آراء

الوحدة المغاربية وضرورة تجديد الخطاب السياسي

احمد شحيمطالعودة للوراء للزمن الذي لاحت فيه الفكرة التي تعني تحقيق الوحدة المغاربية بين دول يجمعها التاريخ والجغرافيا والقيم المشتركة، عودة بالذاكرة للتذكير بالنوايا والغايات في ميلاد فكرة من صميم الواقع وقناعات المفكرين وبعض النخب السياسية في مغرب كبير يتسع لأبنائه. تلك اللحظة التأسيسية التي داعبت فيها الدول امالا وتطلعات نحو التكامل والاندماج وتبادل المنافع والخيرات، حتى فهمنا نضج السياسة وسعة افق السياسي في تفضيل ارادة الشعوب والامتثال للمصالح المشتركة، وبداية طي صفحات من الماضي الذي لم يكن قاسيا أو مأساويا كالذي عاشته دول مثل فرنسا والمانيا في الحرب العالمية الاولى والثانية وحروب نابليون بونابرت، فكانت رغبة الغرب في العبور نحو الوحدة افضل من اللعب على شد العناد وفرض شروط وتوصيات لا تصب في مصلحة الشعوب، ولا في رؤية الناس للمستقبل القريب والبعيد، وحتى في ظل الاختلاف الأيديولوجي وما يتعلق بتوجهات الدول المغاربية وسياستها الخارجية يبقى الامر بيد الجماهير الواسعة نحو تكسير الجليد وازالة الحدود المصطنعة، عوائق وحواجز تحيل دون تفعيل مقتضيات واهداف معاهدة انشاء الاتحاد المغاربي في 1989 بمراكش بين قادة الدول الخمسة، ومنها العمل على تحقيق الاهداف القريبة المدى، من تنقل الناس والسلع ورؤوس الاموال وتوثيق اواصر الاخوة وعدم الاعتداء وتحقيق السلام وانتهاج سياسة مشتركة في كل الميادين، ومن الاهداف البعيدة المدى تحقيق الرفاهية والتقدم والاندماج والدفاع المشترك ومنافسة التكتلات الكبرى، فكانت الاهداف والغايات مشمولة بالتعهد على مواصلة العمل وتفعيل البنود والتوصيات وانشاء مؤسسات ولجن ومجالس ضامنة لهذه العهود، وبالفعل استشعرت الشعوب خيرا في الوحدة المغاربية لهذا المغرب الكبير الغني بالموارد والطاقات البشرية والكفاءات في عدة ميادين، ولم تكن الاصوات المشككة في نجاعة الاتفاق والارادة العامة في تشكيل هذا الاطار لولا النتائج الهزيلة على المستوى السياسي والاقتصادي، وهزالة الاتفاق في جانبه الاجتماعي، وعندما نبحث في الاسباب والعوائق نعثر على بعض منها في العوامل الداخلية والخارجية، ومنها ملف الصحراء المغربية العالق بين الجزائر والمغرب، بين السيادة واقتراح الحكم الذاتي كخيار اخير بالنسبة للمغرب واعتبار الجزائر الصحراء تصفية الاستعمار والحل بيد الامم المتحدة وتحييد سياستها عن كل اتهام، وتلك مغالطة واضحة في خطاب قادة الجزائر بين القول والفعل، وبالأحرى على الجزائر تدعيم كل القوى الراغبة في الانفصال من اسبانيا الى الشيشان، والعودة للمرحلة الاولى من الاتفاق، هناك حسن الجوار والاخوة وعدم الاعتداء، ولأجل تهدئة الصراع والتقليل من العداء والازمة، يوجه المغرب خطابه للجزائر لإعادة النظر في الدعم السخي للبوليساريو وتغليب المصلحة والروابط التاريخية، هكذا تبدو الاسباب الواضحة من قبل اغلب المحللين للشؤون المغاربية. فالإصلاحات المستعجلة للنظم السياسية وخواطر السياسي كفيلة بالتفعيل للقرارات والزام الفاعل بالإنصات للشعوب،هذه الخواطر شلت الوحدة لمدة تزيد عن عشرين سنة من الشد والجذب، واقوال واتهامات وتصلب في المواقف والقرارات الاحادية، ناهيك عن رغبة الاتحاد الاوربي في شل الوحدة لأسباب تتعلق بالمصالح الحيوية والخوف على نهايتها عند الاندماج الكامل خصوصا من فرنسا، فهل يعقل ان تكون المؤامرة سببا في اخفاق الوحدة المغاربية أم في الامر مبالغة وزيادة في تنصل الدول من المسؤولية التاريخية؟

لم تولد رابطة "الأسيان" من اجل تهديد اقتصاديات كل من امريكا وبريطانيا، أو تشكل تهديدا في التعامل مع اليابان واستراليا، بل ولدت من الحاجة الى تكتل يحمي اقتصاديات هذه الدول ويقوي من المنافسة، ويخلق توازنا بين القوى الصاعدة والنامية والقوى العالمية الكبرى، ويفرض هذا التكتل على تلك الدول اصلاحات هيكلية في الادارة والنظم السياسية وفلسفة حقوق الانسان، وتحييد الانظمة العسكرية والحكم الشمولي حتى يتسنى للشعوب التعبير عن ارادتها، فحلم القارة الافريقية في الوحدة النقدية والتكتل لدول غرب افريقيا لإزالة العملات الاجنبية واستقلالية هذه الدول في قرارها السيادي على الخيرات وارغام الاخر على قبول شراكة متوازنة، طموح يوازيه جهد حثيث في عملية الانتقال الديمقراطي وتصفية الحساب مع نظام الحكم العسكري، عملة "الايكو" بديلا عن الفرنك الافريقي الذي يجسد الهيمنة الفرنسية على اقتصاد دول غرب افريقيا . نماذج من التكتلات الساعية نحو تسريع وتيرة التقدم والتخلص من بقايا الاستعمار السياسي والاقتصادي، وفي الوحدة المغاربية تبدو الارادة السياسية أقل نتيجة خطاب سياسي تقليدي غارق في المحاسبة وجلد الاخر، خطاب الحكومات المغاربية بين الامس واليوم لازال بعيدا عن تطلعات الشعوب في الوحدة والتكامل، بعيدا عن التوجهات التي تتغذى على التعنت والتصلب في المواقف والايديولوجية، من جنوح القذافي واستبداله القريب بالبعيد في الوحدة المغاربية والاصطفاف مع الافارقة ورغبته في بناء الاتحاد الافريقي، وتنصيب نفسه ملك ملوك افريقيا، والانقلاب العسكري في موريتانيا وتشكيك الرئيس في جدوى البقاء داخل الاتحاد المغاربي مع تشكيل اتحاد دول الساحل بهدف محاربة الجماعات المسلحة، وان هذا الاتحاد حلم ولد بعملية قيصرية ميتا ولا امل في تفعيله أو الرهان عليه مادامت الرؤى غير متقاربة والبون يزداد هوة وشساعة بين دوله، ومن بين مؤشرات هذا البعد فتور العلاقة بين الرباط ونواكشوط، اضافة للمواقف السياسية للجزائر من ملف الصحراء المغربية والتي يعتبرها المغرب من الخطوط الحمراء، وضمن السيادة والوحدة الكاملة على ترابه الوطني، وما فتئ الخطاب السياسي الجزائري يعيد انتاج ذاته باستمرار للمعاكسة والدعم السخي للطرف المناوئ، وهكذا نلمس تكرار الخطاب السياسي من هواري بومدين الى الرئيس الحالي الذي اعتقد البعض بكونه حاملا لأفكار جديدة، وتعهد بهتافات ومطالب الحراك الشعبي الذي نادى بالإصلاح والاخوة، وتمكين الشعب من السيادة على القرار دون العودة للخطاب السالف والزيادة في جرعة التصلب . في خطاب الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون اكد أن الحدود ممكن فتحها، وازالتها رهين باعتذار المغرب عن اتهام الجزائر بالأحداث التي وقعت في مراكش 1994، وغلق الحدود وفرض التأشيرة على الجزائريين القادمين من فرنسا، واجراءات امنية مشددة، هذا التذكير بأحداث تاريخية يدمر علاقات تجارية واقتصادية ولا ينعش واقع الحال للشعبين. لو كانت المواقف المتشددة تؤسس للعلاقات الانسانية لكانت الدول الغربية الان في خصومات لا متناهية بل العكس وضعت هذه الشعوب الامور في طبيعتها لأجل ارادة الشعوب الاقوى، وانتهت بميلاد الاتحاد الاوروبي . بعد وضع اللبنات الاساسية في الوحدة المغاربية لازالت النتائج هزيلة في تقوية وشائج العلاقات الانسانية والاقتصادية، اجتماعات ومجالس بدون قوة في تفعيل التوصيات والقرارات، كما بقي الخطاب السياسي يراوح ذاته في التنصل من الاتفاقات وتحميل المسؤولية لأطراف بذاتها، ملف الصحراء وتوتر العلاقات مع موريتانيا وانحياز ليبيا للقضايا الإفريقية وتوجيه السياسة والاهتمام نحو تشكيل وحدة افريقية اوسع، وعودة المغرب للاتحاد الافريقي وانسداد العلاقة بين المغرب والجزائر وجمود الخطاب السياسي من الاسباب التي تعرقل الوحدة، بل الرهان عليها بمثابة حلم ضائع في كواليس السياسة ومرامي السياسي الضيقة في عدم الانصات لصوت الشعوب في وحدة اقتصادية وتجارة فاعلة وتنقل الناس بحرية، مصلحة الناس في الاوطان المغاربية تنقل الرساميل واليد العاملة وارساء ثقافة للتعاون وتبادل الخبرات، ولا اعتقد ان الغرب واطراف خارجية سببا في تقويض الوحدة وهدم نتائجها بل هناك من يعترف ان الوحدة المغاربية فكرة جيدة ولدت ميتة، وانها تحتاج الى اسباب موجودة في الاصلاحات السياسية وارادة تفعيل القوانين المنظمة للاتحاد، موجودة في الوعي السياسي والقوة المجتمعية التي تعني الارادة العامة وارغام السياسي في الامتثال لمنطق المنفعة . بعد الربيع العربي والحراك الشعبي اصبحت الحاجة ملحة في تغيير الخطاب السياسي المغاربي، ونهج سياسة الاصلاح وفتح الحدود لانتعاش اقتصادي افضل من الزيادة في الخسائر وهدر الطاقات بسياسة منغلقة لا ينتج عنها الا الازمة الاجتماعية الخانقة في كل البلدان، علما ان موارد البلدان المغاربية غنية بالمعادن والثروة البحرية والبلدان غنية كذلك بالخبرات والكفاءات التي تهاجر اوطانها الى بلدان بعيدة، وادركنا من زمن بعيد ان الخطاب السياسي المغاربي لم يساهم في تقليص الهوة بين الزعماء بل خلق توترات وصراعات انعكست سلبا على شعوبها فهل يعقل ان يعود الرئيس الجزائري المنتخب الى الماضي البعيد لأجل ارغام المغرب على الاعتذار؟

هذا النوع من الخطاب لا يقوي من فرص الالتقاء وترميم المشكلات الداخلية، ويزيد في عمر الاحتقان ويعطل الاندماج والتكامل، ولو احتكم الرؤساء لإرادة الشعوب لكانت الوحدة مأمولة من مدة طويلة، وما يعقد الامور تلك الحسابات الضيقة والارث السياسي والايديولوجي للأنظمة المتعاقبة، وما يتعلق بالريادة والزعامة، غياب الاصلاحات الجوهرية كقاعدة صلبة في التنمية الداخلية، وفي الزام الدول المغاربية بعهود بعيدا عن التحريض أو مناصرة اطراف ضد المصالح الحيوية واستقرار الاوطان، في ليبيا الان صراعات على السلطة وحوار مستمر في ايجاد الحل المناسب الذي يرضي الاطراف، ويقيم مجتمع مدنيا جديدا على التداول السلمي للسلطة ومرونة العملية السياسية، اهداف عملية وغايات نبيلة تفتح امكانيات اخرى للخطاب السياسي في العودة للبدايات الاولى من تأسيس الاتحاد المغاربي في مراكش، وحتى تكون القضايا المشروعة محفوظة والسيادة مصانة هناك ضرورة ملحة في تشخيص الاسباب ولا مناص من تجديد الخطاب السياسي حتى لا يستمد من الاهواء الشخصية للحاكم، ولا من الاهداف الضيقة والحسابات الجوفاء، وان يكون التكتل من مبدأ قراءة بعيدة المدى في المستقبل.

***

بقلم: أحمد شحيمط كاتب من المغرب 

 

في المثقف اليوم