او لخلفية تلك الشخصية والتعرف على احد ابعادها المهمة فالرجل الملتحي له دلالته وايضا هنا تختلف نوع اللحية على سبيل المثال بين بيئة واخرى وبالامكان الاستدلال على المكان من خلال ذلك او على الخلفية التي جاءت منه تلك الشخصية مثل الوشم وغيره . وهذا الجانب من الجوانب المهمة في العملية الانتاجية لاعطاء المصداقية في التناول والاقناع في التتابع والمشاهدة وحتى لون البشرة ونوعية الحلاقة لابد لها من الدلالة وعليها ان تنسجم وتتوافق مع سكان المكان الا اذا كانت الشخصية عابرة على ذلك المكان كضيفة او مارة عليها في تعامل ما كزيارة او تجارة او غير ذلك وهي ايضا تعطي دلالتها للمكان الذي تنتمي اليه وبهذا فان المكياج يلعب دورا هاما في خلق عناصر الدراما الابداعية وتهياة الظروف الناجحة للعرض .
5 - الحوار : وهو من اهم مفردات العمل الدرامي والذي يدل بشكل واضح وجلي عن الانتماء للمكان والمكانة الاجتماعية او حتى الاقتصادية . ففي الريف مثلا يختلف من يرتدي دشداشة متواضعة وغطاء راس عن من يرتدي الصاية الجاسبي ( كما يسمونها ) والعباءة الفاخرة على ابسط الامثلة فلابد من ان يكون حوار الشخصية بمفردات واسلوب مختلفة ايضا وان كان هنالك ما هو عكس ذلك اذا كان مطلوب ذلك من خلال سير الاحداث والبناء الدرامي للشخصيات .
ويبقى الحوار العامل الاهم في الدلالة على بيئة الشخصية والتي لابد من تحديده
( 2 )
وبالتالي التعامل مع مفردات تلك البيئة ومنها البيئة الريفية التي غالبا ما تتداخل
لهجاتها ونوعية مفرداتها وحتى اسلوب الحوار او الالقاء فهذا مهم جدا في التعرف علية والتعامل معه على اكثر قدر ممكن وخاصة من قبل الممثلين وليس غريبا ان يكون هنالك مشرف للهجة مثلما يكون مشرفا لغويا او دراماتورك في الكثير من الاعمال الدرامية وهي ضرورة درامية ايضا وامانة يجب تحملها واعطاءها حقها لكي لا يقع العمل في خطا الفراغ بين الحدث والشخصية او بين الشخصية والبيئة وبالتالي يشكل عامل اخفاق شئنا ام ابينا وهو من ضرورات العمل الدرامي لان مفردات مزارعي البساتين مثلا غير مفردات فلاحي الارض وان تطابقت المفردات فان ادغام الحروف مثلا او جر البعض منها اوابدال احدها باخر او تقصيرها في الالقاء واضح من مكان الى مكان اخر ولا ادل على ذلك من الامثال والحكم التي تتعامل به هذه البيئة عن تلك اوطريقة القاءها على انتماء تلك الشخصية .
هذا وان اغلب الاعمال الدرامية التلفزيونية على وجه الخصوص والتي انتجت هذه الفترة لم ولا تتعامل مع ما تقدم فضاعت عليها وعلينا البيئة والانتماء العام ( المكان ) والخاص ( بعد الشخصية ) واختلطت بين الريف والمزرعة والبداوة والهور ولا ندري الاسس التي تبنى عليها عملية انتاج مثل هذه الاعمال واي المقومات التي يعتمدونها في عملية الكتابة ومن ثم التنفيذ وما هي واجبات كل مفصل من مفاصل الانتاج وما دراسته لذلك المفصل ونعلم ان كل ذلك لم يتحقق الا بسبب سرعة الانتاج تاليفا وتنفيذا واستسهالا للعملية وعدم الحرص على الانتاج علميا .
وبعد هذا فان عدم وجود جهة رادعة او على الاقل مراقبة وغياب القانون الذي يحاسب جعل هذا البعض يتمادى احيانا الى درجة كبيرة في الاساءة الى هذه الشريحة سائرين على خطا ما ارادته الحكومات السابقة في التهميش والاقصاء والمصيبة انه يتكرس على ايدي ابناء الجنوب انفسهم كتابا ومخرجين وممثلين والطامة الكبرى انهم يديرون الفضائيات بل والبلد والانكى من ذلك وانت ترى من يحتفي بهم من مسؤولين وسياسيين ولا من وقفة مراجعة تعيد لابناء الجنوب هيبتهم وترفع الحيف عنهم .
صباح رحيمة
كاتب ومخرج تلفزيوني
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1361 الخميس 01/04/2010)