آراء

اليمن .. وألف علامة إستفهام (؟)

محمد العباسيمنذ الحركة الحوثية الأخيرة وسيطرتها العارمة على أغلب الولايات والمحافظات والمدن اليمنية من أقصى شمالها حتى أطراف "عدن" في أقصى جنوبها.. ويدور في ذهني ألف سؤال وسؤال. هل باتت الدول العربية "هشة الأساسات" أمام الإعصار "الفارسي" دون رادع ولا حيطة ولا حتى توقع لما هو آت ؟؟ هل هنالك عجز مخابراتي تام عن التنبوء بما يدور خلف الكواليس الداخلية لليمن وبعض دول الجوار.. ولا من جهة رأت وإستنبطت وتوقعت حركة الأصابع الإخطبوطية بين وديان اليمن.. إلا بعد فوات الأوان؟

الحركة الحوثية أو حركة (الشباب المؤمن) أو كما عُرفت أيضا بإسم "أنصار الله" تشبهاً صريحاً بـ"حزب الله".. هي حركة سياسية دينية مسلحة تتخذ من صعدة في شمال اليمن مركزاً رئيسياً لها.. ومنذ اندلاع أول الحروب الستة بينها وبين الرئيس اليمني السابق "علي عبدالله صالح" وهنالك سؤال يدور في الأذهان: طالما الجهتان "زيديتان" من حيث المذهب، كيف لم تتفقا وكيف تكرر الصراع وتكالبت الحروب بينهما؟ والسؤال الأكبر بعد أ طفى على السطح وبعد تحليل التعاون بين الحوثيين و"صالح" (المخلوع حينها) هو: هل كانت تلك حروب حقيقية بينهما.. أم لم تكن أكثر من تمثيليات لابتزاز المال والسلاح والدعم من بعض دول الجوار، وبالذات من المملكة العربية السعودية؟

مثل هذا السيناريو لا يبدو مستبعداً ولا مستحيلاً، بالذات إذا علمنا أن "صالح" وأعوانه قد عملوا عقوداً من الزمن على تكديس كميات هائلة من الأسلحة والصواريخ والعتاد في الكهوف والجبال.. بينما من المفروض أن أغلب تلك الأسلحة قد تم استهلاكها في تلك الحروب المتكررة ضد الحوثيين من جانب وضد "القاعدة" من جانب !! وقد أقحمت "القاعدة" هنا حتى أثبت وجهة النظر هذه، لأن "صالح" كان يبتز "السعودية" و"الأمريكان" بدعوى محاربة القاعدة، بينما اكتشفنا مؤخراً أن "أحمد صالح" (ابن علي عبدالله صالح) كان يموّل القاعدة بالمال والعتاد.. من أجل ابتزاز العالم والحصول على المساعدات والدعم والثبوت في حكم والده وثبوته في السلطة من بعده! بذريعة لزومهما في محاربة بعبع "القاعدة". وهكذا نكتشف أن هنالك مليارات الدولارات في بنوك العالم مما لم ينفقها "صالح" في مواجهة "القاعدة" كما لم ينفقها في مواجهة "الحوثيين".. وبالتالي كان ينفق من أموال "السعودية" ضدها.. ويدفع بالحوثيين للتحرك شمالا نحو حدود السعودية كلما أراد المزيد من المال!! وببعض هذه المليارات كان حينها يشتري ذمم القادة العسكريين وشيوخ القبائل ويجعلهم جميعاً يدورون في فلك "آل صالح" ويدينون لهم بالولاء التام.

أما "القاعدة" فقد تم حصرها في الجنوب، لهدف بعيد المدى.. لتكون خنجراً في خاصرة الجنوبيين إن هم يوماً أرادوا التحرر من الشمال.. غير أن إبقائهم في ولايتي "شبوة" و"أبين" المطلتين على بحر العرب بالذات فقد كان لها أهداف أخرى أكثر "شيطانية".. فعبر هذا التواجد والتحكم كانت "القاعدة" معبراً لأكبر عمليات تهريب السلاح والعتاد وحتى المخدرات.. لمصلحة أتباع "صالح" ومنها كانت كميات من المخدرات تنتقل إلى الحدود السعودية.. مروراً بكل ولايات الشمال دون إعاقة.. بينما كانت الأسلحة تنتقل إلى "صعدة".. بتعاون تام بين قادة "القاعدة" القابعين في "إيران" وقادة "الحرس الثوري" الإيراني.. ضمن الخطة الفارسية وتواطؤ "صالح" و"قاعدة" اليمن و"الحوثيين" لإتمام المخلب الجنوبي للكماشة الطائفية الشمالية الممتدة من "قم" حتى الضاحية الجنوبية في "بيروت".

موقع "عدن تايم" يشير إلى هذه العلاقة بالقاعدة: "بدأت علاقة "صالح" بالقاعدة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، حين جند عناصر جهادية عادت من أفغانستان ضمن الجيش اليمني ومنحهم رتباً عسكرية، وتمكنت تلك العناصر من اغتيال أكثر من 150 مسؤول جنوبي عقب أشهر من توقيع اتفاقية وحدة هشة بين البلدين الجارين عدن وصنعاء.. واستخدم صالح القاعدة محلياً لتصفية خصومه وخارجياً لإخافة الغرب."

و قد سلّم الرئيس "صالح" محافظة "حضرموت" كبرى محافظات البلاد والأكثر مساحة في جنوب اليمن لعناصر تنظيم القاعدة.. التي يحركها هو، ويفسر مسؤولون في "حضرموت" في تصريحات بأن إسقاط "حضرموت" بيد العناصر القاعدية كان من أجل إيجاد منفذ بحري لتهريب السلاح عبر البحر.إلى الشمال.. ويقول المحلل السياسي "ماهر أبو طير" : "إن السلاح يتدفق على ما يبدو إلى اليمن بطرق مختلفة، فبرغم كل الضربات الجوية لمخازن الأسلحة والذخائر.. إلا أن الحوثيين وجماعات الرئيس صالح، ظلت تقاتل، ولا ينفد لديها لا السلاح ولا الذخيرة".

و يتوسع نطاق الاستغراب فيما كان يحدث في اليمن ليطال دور الرئيس اليمني الحالي "عبدربه منصور هادي" نفسه طوال الفترة السابقة لخلع "علي عبدالله صالح".. فقد تدرج "هادي" في مناصب القطاع الأمني في الجنوب ابتداء من درجة ضابط في جيش الجنوب العربي عام 1966 وحتى رتبة فريق عام 1997.. وبعد الاستقلال (1967) عُيِّن "هادي" قائداً لسرية مدرعات في قاعدة "العند" بالمحور الغربي لجنوب اليمن، ثم مديراً لمدرسة المدرعات، ثم أركان حرب سلاح المدرعات، ثم أركان حرب الكلية الحربية، ثم مديراً لدائرة تدريب القوات المسلحة.. ثم انتقل عام 1972 إلى محور الضالع، وعين نائباً ثم قائداً لمحور كرش، حتى صدر قرار بتعيينه وزيراً للدفاع، ثم عين نائباً للرئيس.. ثم بعد الإتحاد بين شطري اليمن انتخب "هادي" نائباً لرئيس "المؤتمر الشعبي العام" الحاكم وأميناً عاماً له في نوفمبر 2008.. وأخيراً شغل "هادي" منصب نائب الرئيس 1994-2011، وثم منصب القائم بأعمال الرئيس "علي عبد الله صالح" حين كان يخضع للعلاج في السعودية من إصابات لحقت به في حادث مسجد الرئاسة.. وفي نوفمبر 2011 أصبح رئيساً بالإنابة مرة أخرى قبل الانتخابات الرئاسية اليمنية 2012 التي خاضها "هادي" مرشحا للتوافق الوطني، وأجمع على اختياره حزب المؤتمر الشعبي العام وأحزاب تكتل اللقاء المشترك.

تاريخ الرئيس "عبدربه منصور هادي" غني بالمناصب والأدوار العسكرية بين معسكري اليمن الجنوبي ومن ثم الجمهورية اليمنية الموحدة.. ويبدو الأمر غريباً أن لا يكون على علم ودراية بما كان يخطط له المخلوع"صالح" طوال فترة رئاسته لليمن.. ولذا من غير المعقول أنه لم يكن يعلم بما كان يدور في الكواليس الخلفية من تخزين السلاح وشراء ولاءات وذمم قادة القواعد العسكرية في كافة أرجاء اليمن وبالذات في الجنوب!!

من أجل بعض الإنصاف في حقه لا بد أن نذكر هنا أن الرئيس "هادي" أجرى عملية هيكلة واسعة للجيش اليمني والأمن بإقالة العشرات من القادة العسكريين الموالين للرئيس المخلوع بعد الثورة على "صالح"، وأطاح بكبار القادة الموالين لثورة الشباب اليمنية، وقام بإعادة تنظيم وتوزيع الوحدات العسكرية والأمنية.. وقال: "إن إعادة بناء الجيش اليمني على أسس وطنية يكفل حياده وعدم دخوله في الصراعات السياسية".. كما عمل بعد توليه الرئاسة على تنفيذ اتفاقية مجلس التعاون الخليجي التي بموجبها تنحى "علي عبد الله صالح"، وكلف حكومته الجديدة بمعالجة مسائل العدالة الانتقالية، وإجراء حوار وطني شامل، وتمهيد الطريق لصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات عامة عام 2014.. لكن اضطر "هادي" لتقديم استقالته في 22 يناير 2015 بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء وخضع لإقامة جبرية في بيته بصنعاء فرضها عليه الحوثيون، غير أنه استطاع بـ"ترتيبات سرية" الإفلات من قبضتهم والتوجه إلى مدينة "عدن" في الجنوب يوم 20 فبراير 2015.

رغم هذا السرد المختصر لتاريخ "هادي" أميل لفكرة أن مناصب الرئيس "هادي" العسكرية والسياسية لم تكن قط مبنية على أسس قوية.. ولم يثبت "هادي" بعد بأنه رئيس ذو نفوذ أو ذو قدرات إدارية يمكنها أن تنتشل اليمن من قاعها.. بل يبدو جلياً أنه كان مغيباً عما كان يدور من حوله من مخططات شيطانية.. وتدخلات إيرانية.. وتسليح ممنهج للحوثيين وتهريب للعتاد.. وربما لهذا الضعف الملحوظ في شخصيته لجأ "صالح" حينها في ترشيحه خلفاً له كرئيس مؤقت.. وقد قال الفريق"ضاحي خلفان" في ذلك: "أنه رجل عادي ووضع اليمن غير عادي.. الرجل لا يملك فن العمل ولا فن الكلمة ولذلك فشل في المهمة" (موقع CNN بالعربية). فهل يمكن التعميم هنا بأن جل قادتنا العسكريين من أصحاب الأوسمة والألقاب يقعون في ذات الخانات الخاوية من القدرات القيادية بل وحتى العسكرية ؟؟

ماذا عن "تعز"؟.. لماذا تعطلت عملية تحرير هذه المحافظة بالذات رغم كل مآسيها وعذابات مواطنيها. حسب موقع (RT) : "منذ ما بعد تحرير عدن ولحج من سيطرة الحوثيين وقوات الرئيس السابق، توجهت الأنظار صوب تعز لأنها المحافظة المجاورة وطريق التقدم نحو مناطق الوسط وصولاً إلى صنعاء، لكن قوات التحالف غيرت خططها بدون مقدمات وقررت عدم مواصلة تقدمها إلى حين ترتيب الأوضاع في عدن ولحج على إثر الحضور القوي لعناصر القاعدة، وكانت دولة الإمارات اللاعب الرئيسي على الساحة اليمنية بعد السعودية الأكثر وضوحا في موقفها الرافض لأي معركة في تعز مادامت الجماعات المسلحة الموالية لتجمع الإصلاح الإسلامي هي الأكثر حضورا في المدينة."

و كما أسلفت في مقالة سابقة عن نمط التفاوض الفارسي فإن الرئيس المخلوع والحوثيين كانوا يستخدمون الأوضاع المأساوية في تعز والمعتقلين قسراً كورقتين في المفاوضات مع الجانب الحكومي وقد حصلا فعلاً على مكاسب سياسية من هذا الاستخدام بينما هم مستمرين في إرسال المزيد من التعزيزات المسلحة إلى المحافظة فيما يتجه التحالف نحو فتح جبهة جديدة في محافظة "حجة" بينما تُصّعد قوات الحكومة من هجماتها على مواقع الحوثيين و"صالح" في محافظة ريف صنعاء وأطراف محافظة مأرب بهدف تشتيت قوات هؤلاء مع استكمال تجهيز قوات الجيش الجديدة التي ستتولى معركة "تعز" بعد حين!

و في ظل التوجه الدولي نحو المزيد من المحادثات القادمة فإن المؤشرات تدل على أن "تعز" ستظل ورقة مساومة حيث يركز المبعوثين الدوليين على المزيد من الإجراءات "لبناء الثقة" التي قد تساعد في إنجاح الجولات المتعاقبة من المحادثات من خلال رفع الحصار عن المدينة وضمان الإفراج عن المعتقلين لدى الحوثيين.. في حين يستمر الحوثيين في المراوغة وينتهجون حتى النخاع الفلسفة الإيرانية في المفاوضات وإعطاء أنصاف الوعود والنكوث بها واللف والدوران في حلقات مفرغة.. ذات الفلسفة الإيرانية الهوى في "سوريا" أيضاً.. وذات الفلسفة التفاوضية التي انتهجتها إيران مع العالم حول الشأن النووي والصواريخ البعيدة المدى.. مجرد كلام وتلاعب بالكلمات وإغراق الحوارات في بحور من المد والجزر.. بلا خواتيم ولا ملامح لبلوغ الأهداف المرجوة، مع استمرار مسلسل الدم والدمار والتجويع والخطف والقتل والنهب!

و نظراً "لهلامية" المدد الزمنية المتبقية من كل المحادثات اليمنية فإن كافة العمليات العسكرية التي كانت تستعد لها الحكومة والتحالف لا يبدو أنها ستنجز خلال هذه المدة ما عجزت عن فعله خلال السنتين الماضيتين، هذا إذا استبعدنا التضاريس الصعبة التي ستدور فيها معركة تحرير "تعز" وحجم الضحايا الذين سيسقطون جراء معركة تحرير المدينة التي يقطنها اليوم مائة وخمسون ألفاً بعد أن نزح أكثر من نصف سكانها تقريباً.. وذات القصة تتكرر اليوم مع موضوع "الحديدة" والموانئ المطلة على البحر الأحمر.

إنها بلا شك ذات اللعبة الفارسية تتكرر في اليمن كما كانت تحدث في سوريا.. مضيعة للجهود والوقت.. ومزيد من المآسي التي يدفع ثمنها الأكبر شعب عربي بغض النظر عن الدين والمذهب.. وحوارات وتجاذبات ومجازر لا تتوقف رغم الإتفاق على أكثر من هدنة.. و"عاصفة الحزم" قد خبت في ظل الرغبة المتجددة في إيجاد حلول سلمية عبر المفاوضات العديمة والعقيمة التي ليس لها سقف!.. وستظل دول الخليج العربي تدفع الأثمان الباهظة من مال وعتاد وأرواح.. والعالم العربي من قمة إلى قمة.. ومزيد من قرارات الشجب والتنديد والإستهجان.. ودعوات الإستجداء الهشة لمن يريدون لنا الشر بالعدول عن مخططاتهم الأبدية للتوغل بين أضلاعنا.. بينما تلك الجهات تقولها صراحة في كل محفل.. أن لا رجعة عما يدبرون لنا في السر والعلن !!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم