آراء

هيلاري كلينتون: الربيع العربي صناعة أمريكية!

محمود محمد عليعندما جاءت إدارة الرئيس باراك أوباما في 2009م إلي سدة الحكم، انتهجت أسلوباً استراتيجياً مختلفاً، عما كان عليه "المحافظون الجدد" من ناحية تطبيق "القوة الذكية" (Smart Power)، التي كانت بمنزلة عامل مساعد لتطبيق القوة الناعمة، تجاه الشرق الأوسط، فكان من بين الأهداف الرئيسة للقوة الذكية،هي إنهاء عسكرة السياسة الخارجية، وإعادة الاعتبار للقوة الناعمة، وهذا ما صرح به وزير الدفاع السابق "روبرت غيس" Robert Gates، الذي دعا إلى "تكريس المزيد من المال والجهد لتنمية القوة الناعمة، وقد أشار أيضاً إلى أن المؤسسة العسكرية، وعلى الرغم من أنها تتمتع بقدرة هائلة، فيما يتعلق بالقوة العسكرية، إلا أن الركون إلى وزارة الدفاع بحجة قدرتها على تحقيق الأهداف، لابد من أن يشوه صورة السياسة الخارجية الأمريكية" .

لقد جعلت الحرب الأمريكية على العراق وأفغانستان والأوضاع الإقليمية الناتجة عنهما، المشاريع الأمريكية تبتعد عن القوة الصلبة لما تتطلبه من تكاليف ومبالغ باهظة، ترهق الاقتصاد الأمريكي المتعثر، والذي يعاني من ارتفاع المديونية، فاتجهت الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة أوباما إلى القوة الناعمة، التي ستمكنها من تنفيذ المخططات بالكامل، دون أي خسائر مادية ومعنوية، هذه السياسة تقترب كثيراً من الفكرة التي طرحها "ماكس ماردونيت" أستاذ البحوث الاستراتيجية العسكرية والمتخصص بالأمن القومي الأمريكي والعمليات العسكرية وغير العسكرية عندما يقول :"لم نعد نرسل قوات نظامية خارج الحدود، هدفنا هو التحكم والوصول إلى نقطة التأثير في عدونا بما نطلق عليه (زعزعة الاستقرار)، بهدف إنهاك وتآكل إرادة الدولة المستهدفة ببطء، وأن الهدف الحقيقي هو أن ترغم عدوك على تنفيذ إرادتك". وفي موضع أخر يقول :" تُخترق الدولة من خلال إقليم لا تتحكم فيه (إقليم غير محكوم) أو إقليم محكوم، لكن ليس دولة، بل من مجموعات غير تابعة للدولة، محاربة وعنيفة، وبهذا تخلق دولة فاشلة، ثم تستطيع أن تتدخل فيها، بل ويمكن، أن تذهب لأبعد من ذلك، أن تظل الدولة موجودة لكن يرعاها طرف أخر".

وبسياسة تقترب كثيراً من مضمون ما جاء به "ماكس مارونيت"، عمدت الولايات المتحدة، وخصوصاً بعد احتلالها للعراق، إلى إتباع مختلف السبل لتغيير الأنظمة عبر تحريك الشارع، من خلال وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني من أجل التأثير على الرأي العام، وقامت ضمن هذا الجانب أيضاً بإعداد الدورات والتدريبات داخل الولايات المتحدة وخارجها للشباب المتطوع، من خلال منظمات المجتمع المدني، فبادرت الولايات المتحدة الأمريكية بتسخير نخبة من المستشارين من كلاً الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) للبحث في موضوع الدبلوماسية العامة في البيت الأبيض، وإنشاء مكتبات، ومراكز معلومات، وسعت إلى ترجمة المزيد من الكتب الغربية إلى اللغة العربية، وعملت على زيادة المنح الدراسية والزيارات، وتدريب المزيد من الناطقين بالعربية والمتخصصين بالعلاقات العامة.

وضمن هذا السياق قامت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات بالولايات المتحدة بتوزيع منشورات، تعلن من خلالها عن منح للطلاب الجامعيين "المهتمين بمحاربة التهديد الإرهابي للديمقراطية"، ويتم ذلك من خلال عقد حلقات دراسية وتدريبية، يتم تدريب الطلبة فيها على كيفية قيادة الاحتجاجات، والمشاركة في الأحداث التي تروج للديمقراطية، والحرية، وتوسيع المشاركة السياسية، والمطالبة بالتغيير والإصلاح، كما تسعى المؤسسة إلى جلب الخبراء والمسئولين إلى الجامعات لإلقاء المحاضرات التي تشجع الطالب على المطالبة بالتغيير والديمقراطية.

كما عملت الولايات المتحدة الأمريكية على "استغلال الأوضاع الداخلية في الدول العربية ووظفتها من أجل إنجاح مشاريعها في المنطقة، فبدأت بصرف الملايين من الدولارات على برامج الحرية وإصلاح التعليم ودورات تنمية مهارات الشباب وتدريبهم" .

إن من أهم الأساليب التي اتبعتها الولايات المتحدة في تحريك الاحتجاجات، هو مساندتها لشريحة واسعة من الشباب العربي من خلال تدريبهم على مفاهيم الديمقراطية، بهدف استثمار هؤلاء الشباب الذين وجدوا في السياسة الأمريكية الناعمة ما فقدوه في الأنظمة المتحجرة في بلادهم والدفع بهم لتغييرها، حيث استغلت الولايات المتحدة الأمريكية شوق الشعوب العربية إلى الحرية، ورغبتها في التخلص من الفساد والدكتاتورية، والأوضاع السيئة التي تعيشها، لذلك شرعت بالعمل منذ عام 2008م مع عدد من المنظمات المدنية من أجل تنظيم الجهود الشعبية للمعارضة، وتم دعوة العديد من الناشطين إلى دورات تدريب، تحت مسميات حقوق الإنسان والتثقيف المدني للعمل السلمي وغيرها، "وهذا ما أكدته صحيفة "الديلي تلغراف" The Daily Telegraph وجود ثمة نماذج من أنظمة سياسية عربية كانت قد صاغتها هذه التوجهات وأدت إلى تفكيكها وهي (ليبيا ومصر)" .

وهنا جاءت وزيرة الخارجية الأمريكية "هيلاري كلينتون " Hillary Clinton، في عهد الرئيس "باراك أوباما"، لتعلن  في حفل تسليم جوائز المعهد الوطني الديمقراطي، الذي افتتح منذ 2010م فروعاً له في عدد من المدن العربية إن " قادة المعهد كانوا يحولون الشتاء العربي إلى ربيع في الوقت الذي كانت الشوارع العربية هادئة وصامتة "، وأضافت " الربيع العربي ليس ثورتنا، ولكن كان لنا دور فيه" وتابعت تقول " لقد أنذرنا الحكومات العربية قبل حدوث الربيع العربي في مؤتمر الدول الثماني G8 الذي عقد في الدوحة أواخر عام 2010 م، بأن أسس المنطقة تغرق في الرمال، وأنه لا بد من الإصلاح والديمقراطية"، وتطرقت لمخاطر العملية"، لا يمكننا تفويت فرصة الاستثمار في الديمقراطيات الناشئة في العالم العربي، رغم وجود مخاطر واحتمالات، لأن تحدث أمور صائبة أو خاطئة، والولايات المتحدة الأمريكية، لها مصلحة وطنية فعليه بتغيير الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لأن معادلة التطور، أو الاستقرار التي فرضتها الأنظمة الديكتاتورية، وقبلتها سابقاً الولايات المتحدة، تحولت اليوم إلى معادلة الإصلاح أو الاضطرابات.

ومنذ ذلك الوقت بدأ الحديث عن مفردة الربيع العربي تكون حديث الصباح والمساء في الدراسات والمقالات الأمريكية، حيث نشرت مؤسسة راند Rand البحثية التابعة للبنتاجون عام 2012م، "دراسة مكونة من "250 صفحة "تحت عنوان" آفاق الديمقراطية في العالم العربي "Prospects for democratic transformation in the Arab world، أعدها الباحث الأمريكي الشهير " لوريل ميللر " Laurel Miller و6 باحثين آخرين أكثرت من استعمال مفردة " الربيع العربي" وربطته بــ" التحولات الديمقراطية العالمية " وحللت الأسباب الأمريكية لدعمه".

في هذه الدراسة تم التعامل مع الحراك العربي منذ 2011 م، على أنه يمثل "عملية تشتمل على مجموعة من الأنشطة المتفاعلة أو المترابطة، التي تحول المدخلات إلي مخرجات". والعملية ترتبط بالضرورة بمشروع، وتشكل إحدي عملياته، فلها بداية ولها نهاية، ولها استراتيجيات، ولها أدوات وبرامج ومراحل، وأهداف وسياسات وجهات للتنسيق والتمويل وإدارة الموارد، ولا بد من مدخلات تفضي بعد توظيفها إلي مخرجات" .

أما مدخلات (Inputs) " الربيع العربي" في تصور هيلاري كلينتون، فهي وفق الآتي :

1- وضع التصور السياسي للمرحلة الانتقالية العربية وقد أنجز في 21/1/2010 قبل سنة من الثورات مع انتهاء معهد السلام الأمريكي من مشروع " دعم الأمن والديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير"، بمشاركة عدد من الخبراء العرب.

2- الانتهاء من تدريب آلاف الناشطين العرب، وتبليغهم في مؤتمر سري بقرب بدء المرحلة الانتقالية، وذلك في شهر سبتمبر من عام 2010م (قبل شهرين من الثورات).

3- تسخين الأرضية السياسية العربية، وتحضير مزاج الرأي العام العربي، لتقبل هذه العملية، من خلال نشر وثائق ويكيليكس  WikiLeaks، عن فساد ودكتاريورية الأنظمة العربية، وتم ذلك في شهر ديسمبر من عام 2010 م ( قبل الثورات العربية بشهر).

4- دفع الناس والمعارضات العربية للنزول إلى الشوارع، لاحتلال الميادين العامة، وكان أول من تحرك في الشوارع العربية، القوي، والمنظمات الشبابية، والليبرالية المدربة أمريكياً، وتمت الاستفادة من حادثة إحراق الشاب "محمد البوعزيزي" في تونس (وهي ليست أول حادثة من نوعها، تتكرر شهرياً في تونس)، وحادثة ضرب الشاب "خالد سعيد" في مصر، (وهي ليست أول حادثة من نوعها تتكرر شهرياً في مصر) وغيرها من الحوادث الرمزية.

5- بدء نزع الشرعية عن الأنظمة العربية، ودفع رؤساء وقادة النظم العربية، للتنحي وتسليم السلطة، عبر حياد الجيوش العربية والانشقاق الضمني، لبعض قادة أركان الجيوش العربية من جهة وبإيعاز أمريكي أكيد.

6- وقف العمل بقوانين الطوارئ، وحل وزارات الداخلية، والشرطة، وتسليم دفة الملف الأمني للجيوش.

7- تعيين مجالس الحكومة الانتقالية، لإدارة البلاد وتحضير المرحلة الانتقالية.

8- المباشرة بتغيير الدساتير العربية عبر المجالس التأسيسية .

وأما عن مخرجات العملية outputs " الربيع العربي في تصور هيلاري كلينتون، فهي أيضاَ وفق الآتي:

أ- إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية وإفراز مجموعة من القوي الجديدة متحالفة مع الإدارة الأمريكية.

ب- تطبيق العدالة الانتقالية Transitional Justice في محاسبة قادة ورجالات الأنظمة السابقة، برفع دعاوي قضائية لإدانة وتجريم قادة ورموز المرحلة السابقة وتجريدهم من أموالهم.

ج- بدء الانتقال إلى منظومة إقليمية جديدة تضم نظماً عربية جديدة تتجاوز النظم السابقة شكلاً لا مضموناً، وتحافظ على المصالح الأمريكية والغربية والصهيونية.

وقد يتساءل البعض لماذا تعاملت هيلاري كلينتون مع الربيع العربي على أنه يمثل عملية أو صناعة أمريكية وليس ثورة؟، وذلك لعدة أسباب منها  :

1- أن العملية تستبطن مشروعاً له استراتيجيات وأدوات تنفيذية.

2- تحضير مسرح الأحداث والأدوات التنفيذية لإنجاز العملية لخدمة المشروع.

3- إدارة العملية قبل وأثناء وبعد حدوثها مع قدر كبير من التحكم والسيطرة.

4- أن السياق الدلالي لمفردة " عملية" كشفت لنا بالأدلة والوثائق كيف أن الإدارة الأمريكية توقعت هذه الثورات وسعت لإدارة أدواتها على الأرض قبل حدوث العملية.

وبذلك يمكن القول بأن "الربيع العربي صناعة أمريكية، انطلقت بمساعدة قطرية تم تنفيذها فعليا علي الأرض من خلال قضية زلزلة عقول الشباب العربي التي انطلقت من خلال مشروعين: الأول: مشروع النهضة عند جاسم سلطان، وهو مشروع يدعو إلي استنفار الشباب العربي نحو التظاهر والاحتجاجات والعصيان المدني. المشروع الثاني: أكاديمية التغيير القطرية، وهي أكاديمية قام بتأسيسها "هشام مرسي"، زوج ابنة الشيخ "يوسف القرضاوي"، مفتي جماعة الإخوان المسلمين، ويأتي أهمية اختيار هشام مرسي، لكونه المنفذ لما ينظر له ويضعه جاسم سلطان، من خطوط فكرية ومنهج للتغيير والنهضة، وبذلك حدث الاندماج الفكري والأيديولوجي الإسلامي بين "هشام مرسي" وإدارته لأكاديمية التغيير من جهة، وبين المشروع النهضوي لجاسم سلطان من جهة أخري. وبذلك يمكننا كما يقول قال الباحث "عمرو عمار" في كتابه " الاحتلال المدنى أسرار 25 يناير والمارينز الأمريكى" يمثل رؤية أن مشروع النهضة يمثل المٌنظر والمرجعية لأكاديمية التغيير، وكلاهما يكمل الآخر في مسيرة تحريك الشباب ودفعهم للتغيير والاحتجاج؛ وحيث يستلزم مشروع النهضة هذا قيادات مدربة، فقد أعلنت أكاديمية التغيير علي موقعها الإلكتروني، أن الأكاديمية تتبني وتدير نظام تدريب "أون لا ين" لبرنامج إعداد قادة النهضة. ولذلك يحاول كلا المشروعين تفتيت ثوابت الأنظمة العربية، ولعل أهمها نقده لما يسميه سلسلة الخديعات في الاستقرار، الثقة، الرموز، الصورة التاريخية، والتضحية، وهو ما يزيل لدينا علامات الاندهاش من كذب وتضليل جماعة الإخوان المسلمين في تصريحاتهم المشككة والمزيفة في كل وسائل الإعلام بعد أحداث 25 يناير 2011".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم